قراءة جين أوستن في عصر الإنترنت و «الهواتف الذكية»

*هناء عليان

هل نحن في حاجة حقاً إلى نسخة أخرى من رواية «كبرياء وتحامل» لجين أوستن؟ (1775 – 1817) على الأرجح نعم، لا سيّما إن كانت بنكهة عصرية كما هو حال رواية «مؤهل للزواج» للكاتبة الأميركية كورتس سيتينفيلد التي اكتسحت قائمة أكثر الكتب مبيعاً بعد أشهر قليلة على صدورها (عن دار راندوم هاوس)، على رغم انتقادات كثيرة وجهت اليها.

عندما اختارت «مشروع أوستن» لإعادة كتابة واحدة من ست روايات لأوستن بما يتلاءم مع وقتنا الراهن، كانت سيتينفيلد تدرك أن مهمتها لن تكون سهلة على الإطلاق، نظراً الى الحجم الهائل من الاقتباسات ومحاولات إعادة صياغة هذه الرواية المحببة التي تعد من أشهر الروايات الإنكليزية، لكنها قررت خوض غمار التجربة.

مع هذه الكاتبة الأربعينية، تنتقل عائلة بينيت الشهيرة من انكلترا التاسع عشر إلى مدينة «سينسيناتي» الأميركية في القرن الحادي والعشرين. لا تزال إليزابيث، أو ليز بينيت، شخصية لامعة وحادة الذكاء، لكنها تعمل اليوم ككاتبة عمود يومي في مجلة «ماسكارا» في نيويورك وتبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً. أما شقيقتها الكبرى جاين، الموصوفة بهدوئها واتزانها، فأصبحت بطبيعة الحال مدربة «يوغا» في مانهاتن. فيما تكرس كل من الشقيقتين الطائشتين ليديا وكيتي وقتهما للهواتف الذكية وتمارين التنحيف، وتستعد ماري الجدية والمواظبة للحصول على شهادتها الجامعية الثالثة عبر الإنترنت.

3511f423813142098f99729cc55d4233

تجد الأخوات الخمس أنفسهن معاً مرة أخرى بعد إصابة والدهن بذبحة قلبية. عندما تعود ليز وجاين إثر أزمة والدهما، تتفاجأ الشقيقتان بتردي وضع الأسرة لجهة الديون الكثيرة، وإهمال صحة الأب، وانخفاض دخل الأسرة وبطالة أخواتهن الثلاث. ويتوجب على الفتيات التعامل مع والدتهن، المدمنة على التسوق، والتي لا تزال شديدة الحرص على تزويج بناتها في أقرب فرصة ممكنة للتخلص من مصروفهن.

أما بقية الشخصيات، فتشمل طبعاً تشيب بنغلي، الذي يتحول من صاحب أراض وميراث في الرواية الأصلية ليصبح طبيباً مشهوراً شارك في برنامج التلفزيون الواقعي «العازب» لكنه خرج من دون العثور على زوجة أحلامه فقرر العيش في بلدة نائية هرباً من ملاحقة الفتيات له ليجد نفسه منجذباً الى جاين، يرافقه صديقه جراح الأعصاب فيتز ويليام دارسي، الذي سرعان ما يثير حفيظة ليز بسلوكه المغرور، وتذمره المستمر من البلدة.

في صورة ملائمة للعصر، تم استبدال الفساتين الطويلة المتسخة نتيجة السير مسافات طويلة في الريف الإنكليزي، بملابس رياضية وجينزات مهترئة من كثرة الحركة. بدلاً من ارتياد قاعات الحفلات، تلتقي الشخصيات اثناء الركض وحفلات الشواء. الرسائل الورقية تحولت إلى رسائل نصية وإلكترونية، الأحصنة وعربات الخيل استبدلت بالطائرات، والأقمشة الفاخرة بالملابس ذات الماركات العالمية.

كما هو الحال في إعادة كتابة الروايات، يبقى عنصر المفاجأة غائباً، إذ يدرك القارىء الأحداث والنهاية مسبقاً. لكنّ هناك عدداً لا بأس به من المفاجآت التي خبأتها سيتينفيلد في روايتها. في بداية الرواية، تكون ليز على علاقة برجل متزوج يدعى جاسبر ويك وهو يجسد الشخصية الحديثة للسيد ويكهام، بينما تفكر جاين باللجوء إلى التلقيح الاصطناعي في محاولة أخيرة لإنجاب طفل بعدما فقدت الأمل في العثور على زوج ملائم.

«مؤهل للزواج» ليست مجرد إعادة كتابة لرواية جين أوستن مع إضافة الهواتف الذكية والإنترنت وبرامج تلفزيون الواقع وتمارين التنحيف وإلى ما هنالك من «رموز» الحياة العصرية إليها، بل إنها تتضمن توصيفاً واقعياً لبعض المشكلات والمواقف النمطية التي لا تزال تصادف المرأة بعد مرور كل هذا الوقت.

قد تبدو فكرة «عنوسة» إليزابيث بعد تجاوزها سن الـ 23 كما هو وارد في الرواية الأصلية، مقيتة جداً للقارئ الحديث، لكنّ الرواية الجديدة تلفت إلى أن الفتيات يتعرضن اليوم لعاصفة من الأسئلة في حال تجاوزن سن الخامسة والثلاثين من دون زواج، على رغم كل ما تمكنت المرأة من تحقيقه، وفي وقت لم يعد الزواج طريقةً تسعى اليها المرأة لتحقيق الاستقرار المالي كما كان في عصر أوستن حيث تبحث كل شابة عن عريس ميسور الحال تتزوجه.

في أحد المشاهد، تقول ليز بينيت لأختها دارسي بحدة: «الجميع يعلم أن الأمر مختلف بالنسبة الى الرجل. يمكنك أن تقف على ناصية الشارع الآن، وتعلن على الملأ أنك تريد زوجة، قد تجدها بعد خمس عشرة دقيقة على الأكثر. أما أنا فيجب عليّ أن أقنع الناس طويلاً للتغاضي عن تاريخ انتهاء صلاحيتي القريب».

لطالما حظيت سيتينفيلد، مؤلفة روايتي «الزوجة الأميركية» و»تحضيرات»، بمديح النقاد لقدرتها على انتقاد المجتمع وكتابة بورتريهات دقيقة عن حياة النساء تحديداً، هي التي تميزت كتابتها بجملها القصيرة و»النظيفة» المريحة للقارىء، وهذا ما يظهر في روايتها الجديدة، فمع أنّها طويلة ( 512 صفحة) لم تُشعر القارىء بالملل بتاتاً.

لقد نجحت الكاتبة في فضح المادية التي تفشت في مظاهر حياة الضواحي الأميركية الحديثة، تماماً كما هجت أوستن مظاهر الخيلاء والغرور في عصر الوصاية على العرش في انكلترا. ولكن في حين أن الثروة والوجاهة والمكانة الاجتماعية كانت العقبات الرئيسة أمام الحب والسعادة في الرواية الأصلية، هي اليوم في الرواية الحديثة مجرد مؤشرات لمجموعة من القيم الأساسية المنتشرة من حولنا. لم تذم سيتينفيلد المادية في مجتمعنا، إنما صورتها فقط كونها تحولت إلى نمط معتاد جداً.

مع ذلك، جوبهت رواية سيتينفيلد بانتقادات حادة أبرزها أنها تخلت عن العمق الأدبي لمصلحة السخرية اللاذعة، كما أنها اعتمدت لغة سوقية بذيئة على لسان بطلات روايتها في شكل مبالغ فيه، فدمرت بالتالي صورة ليز المحترمة ذات الأجوبة الذكية واللاذعة، والتي علقت في أذهان محبي أوستن، وربما شوهت ثيمة الرواية الرومنطيقية عندما دفعت بها إلى أقصى حدود «العصرنة».

________

*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *