القاضي والناقد.. والقارئ النجيب

*إبراهيم نصر الله

أثارت مقالتي (خفة الناقد التي لا تحتمل) المنشورة في هذه الزاوية قبل أسبوعين، ما لم أكن أتوقعه، رغم كونها مقالة حول قضية أدبية، لا قضية سياسية عامة؛ ولم تكن ردود فعل القراء والنقاد عابرة، فقد كانت هناك تعليقات كثيرة من القراء، وكذلك استجابات حادة، أو مؤيدة، من بعض النقاد.
لم يكن ما أثرته قائماً على انطباع سريع، تشكَّل، أو خاطرة عابرة يمكن الاتكاء عليها لكتابة بعض المقالات، فالمسألة في ظني باتت قضية، وإذا كانت بعض الملاحظات التي وردت في المقال تشير إلى تهافت نقدي تُدركُ أخطاؤه، وأحياناً خطاياه، فإن الجانب الآخر بمثابة حُرقة حقيقية، وحزن كبير، على ما آل إليه حال بعض النقاد حين تخلّوا عن ضميرهم العلمي، وباتوا يحبّرون آراءهم، ولا أقول دراساتهم، مدفوعين بالعلاقات الشخصية البحتة، والنفعية، وتصفية الحسابات، بل وكتابة الكتب، وليس المقالات فحسب، حول أعمال الكاتب الذي يدفع، سواء نقداً، أو خدمات هي في النهاية شكل من أشكال السيولة النقدية.
لا يَحزن المرء على نويقد، كما يقال: شويعر، بل يحزن بعمق على ناقد، كان، أو كان يمكن أن يكون جزءاً من الضمير العام، في تأثيره، ثقافياً وتنويرياً، ووطنياً، والأمر لا يختلف هنا عن انتقال كاتب نفخر به وبأعماله، من خانة البشر إلى خانة السلطة، ساحقةِ البشر؛ وكذلك الأمر يتعلق بالناقد الذي ينتقل من البصيرة إلى العمى، ومن المبدأ إلى السوق، ومن الموقف الواضح إلى الارتهان. وقد ساهم كثير من النقد في خلخلة تلقي القارئ لفترة ليست بالقصيرة، لكن الزمان الذي يرفض السكون، بما فيه من حركة، جعل الرأي النقدي، أيّ رأيٍ نقديٍّ، عرضة للمساءلة، والحوار، القبول به أو رفضه، أو حتى السخرية منه. لقد تغير القارئ، ولم يعد المنبر حكرًا على الناقد، وله، فلكل قارئ منابره اليوم، ويستطيع أن يكتب فيها ما يريد، بعيداً عن منابر تحكّمت فيها الشلل، وتحكّمت فيها سلطة النقد وبنَت فيها استحكاماتها وربضت وراءها قانصة من تشاء!
لقد مرّ الزمن الذي كان فيه النقاد يصدرون أحكامهم غير القابلة للاستئناف، فكل قارئ نجيب، لكِتابٍ ما، يستطيع اليوم أن يستأنف، وأن يحاجج، وأن يدحض، وأن يرفض ويتمرد، وأن يشكك.
في المحاكم العسكرية الميدانية وحدها، تصدر أحكام الإعدام غير القابلة للنقض، أو أحكام البراءة، رغم أن هذه المحاكم، يأتي زمان آخر وتُحاكم فيه.
.. ويُصدر القضاةُ أحكامَهم، ونحترمها، ما دامت نزيهة مُنزهة، أما حين تكون قائمة على الفساد، المالي أو الاجتماعي، أو السلطوي، فإننا لا نملك إلا أن نكون ضدها، وكذلك بعض الآراء النقدية، التي لن تكون أقل من سخرية سوداء، حين نقرأها اليوم، ومستقبلاً، ونرى أن الكِتاب الذي شَنّ عليه هذا الناقد أو ذاك غاراته، لتدميره، سواء بالمقالات أو بقرارات التحكيم، أو التجاهل، هو كتاب حيّ؛ فليس ثمة ما يمكن أن يدينك ككاتب أكثر من كلماتك التي تكتبها بقلمك.
قبل عامين وقفتْ سيدة في قاعة واسعة، تم فيها إعلان قائمة الكتب المرشحة للفوز بإحدى الجوائز الكبيرة، وقالت: كنت أشتري في السابق، ومعي عضوات نادي القارئات الذي يضمنا، كلَّ كتاب يفوز بجائزة أو يقترب من الفوز بها، لكننا لم نعد نفعل ذلك، لأننا لم نعد نعثر في معظم هذه الكتب، إلا على خيبة الأمل.
لا أحد يريد أن نصل إلى ذلك.
رأي هذه السيدة، لا يتعلق بها وحدها، بل بآلاف القراء الذين باتوا يظنون أن أفضل طريقة للوصول إلى كتاب جيد، هي ألا يكون هذا الكتاب قد فاز بجائزة! بدون أن نتجاهل هنا أن هناك كثيرين أيضاً، لا يقتنعون بكلام الفريق الأول تماماً، كما أن هناك فريقاً تُعفيه هذه الأحكام النقدية، فيما يتعلق بالجوائز أو المقالات، من عناء البحث عن الكتب التي يمكن أن يشتريها، لأنها تقدم له حصاد المطابع على طبق، من دون أن يضطر للبحث. لكن الأنماط الثلاثة، السالفة، من القراء، باتت تشكك في الأمر، وإن بدرجات مختلفة.
لقد غدا القارئ واعياً وطليقاً وهو يختار ويحدد موقفه، في حين فقد الناقد، كما أي كاتب، سلطته المطلقة، فحيثما ارتفع منسوب الوعي، انخفض بالضرورة منسوب القبول بالتلقين، وارتفع منسوب رفض اختراع يقين زائف، مهما كان حجم الشخص الذي يصدر عنه هذا اليقين، وأصبح القارئ مثل ذلك الطفل الذي هتف ذات يوم بدون خوف: إنني أرى الملك عارياً.
لقد عانينا، في عالمنا العربي، من سياسيين دفعوا الناس للتخلّي عن السياسة، والخوف منها، واحتقارها، والسخرية من كثير من رموزها، لكن الناس وهم يفعلون ذلك، شقوا طرقهم وابتكروا ثوراتهم تاركين السياسيين خلفهم، وبهذا تضاءل دور النّخب وانكمشت صورهم، ولم يعد منهم من يستطيع القول إنه قادر على تحريك الرأي العام! وإذا كان الفساد وعدم قراءة الواقع والغرور والتعالي، والحسّ الزائف بأن هناك عقولاً دُنيا تُقاد، وعبقرية تقود، قد أوصلتنا إلى هذا الترهل العام سياسياً، بحيث فسُدت حياتنا السياسية، فإن بعض النقاد يصرّون على استعارة دوْر هذا النمط من السياسيين، وأدائه، لتخريب ما بقي لنا من حصون، ألا وهو حصن الثقافة، كما سمّاها الكبير عبد الرحمن منيف ذات يوم، وهم يقومون بالترويج لما هو مضاد للكتابة ومحاولة قتْل ما يستحق الحياة، وفي ظني أن هؤلاء يلعبون دور حصان طروادة، ولذا لا يقف المرء ضدهم، لأنهم يضللون القارئ بقراءاتهم وأحكامهم، تجاه هذا الكتاب أو ذاك، بل لأنهم يدمرون الثقافة، ويدمرون الثقة بدور طليعة ثقافية يتطلع البشر إليها، لكي تأخذ مكانها خارج ظل السقوط السياسي، وخارج الميوعة السياسية.
.. ولكن، هل هناك بارقة أمل في أن الثقافة لن تصل إلى ما وصلت إليه السياسة؟ بالتأكيد، فهناك نهوض كبير في حركة القراءة، لا ينكره سوى اثنين: شخص لا يقرأ، أو ناشر لص! وهذا النهوض، هو ما يُحتِّم على كل كاتب وناقد وصحافي…، أن يفكر طويلاً قبل أن يكتب، وقبل أن يدفع بكتابه أو مقاله إلى النشر، لأنه لم يعد القاضي الذي يُصدر الأحكام، بل الفرد الذي تحدق فيه عشرات الآلاف من العيون المشرعة على اتساعها والعقول المزدهرة بذائقتها الرفيعة.
________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *