الحياة بين قارتين

*غادة السمان

أطالع (يومياً) الفاصل الإعلاني الذي يتكرر على شاشات التلفزيون الفرنسي ويقول: من أجل صحتك تناول كل يوم خمسة أنواع من الخضرة والفاكهة. أطالع الإعلان بعين عربية. ثمة شرائح في مجتمعاتنا العربية الممزقة بحروبها الأهلية وفقرها وتشردها، لا تحلم حتى بالحصول على الفاكهة.. وحزنت.. وعجزت عن الكتابة بعيداً عن النكد على الرغم من أنني قررت ذلك ولكن..
إعلان آخر أحزنني يكرر: «من أجل صحتك احرص على أكل ثلاثة انواع من مشتقات الحليب». فهذه الاعلانات تذكرني بالباحثين عن لقمة في صناديق القمامة في بيروت.
وقبلها سمعت في نشرة الأخبار قرار بلدية باريس منع السيارات التي يفوق عمرها 19 سنة من الدخول إلى «باريس» لتخفيف التلوث.. تذكرت بيروت التي تبدو قياساً بذلك متحفاً للسيارات القديمة وحزنت للفارق الحضاري، فالتلوث في بيروت لا يقال عنه شيء مع نشرة أخبار الطقس كما يحدث في فرنسا وسواها.

قطع الكهرباء لساعتين؟ يا للهول!!

في الشاشة المضيئة المتحركة أمام المصعد في ناطحة السحاب حيث أقيم قرأت إعلاناً إلى سكان المبنى حول قطع الكهرباء والماء لساعتين في اليوم التالي من أجل التصليحات، أما المصعد فسيظل يعمل. وحين هبطت لمغادرة المبنى وجدت عدداً كبيراً من سكانه تجمعوا للاحتجاج على ذلك!! تأملت هياجهم بعين عربية. فقد عشت في بيروت خلال الحرب الأهلية شهوراً طويلة بلا كهرباء وفي ظل شح المياه، وها أنا أمام من لا يطيق قطعها لساعتين على الرغم من الإعلان عن ذلك مقدماً. ولذا هربت من الجارة التي طلبت مني التوقيع على عريضة ضد الشركة التي تدير المبنى، فالهموم المرفهة ما زالت غريبة عني كامرأة عربية، من العالم الثالث!
تذكرت أيام الحرب الطويلة في بيروت، حين كنا نقتصد الماء الشحيح في زجاجات بلاستيكية، ونضع تلك الزجاجات ـ بعد شربها وتعبئتها بمياه الحنفيات الغامضة ـ في الشمس كي تصير دافئة لنستحم بها، وتذكرت كيف صرنا نشتري المياه المعدنية ذات الزجاجات الأغمق لوناً لأنها تمتص المزيد من أشعة الشمس أي المزيد من الدفء للماء. هذا بدون ان أنسى يومئذ غير القادر على شراء تلك المياه المعلبة لأن راتبه لا يكفي حتى لإطعام أولاده.

الهموم المرفهة

لم أتعاطف يوماً مع الهموم المرفهة الغربية، على الرغم من انني قضيت معظم عمري معهم بين لندن وجنيف وروما وأخيراً باريس ومنذ عقود.. كأنني لم اقتلع ياسمينة جدتي في قلبي الآتية من البيت العتيق في دمشق لأزرع مكانها برج إيفل، وقلبي لا يقرع توقيت ساعة «البيغ بن» بل ساعة «محطة الحجاز» في دمشق رغم انها كانت معطلة حين عشت في وطني الأم ولعلها ما زالت كذلك..
وما زلت أتأمل الغرب بعين عربية ولا أشعر بأنني من بعضه، فالأوراق الرسمية والبطاقات ليست بالضرورة (جنسية) قلبك وانتمائك الروحي.

التأمين على .. الموت: اشترِ قبرك!

ثمة إعلانات تمطرنا بها «شركات دفن الموتى» في الغرب بلغة منمقة وجوهرها ببساطة: اشترِ قبرك وقم بترتيب جنازتك، واضمن تطبيق ذلك في عقد تأمين رسمي.
عيني العربية تلفتها حقاً هذه الاعلانات التي تخلو منها تماماً بلادنا العربية.. وتلك نقطة لصالحنا..
فالعلاقات الغربية (العائلية) تختلف اختلافاً جوهرياً عما هي عليه عندنا. وحين نموت نجد من يدفننا بدون أن نشتري بالضرورة قبرنا مسبقاً. العلاقات (المادية) في الغرب هي جوهر الموضوع: وإحراق الميت ونثر رماده أرخص ثمناً بكثير من تكاليف دفنه في قبر. والابنة/الابن حين يبلغ الثمانية عشر عاماً ينفصل عن أسرته (بتأييد منها) ليعيش في غرفة منفردة أو مع شركاء. عندنا تعيش الشابة/الشاب غالباً في البيت الأبوي حتى الزواج ويبدو لنا ذلك كعرب أمراً عادياً، وبعد وصولي إلى باريس بحوالي خمسة أعوام أي حين صار عمر ابني 18 سنة سألتني اكثر من جارة فرنسية بدهشة: أما زال ابنك يقيم معك؟ وأسألهن ببساطة وبدهشة مماثلة: وأين تفترضن ان يقيم وهو لما يتزوج بعد؟ ولعلي كنت موضوعاً للسخرية…
إنها الحياة بين قارتين ووطنين وحضارتين ولكل منهما قيمهما وأسلوب حياتهما.. والمهاجر يعرف تلك الحقيقة ويتكيف معها أو يرفضها سراً أو علناً..

لم أتزوج، وسأنجب طفلاً!

مشهد آخر: ذهبت إلى مصففة شعري بعد غيبة طالت في بيروت ووجدتها (حاملاً)، وقلت لها بعفوية: مبروك. لم أكن أدري أنك تزوجت. أجابت ببساطة: لم أتزوج؟ وأدركت أن عيني العربية ما زالت تربط بين الزواج وإنجاب الأولاد وأن نسبة كبيرة من أطفال فرنسا تولد على هذا النحو ولا يدعونهم (أولاد حرام) بل أبناء (طبيعيين).
أعرف أن بعض أبناء العرب المهاجرين صاروا يفكرون على طريقة البلد الذي كبروا في ظله (وذلك ليس ذنبهم) فقد كبروا في مجتمع آخر مختلف القيم والرؤية إلى الحياة…
وأختم بإبداء دهشة عيني العربية حول مشاجرة (البوركيني) وأتساءل بصوت فولتير: كيف أدافع عن حق بعضهن في ارتداء البكيني ولا أدافع عن حق أخريات في ارتداء البوركيني؟ وإذا كان من حق المرأة تعرية صدرها على الشواطئ في «المونوكيني» لماذا ليس من حقها ستر ما يحلو لها في البوركيني؟
______

*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *