الحـفلة

خاص- ثقافات

*محمود شقير

ذهبتُ إلى الحفلة في الموعد المحدّد، ذهب إلى الحفلة في الموعد نفسه تقريباً. ارتديت معطفي الثقيل، خبرتي بالطقس في مثل هذا الوقت من السنة هي التي دفعتني إلى ذلك. القاعة في مركز المدينة، وبيتي بعيد عن مركز المدينة.

جاء رئيس البلدية إلى الحفلة، له ابتسامة خافتة لا تفارق محيّاه، جاءت زوجته ترتدي معطفاً من جوخ، وعلى خديها أصباغ فاقعة. جاء رجال الصحافة ومحطات التلفزة، اتخذوا لأنفسهم مواقع ملائمة. كل منهم يحلم بفرصة تلفت إليه الانتباه. اتخذتُ لنفسي موقعاً يجعلني قادراً على مغادرة الحفلة في الوقت المناسب، أنا لا أحبّ أن أصرف وقتاً كثيراً على الحفلات.

جاء رجالات المجتمع، كل منهم له حلمه الخاص. جاءت النسوة المتمرّسات على حضور المناسبات الاجتماعية، كل منهن لها عطرها الخاص. رحت أبحث عن امرأة عرفتها منذ زمن ثم ضيّعتها، هي وديعة مثل حمامة، لا تحب أن تلفت انتباه أحد، لذلك مال قلبي إليها. راح يبحث عن أية امرأة، يشمّ مثل كلب عطور النساء، يتقرّب إليهن بمجاملات باهتة، وكلام سقيم يتردّد في العادة على وتيرة واحدة في أجواء الحفلات. ذلك هو طبعه باستمرار: ذات ليلة، دخلت المطعم الرئيس في المدينة، كنت وحدي. ذات ليلة دخل المطعم الرئيس في المدينة، كان وحده. رأيت رجالاً موسرين يحتفلون لسبب ما، معهم على المائدة نسوة مبتهجات، يغنّون بفجاجة، يغنّين معهم بأصوات ناعسة، يستبدّ الطرب بإحدى النساء، تدفع الكرسي إلى الخلف، تقف باسترخاء، تهزّ ردفيها ذات اليمين وذات الشمال، تصيح بجذل: مارسيدس. يردّ عليها الآخرون وقد تعتعهم السكر: مارسيدس. اعتقدتُ للوهلة الأولى أن المرأة تعمل في وكالة لهذا النوع من السيارات، وهي راغبة في خلط الجدّ بالمزاح. لكنها لا تلبث أن تصيح كأنها تفاجئ الجميع: ميتسوبيشي. يرد عليها الآخرون وهم يتأملون جسدها: ميتسوبيشي. حتى لم تُبق على نوع من أنواع السيارات شرقاً أو غرباً إلا ذكرته. أيقنت أن الأمر لا يعدو كونه مزاحاً هابطاً مُسفَّاً، لم يرق لي جوّ المطعم في تلك الليلة فخرجت. راق له جو المطعم في تلك الليلة، سمعته يردد في نشوة: مارسيدس، ميتسوبيشي، (والقائمة تطول بطبيعة الحال).

أُلقيتْ في الحفلة كلمات مكرّرة، دون التفات إلى ضرورة التقيد بالوقت. وزعت كؤوس العصير وقطع الحلوى. لم يكن ممكناً توزيع مشروبات كحولية لأسباب عديدة، مع ذلك، وُضعت في المطبخ عدة زجاجات من الخمر، انـزلق إليها عدد من المدعوين دون أن يلفتوا انتباه أحد، أضافوا إلى كؤوس العصير ما شاءوا من خمر، ثم عادوا إلى القاعة، لمواصلة النقاش حول شتى الموضوعات، مع عدد من المعنيين، وغير بعيد عن النسوة اللواتي وقفن في الجوار.

لم أعثر على المرأة التي ضيّعتها، بدأ التبرّم يظهر على سحنتي. رأيته مع عدد آخر من الرجال والنساء يعودون من المطبخ، قهقهاتهم تعلو وتخفت دون حساب. برزت من بينهم امرأة، هزّت ردفيها ثم صاحت: مارسيدس. صاحوا خلفها مردّدين: مارسيدس.

غادرتُ القاعة. تمشيت في شوارع المدينة الخالية غير آبه بالطقس البارد. مررت للمرة العاشرة من أمام القاعة. رأيتهما يغادران المكان، يدها في يده وليس ثمة كلام. حدقت فيهما، سألت نفسي بارتباك: هل أنا هنا حيث أنا الآن، أم إنني هناك حيث يسيران؟ استبدّت بي رغبة في المناكفة، صحت في هدأة الليل وأنا أقترب منهما: مارسيدس. حدّقا في وجهي بكل استغراب، ثم واصلا سيرهما دون اكتراث. خجلت من نفسي. شعرت بفداحة الفقدان، ركضت في الاتجاه المعاكس، وكنت وحدي.

________
*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *