“مولى الحيرة” لإسماعيل يبرير.. ليس بكافر، شاعر من المدينة

خاص- ثقافات

محمد جعفر*

الرواية بالعادة هي فتح وخوض في المعرفة، وإن تولدت الأسئلة منها فإنها تنزع إلى الأجوبة وفق رؤى القارئ الشخصية.

تتولد الأسئلة أثناء القراءة وتعتري القارئ الحيرة مع كل سؤال جديد، لتكون الخاتمة بمثابة باب إلى الخارج حيث النور والوضوح والتجلي. ويمكنني القول إن كثيرا من الأسئلة الجادة تنازعتني خلال قراءتي لرواية إسماعيل يبرير الأخيرة الموسومة بعنوان مولى الحيرة والصادرة حديثا عن دار مكسلياني بتونس. أسئلة تولدت من نص غير استثنائي وظلت تناوشني مع كل سطر وفصل جديد رغبة في الظفر بجواب، لكن كيف السبيل إلى جواب مقنع وقد تلبستني الحيرة فكأنها اللعنة مبثوثة في الرواية؟ فما إن تلج النص حتى يصيبك الغرق الذي لن تخلص منه حتى وإن انتهيت من القراءة، إذ ينفتح أمامك بون واسع يفسح المجال لمزيد من الحيرة والدهشة، فتفتأ تعيد على نفسك السؤال تلو السؤال في حالة من الهذيان والإستعصاء واللايقين.

هل هي رواية عن المدينة؟

نظّر لوكاتش فقال إن الرواية هي الابنة الشرعية للبورجوازية التي لا يتشكل حضورها إلا في المدينة، وفي هذه الرواية تظهر الجلفة كمدينة جزائرية بمعالمها وشوارعها وأزقتها وتاريخها وباقي التفاصيل فيها، حتى يمكننا اعتبار العمل دليلا سياحيا يمكن أن يهتدي به كل داخل إلى هذه المدينة. لكن في الجلفة تدرك أيضا أن الإنسان فيها يقيم في حالة هي ما بين الحضارة والبداوة. فلا نحن في مدينة تحمل علامات تمدنها ولا في قرية صغيرة مقطوعة الصلة والرحم تماما بالعالم. ويكون الكاتب بذلك قد قدم لنا عينة عن المدن الجزائرية الأخرى والتي تتشابه. فهي جميعها منعزلة غير مؤثرة وتقع على هامش العالم.

ما الذي يربط بين الشخصيات في الرواية؟

انفتحت الرواية على شخصيات عديدة، وتجد فيها شخصيات ثانوية وأخرى فاعلة وثالثة بطلة: الديلي، الخونية، يحي، التالية، الناصر، عبد الحميد، مينا وآخرون توزعوا على جيلين. كما تجدر الإشارة أن الحضور الأنثوي يتساوى تقريبا  والحضور الذكوري بما يعني أن الكاتب قد اهتم بالجنسين وعالج موضوعاتهما على أكبر قدر من المسؤولية. وغلب في علاقة الشخصيات فيما بينها الصراع والحب والبغض وعبرت أغلبها مآزق حياتية تجاوزتها بعدما تركت فيها آثارها، كما تحدد على ضوئها مصير كثير من الأبطال فيها. وإن كنت أميل أن لب الصراع في الرواية ناجم عن فعل الزمن وتأثيره أكثر من صراع الشخصيات فيما بينها. ويبدو جليا اعتناء الكاتب بالبعد الإنساني في عمله وكذلك البعد النفسي لأبطاله مهتما بأفكارهم ونوازعهم وإدراكه لأهوائهم وشهواتهم مع مراعاة تباينهم والذي يرجع غالبا لبيئتهم وظروفهم الحياتية المختلفة. كما فتح هذا المجال للشخصيات وجعلها أمام خيارات ومسارات مختلفة.

كيف يبدو الزمن في الرواية؟

يبدو الزمن في الرواية ثابتا لا يتحرك وقد اشتغل الراوي على استرجاع تاريخ مدينة الجلفة وتفاصيل حياة الأفراد فيها. حتى إذا تحرك الزمن فعل ذلك نحو الخلف وإلى الوراء بعدما انسد الأفق وما عاد للأبطال إلا أن يعتاشوا على الذاكرة وأحداث مضت. في الخاتمة تعود الرواية بنا إلى الزمن الحاضر بعد أن لف بنا الكاتب دورة كاملة وعاد إلى نفس النقطة التي انطلقت منها الأحداث، وفيها نتعرف على المصائر المختلفة للأبطال. وتجدر الإشارة أنه بتعدد الأبطال ووجودهم ضمن زمن مغلق ضيع مفاتيحه يكون الكاتب قد قدم عملا يجنح إلى الملحمة.

هل هي رواية عن الشعر؟

اعتدنا أن الرواية هي الابن الشرعي للمدينة وأن الشعر هو وليد القرية والطبيعة، لكن في مولى الحيرة يصر الشِعر إلا وأن يلتصق بالمدينة كاسرا المألوف وما يقول به التنظير. فهل هذا لأن مدينة الجلفة لم تكسب بعد شرعيتها كمدينة ولم تتأهل لتكونها وهي التي كانت إلى يوم قريب مجرد قرية كبيرة تكدست فيها وحولها الدور؟ أم لأن الكاتب كان يقترب من سيرته الشخصية ويضع مقاربة لها والمعروف أنه شاعر أيضا وابن مدينة؟ أو لأن البطل بشير الديلي لم يكن خاضعا كل الخضوع لسطوة المدينة ويميل غالبا للعزلة ويعيش الاغتراب والحيرة؟ وفي كل الأحوال فإن الشعر تحرر من ربقة المألوف والسائد وفتح له مجالا ومتنفسا مختلفا غير معتاد. وكان السؤال الجدير هل وفق الكاتب في هذا؟ وهل استطاع أن يطوق شيطان الشعر ويطوعه لصالح البيئة المتخيلة ولصالح العمل الروائي؟ وجدير بالذكر أن القارئ سيكتشف على طول الرواية استشهادات شعرية متنوعة خادمة للنص مبينة عن معنى واضح ومقصدية لا لبس فيها. وغالبا ما تكون من الشعر الكلاسيكي القديم حيث كان الشعراء يقفون فوق ربوة ومن على مكان عال ومنه يطلون على الجموع حيث المركزية للشعر. في الزمن الحالي يُخلِص البطل الشاعر لكتابة قصيدة لطالما انتظرها ملخصا من خلالها مأزقه الهوياتي وسؤاله الوجودي في سبيل ترميم أكبر للروح وإعادة تأهيل للإنسانية. ومع ذلك الشهرة لن ستصيبه وقد انتهت في هذا الزمن سطوة الشعر لينكفئ البطل على نفسه غير قادر على الخلاص متعايشا مع أزمته ومأزقه الوجودي فاردا المجال للحيرة الدائمة. وإن كنت أصر أن الشعر في هذه الرواية قد كسب رهانه كاملا بأن استطاع تجاوز محنته وأزمته وخلق له فضاء جديدا يعكس فيه همومه وتجليات ورؤى شعرائه مؤكدا أن الشعر ليس وليد المدينة ولا الريف، وإنما هو وليد المحنة والحيرة.

في الأخير أقول، ينزع إسماعيل يبرير في روايته مولى الحيرة إلى التجريب من حيث التركيز على التقنية وشكل تركيب الفصول فيها وإن كان هذا ليس جديدا عليه. كما يكون الكاتب قد تجاوز كثيرا كتاب جيله وممن سبقوه في هذا المجال. كما  تميزت روايته بقوة التخييل وجمال الأسلوب وسلاسة التعبير حتى أنك لن تشعر بالملل وأنت تتابعه وهو يحصي أنفاس أبطاله ويعد عليهم أبسط حركاتهم وسكناتهم عبر أكثر من 400 صفحة كاملة.

___

*روائي من الجزائر

 

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *