بالصينية الفصحى

خاص- ثقافات

 

*يوسف غيشان

 

لا تحاول أن تقرأ عن وسائل وأساليب الإعدامات التي ابتكرها الضمير البشري، منذ هبوط نزول ذلك القرد العاري(الإنسان) عن الأشجار وسكناه للكهوف، مكونا أول مجتمع بشري.
إنها وسائل وأساليب وطرق تبين لك أن الإنسان لا يمثل عقلا إبداعيا وواعيا فحسب، بل يمتلك، أيضا، عقلا إجراميا وابتكاريا،يجعل الإبداع في طرق الموت يوازي الإبداع في طرق الحياة.

قرأت –على  ذمة الراوي- عن طريقة إعدام صينية قديمة، تعتمد على الطلب من المحكوم بالإعدام اختيار نوع واحد من الطعام(رز، لحم، دجان، سمك، وهكذا)، وبعد الاختيار الأخير الذي يقوم به المحكوم، تشرع إدارة السجن في إطعامه هذا النوع بشكل مستمر …مثلا: فطور رز، غدا رز ، عشا رز ..فطور غدا عشا رز في رز في رز  في رز ، أو لحم في لحم في لحم في لحم.

ويقول الراوي ، إن هذا التوحيد في نوع الطعام كان يقوّض جسد المحكوم في الإعدام ، وبعد أن يتربرب خلال الشهرين الأولين ، يشرع في النكوص والتراجع، فيتحول الى مجرد جلد على عظم ….ثم يموت . وأكثر محكوم  صيني بالإعدام صمد في هذا  النوع من الإعدامات ..صمد ستة أشهر فقط لا غير.

لاحظوا أن ما يزبط على الشعوب الأخرى لا يزبط علينا نحن العرب ،ولو أن الصينيين سجنوا اعرابيا منذ القرن الميلادي الأول ، لكان حيا حتى الآن يأكل من ذات الوجبة. وتقول الأنباء المتواردة إن الأمبرطور الصنيني (ما صار شي) أصدر بمناسبة الاحتفال بعام القرد عفوا عاما عن المحكومين بالإعدام ، لكنهم لم يستطيعوا إخراج صديقنا العربي من زنزانته لأنه صار أتخن وأثقل وزنا من أن يخرج من بوابة الزنزانة لا بل بوابة السجن الخارجية أيضا، فاضطروا إلى إبقائه في السجن والتكفل بإطعامه .

وبدون أن نضحك على بعض ، فقد عاش من هم أكبر مني ومن هم في جيلي، على وجبة واحدة لعدة سنوات ..خبز وشاي …شاي خبز …خبز ما شاي ..شاي مع خبز ، وما شايهها: مجدرة .مجدررة ..مجدرة مجدرة مجدرة….والدايم الله. ومع ذلك لم أسمع أن واحدا منا مات بالتجدر(من المجدرة) أو بالتشيي(من الشاي) أو بالتبندر(البندورة) أو بالتعندس(العدس)…. لا بل أن الجراثيم والأوبئة كانت تأنف من أن تدخل إلى أجسادنا .

وعلى طريقة الداوروينية الاجتماعية التي تطبق ما يكتشف في العلم على  سيرة المتّحدات البشرية – يعني المجتمعات- ، فإننا نتعايش مع الظاليمن والفاسدين قرونا وقرونا دون أن نفنى ولا نستحدث ،  ولا نتحول من شكل إلى آخر.

حكمنا المغول والتتار والفرس والأيوبيون والأخشيديون والمماليك البرية والمماليك البحرية والمماليك الجوية ، والصفويون، ثم حكمنا العثمانيون لأربعة قرون ، وجاء بعدهم الأنجليز والفرنسيون ومع ذلك لم نمت، وبقينا على حالنا  وأحوالنا ، وها نحن الآن،كما تركنا آخر خليفة عباسي قتله هولاكو، لكأننا نعيش على هامش التاريخ والجغرافيا والهندسة الإقليدية، وعلم نفس النمو.

مش بس هيك كمان ، فإننا عندما حاولنا التحرر من نير الطغاة والظالمين  والفاسدين – بواسطة الربيع العربي- تحررنا قليلا، ثم أصاب أجسادنا الإجهاد والأمراض ، وصرنا نهلوس ،لدرجة أن بعضنا ينوي الرجوع إلى مرحلة الظالمين الفاسدين ، بعد طلب الصفح والغفران منهم.

أتمنى أن يحتلنا الصينيون ويحكموا علينا بالإعدام عن طريق الحاكم الواحد، ويطعموننا الطعام الواحد….بالتأكيد ستعلن الصين إفلاسها خلال عقود، ثم نستولي عليها كاملة مكملة.

_____________
*كاتب أردني

ghishan@gmail.com

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *