رسائل الخلاص الجمالي

خاص- ثقافات

*ممدوح رزق

 

هناك العديد من الأفكار الأولية التي يمكن أن تُخلق في أذهاننا أثناء قراءة مجموعة (مزيد من كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق) لـ (حازم عزت) .. أن هذه القصص تقودها إدانة للماضي البشري الذي تحكمه الحروب الاستغلالية والصراعات القاتلة منذ بدايته .. الحروب التي تتخذ ظاهرياً شكل النزاع بين ما يُسمى بالخير والشر في حين أنها في حقيقتها شقاء كامل .. هذه الإدانة لديها تصور ما عن أنه كان من الممكن أن يمتلك الوجود الإنساني ذاكرة بديلة لو تحرر من أي سلطة تفرض خوض الصراعات من أجلها .. الحضور خارج هذه الحروب يشبه الوقوف داخل نقطة مجازية، ممتدة في الخيال أكثر ما هي مستقرة في الواقع، ويحاصرها ـ منطقياً ـ خطر مضاعف.

لكن الجدير بالانتباه حقاً في هذه المجموعة أن قصصها تبدو ـ وبشكل قوي للغاية ـ كتأمل سردي لفلسفة (شوبنهاور) عن الإرادة والخلاص من عبوديتها.

لنقرأ مثلاً هذه السطور من قصة (فراشات ضالة):

(قابع هو ببيته الخشبي في برزخ يفصل بين المتقاتلين، متقوقع في شرنقة من مخاوفه وهواجسه وظنونه، فتاته تلهو وتلعب بجهلها بالخوف وبدمّاها الباهتة.

“لم دقت أجراس الحرب أبوابنا!” لا ينفك يتساءل مرتجفاً، طبّق راحة يده وكأنما يمسك مسجلاً أمام فمه، وقال بصوت رخيم “الطمع”.

وفي وجدانه أطرق “نحن لا نستطيع القضاء على الطمع ما لم نقضي على مشاعر البشر”.

وأدرك أن كل نزاع منذ السليقة، وهابيل وقابيل يتقاتلان على شيء، كلاهما يرغب أن يقتنيه وحده”

علينا أن ننتبه أولاً إلى أن فعل إطباق راحة اليد الذي يشبه الإمساك بالمسجل أمام الفم أثناء التحدث أو التفكير يبدو كمحاولة مجازية لتوثيق ذاكرة شخصية، مقموعة داخل الماضي الكلي للحروب .. ترك بصمة خيالية للرعب الذاتي الذي أجبره تاريخ الصراعات الجماعية على الصمت .. إن الطمع الذي لا نستطيع القضاء عليه ما لم نقض على مشاعر البشر مثلما جاء الفقرة السابقة يمكن إعادة قراءته في تعريف (شوبنهاور) للإرادة:

(إنها الطبيعة الأعمق، وهي بمثابة اللب لكل شيء جزئي كما هي بالنسبة للكل. وهي تظهر في كل قوة عمياء في الطبيعة كما في كل فعل إنساني مدروس).

علينا أيضاً أن نقرأ تفسير (شوبنهاور) للإرادة:

(إن كل رغبة تنشأ عن حاجة، وبالتالي من نقص، ومن ثم من معاناة، وإشباع كل رغبة يُنهيها، ومع ذلك فمع كل رغبة تُشبع، تبقى هناك في النهاية عشر رغبات في حاجة إلى الإشباع، وعلاوة على ذلك، فالرغبة تدوم طويلاً، والحاجات بلا نهاية،، بينما الإشباع قصير الأمد ويأتي بالكاد. وحتى الإشباع النهائي يكون في ذاته ظاهرياً فحسب، فكل رغبة تُشبع تفسح في الحال مجالاً لرغبة جديدة، وكلتاهما وهم).

اللافت أيضاً في قصة (فراشات ضالة) أن الرجل الذي تطارده الطائرة أو الموت القادم من الحرب حينما اشترى ملاءة بيضاء وعبوة طلاء بلون الدم، وشق الملاءة نصفين ونام بداخلها ثم رسم بعد ذلك زخارف في أطراف اللوحة باللون الدموي والتي كتب عليها (لا وجود لرابح، ولا وجود لخاسر فكلكم أغبياء مصرون) قبل أن يشهرها في الهواء؛ حينما فعل ذلك كأنه كان يحاول الجمع بين السبيلين للخلاص عند (شوبنهاور) من شرور الإرادة وهما الفن أو التأمل الجمالي (الرسم والكتابة على اللوحة)، والزهد (النوم داخل ملاءة بيضاء تصلح ككفن أيضاً) .. ربما يكون من المدهش فعلاً في هذه القصة هو أن هذا الرجل حينما حاول أن يجعل زوجته جزءً من اللوحة بعدما شاهدها في رداء فاضح بواسطة اللون الأحمر المتوغل إلى ثيابها كان يبدو كأنه يسعى لتحريرها مثله بنفس الطريقة التي قرر أن يقاوم بواسطتها الألم، وفي نفس الوقت كان يؤكد إرادة الحياة من خلال الغريزة الجنسية التي اعتبرها (شوبنهاور) التوكيد البدني للإرادة .. هذا التوكيد لإرادة الحياة الذي مارسه الرجل مع زوجته هو الخطوة التي تسبق إنكار هذه الإرادة عن طريق الزهد؛ أي الوصول إلى أعلى درجات الأنانية التي تمهد للتخلي التام والتخلص من وهم الفردية .. هذا ما حدث للرجل في القصة حينما رأى زوجته فجأة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، واللون الأحمر هو قطاف عذريتها, وحقيبة يدها تتحوّل إلى حقيبة مدرسية .. كأن الإرادة يُعاد ولادتها مع كل محاولة لتأكيدها، وأن هذا الذي يبدو حلماً يحدث على نحو عادي بين الناس كواقع يومي .. إذن تلك هي الهوية التي يتسم بها كل من يحاول الخلاص من (الجشع): أن يكون عارياً أمام الجميع وهو يحاول أن يخبرهم بأنه لا وجود لرابح ولا وجود لخاسر .. كأن هذه اللافتة هي قصة قصيرة تمت صياغتها على نحو مختلف، وأن هذا الرجل هو (حازم عزت) نفسه.

تقدم لنا قصة (الشجرة) ما يشبه محاكاة خاصة لقصة الخلق .. خلق (الإرادة) .. الحصاة التي صارت نبتة ثم شجرة ابتلعت الأب في باطنها، وأصبحت تطرح ثماراً حمراء (المرض والموت)، وثماراً بيضاء (الدواء والحياة) .. الخير والشر .. الأخان اللذان سيقتل أحدهما الآخر ثم يموت معه بعد أن تسحبهما الشجرة أسفلها ..الشر الذي يبقى شراً، والخير الذي ليس خيراً كما يبدو بل مظهر آخر للشر .. الحياة التي تلمع ثمارها في العيون الجائعة ثم تبتلعهم لتسقط حصاة مزخرفة جديدة بديعة الرسوم، وتستمر الشجرة في النبت والطرح إلى الأبد.

أظن أنه من الوارد جداً الشعور بالشغف البورخيسي داخل مجموعة (مزيد من كل شيء أو لاشيء على الإطلاق) .. ليس فقط على مستوى الفانتازيا الحلمية أو اللعب بالشفرات والرسائل الغامضة بل أيضاً بوضع الخبرة البشرية في نطاق الغموض والاستجواب العجائبي .. أتذكر قصة (الأسطوانة) لـ (خورخي لويس بورخيس) حيث الحطاب العجوز الذي قتل المتشرد لطمعه في أسطوانة (أودين) التي كانت تومض في يده الفارغة، ثم لم يجدها بعدما ألقى جثته في النهر، وظل يبحث عنها دون جدوى .. استدعاء هذه القصة كان يتم تدريجياً مع قراءة قصة (مزيد من كل شيء) .. حكاية الأم لطفلتها الميتة عن الجدة التي مات زوجها فأخبرت ابنتها أنه مسافر تحت الأرض .. تقص الأم حكايتها مع جدتها ومع الولد (إدوارد) كما لو أنها حية .. والد (إدوارد) الميت الذي ترك رسالة لإبنه في كتاب سيتتبع مع صديقته ما جاء فيها ليصلا في النهاية إلى هذه العبارة (البحث عن مزيد لا ينتهي، لأن كل مزيد يؤدي إلى مزيد) .. هل علينا استرجاع تعريف (الإرادة) عند (شوبنهاور) مرة أخرى؟ .. لنقرأ هذا المقطع من القصة:

(قال إدوارد: “لماذا لم يترك لي الرسالة من الأساس في هديته؟”! قالت لنا عاملة المكتبة بعد أن فهمت كل شيء: “لو فعل هذا لما كان الأمر مهماً، لن يكون للرسالة معنى إذا لم تأت بحثاً”!).

لهذا يمكن أن يكون فعل القتل في قصة (بورخيس) أكثر أهمية من أسطوانة (أودين) نفسها .. أن التفكير فيما يعنيه (مزيد من كل شيء) أكثر ضرورة من الامتلاك ذاته .. التأمل في مقابل التورط .. هذا ما يجعل الأم تحاول إعادة طفلتها الميتة إلى الحياة بواسطة الحكي .. إنقاذها من الموت دون استردادها جسدياً، وفي ذلك إنقاذ للأم نفسها من الحياة .. تقول في القصة:

(سأخبرك سراً، أنتِ كبرتِ الآن وستتفهمين، أنا أحدّث نفسي أحياناً ـ أعرف أنني أطيل النظر إلى الفراغ، يعرفني وأعرفه، يحكي لي ويعرف عني كل حكاياتي، وإلا لما كنت هنا ـ أعني أنني أفكر، فيما يجول بخاطري ويكاد يكسّره كما لوأنكم: أنتِ وأبوكِ وجدتكِ، ذهبتم في رحلة سياحية إلى مدينة الأحلام والعجائب، وأنا تعللت بخوفي من ركوب الطائرة، فبدلاً من هذا ركبت السرير).

تدفعني هذه القصة ـ والمجموعة بشكل عام ـ لاقتفاء أثر عناوين عديدة تطغى بطريقة ما على القصص .. أقصد هنا (الإرث والتناسخ والعود الأبدي) .. إن الأم في قصة (مزيد من كل شيء) تحوّل الطفلة الميتة إلى نسخة منها مثلما حملت هي نفسها إرث الفقد من الأم .. حوّلت والد (إدوارد) برسالته المخبوءة في المكتبة إلى أبيها، وفي نفس الوقت استعادت أمها وزوجها عبر الطفلة الميتة .. تكرار ما حدث بكيفية خيالية .. كأنها كانت تحاول تحرير الجميع من (الإرادة).

قصة (مقايضة) مثال ساطع على العناوين التي ذكرتها سابقاً .. هناك وهم مقايضة .. أن تتحوّل من فأر إلى آدمي يملك ذاكرة الفأر مقابل أن تفقد النطق والسمع .. نقرأ في هذه القصة:

(أفهمتني أنه لي أن أرى نسختين سابقتين فقط مني، وأنها والفأر هما أنا لكن في حياتين سابقتين، أما القزم فهو أنا أيضاً لكن في حياة أسبق، وأنه إذا ما مت الآن، وتقرر أن أولد من جديد في حلة أخرى فلن أرى السلحفاة، وسأظل أرى الفأر والآدمي الأخرس هذا).

لدينا في هذه القصة كل شيء حددته سابقاً: (الإرث والتناسخ والعود الأبدي) .. لكنني أظن أنه من الأجدر التوقف عند إلهامين أساسيين: الأول هو أن (الإرادة) لا تتعطل بل يتم توارثها في جميع النسخ التي لا تتوقف عودتها (القهر والغيرة والانتقام)؛ فالفأر الأكبر ينتهي موت البشر بين أسنانه .. الثاني هو السبب الذي يقف وراء الرغبة في الاحتفاظ بالماضي رغم بؤسه .. هل هناك إيمان ما بالقدرة على ترويضه في حياة أخرى دون فقدانه؟ .. هل هو التمسك بالخبرة أي بحصيلة الإرادة عبر الأزمنة؟ .. ربما بحثاً عن تأكيده قبل اكتشاف الرسالة، أي قبل تأمله، والخلاص من عبوديته.

أعتقد أن التأمل السردي لفلسفة (شوبنهاور) في المجموعة قد بلغ ذروته في قصة (لا شيء على الإطلاق) .. نحن أمام عودة لكتاب (مزيد من كل شيء) الذي ترك والد (إدوارد) لإبنه الرسالة بداخله في القصة التي تحمل نفس الإسم ولكن الكتاب هذه المرة يتم اكتشافه تحت رأس شاب أربعيني منتحر في قبره .. ينزل التُربي إلى الشارع عارياً بعد قراءته للكتاب ويقول للناس:

(اخلعوا كل ما يقيد الإنسان .. كل ما استُحدّث لينظم أموركم .. اخلعوا السلطة .. اخلعوا الضوابط الدنيوية والفوقية .. انفضوا عن كاهلكم الدين .. اتركوا السياسة وكفوا عن كونكم مسيّسين .. امسحوا الحدود الجغرافية .. عيشوا الحياة بلا وصاية أو خضوع لإرادة أحد).

لا يصل التوحد مع (شوبنهاور) إلى أقصاه في هذه الفقرة، بل دعونا نتعامل معها كتأكيد جديد على ما شرحته سابقاً، لكن التوحد سيبلغ ذروته حقاً مع خروج روح الشاب الأربعيني المنتحر من القبر بعد محاربة المحافظين للمتحررين أنصار فكر التُربي الذين قُتلوا ثم قرر ما تبقى منهم الانتحار بعدما حاصرتهم جيوش المحافظين .. الشاب الأربعيني الذي سُجنت روحه في جسده ـ لأنه انتحر ـ حتى حان وقت تحررها فخرجت مريضة إثر الأسر الطويل كما جاء في القصة، هذا الشاب كان يود إخبار المتحررين ألا ينتحروا كي لا يصيبهم ما تعرّض له، وأن يرحبوا برصاصات المحافظين ليجنبوا أرواحهم العذاب .. كان (شوبنهاور) يرى أن الانتحار ليس حلاً، لأن الانتحار هو قضاء على الفرد لا النوع؛ فإرادة الحياة سوف تستمر حتى بعد فناء الفرد .. الانتحار لا يُصلح ما أفسده الوجود، والعزاء الوحيد عما في الحياة من شر هو قصرها، وهذا أفضل ما فيها .. كأنه لا يجب أن تفوتك ـ حتى داخل الجحيم وبينما تحول الإنفلات منه ـ فرصة أن تتأمله عن طريق الفن أو الزهد الأخلاقي.

يكتب (حازم عزت) لغة مقتضبة، ذات إيقاع سريع، توحي دائماً بأنه يرسم خريطة لتلك النقاط المجازية التي ينبغي أن نقف بداخلها خارج الحروب والصراعات .. كأنه يمرر شفرات لكيفية الحصول على الذخيرة التي نحتاجها من العالم لنمتلك حرية اللعب .. هل علينا أن نفكر في مصير النسخ الأخرى من كتاب (مزيد من كل شيء)، وفي من هم الأحياء والموتى والمنتحرين الذين وصلت إلى أيديهم هذه النسخ؟ .. هل هذه المجموعة نسخة من هذا الكتاب؟ .. إن ما قام به (حازم عزت) يشبه ما فعله الدب الأب مع ابنه .. ألقى بنا أمام الفهد الصياد .. الخيانة والموت .. كأن البنت التي حكى أبوها لها قصة (صغير الدب والفهد الصياد) هي نسخة من المرأة التي كانت تحكي ماضيها لابنتها الميتة في قصة (مزيد من كل شيء) بعد عودتها في صورة أخرى .. كأن حكاية (صغير الدب والفهد الصياد) هي جزء من كتاب (مزيد من كل شيء) .. حسناً .. ربما من ضمن ما يجب مواجهته داخل تلك اللعبة السردية هو ذلك الغيبي الذي خلق الإرادة .. المقدس الذي لا نعرف هل هو القوى العظمى التي أنشأت الكون وتسيّره وتبعث برسائلها الغاضبة تحت رؤوس المنتحرين، أم أنها هي التي تمنعنا دائماً من العودة بناب الفهد الصياد.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *