دار المُسِنّين تستضيف الشِّعرَ مؤنسًا وسميرًا

خاص- ثقافات

*جواد غلوم

لطالما قيل الكثير عن وظيفة الشعر ودوره في تحقيق المتعة والفائدة في النفس الإنسانية التوّاقة إلى  الجمال وإحداث البهجة في دواخل النفس البشرية وخلق حالة من السعادة والنشوة حينما نصغي إلى  قصيدة مؤثرة أو نقرأ نصّا شعريا ننتقيه بعناية وقد يتوافق مع أذواقنا فتتضاعف تلك المتعة وتصل إلى  مديات  ومدارج أعلى فأعلى وفقا لمزاج المتلقي وحالته إن كان في وضع  يؤهله لتلقي الشعر ويتلهّف للإنصات إليه أو قراءته وقد تمتدّ تلك النشوة والمتعة كلما تذكّرنا نصوص قصيدة أحببناها وتبقى في خزين ذاكرتنا وقد لا تبرح مكانها في أعماقنا سنوات طوال.

وغالبا ما تتسع وظيفة الشعر لتصل إلى  حالة التطهير من الشوائب العالقة في النفس الإنسانية خاصة اذا كان تمرّ في حالة ضجر او ملل او حزن او حتى قلق فيعود المتلقي بعد ان ينتشي بالشعر صافي السريرة ، هادئ البال وكأنه أطعم بوجبة لذيذة شهية أشبعت روحه وغذّت كيانه مثلما يشبع الطعام اللذيذ شهوة البطن فتسترخي حواسه وتطيب نفسه وتملأه الطمأنينة والراحة.

ولكن هل يشفي الشعر بعض العاهات التي تصيب الذاكرة عندما يكبر الإنسان فيفقد الكثير مما علق بذهنه بدءاً من ملاعب الصبا وصبوة الشباب ومغامراته والأحداث البارزة في حياته ؛ مثل حبّه الاول واقترانه برفيقة عمره والحنين إلى  ذريّته وأصدقائه والمحطات الهامة والرئيسية في حياته والتي يصعب نسيانها عند الإنسان الطبيعي السليم ؟؟

14100510_1082034818518776_6376155608046788522_n

أيمكن أن تكون كلماتُ الشعر وإيقاعُه في النفس وصورُه وخيالاته واستعاراتُه عقارا شافيا لذاكرة فقدت مرآتها وتاهت في دروب ومضائق النسيان بسبب الشيخوخة والهرم أو صدمة ما عصفت بها ؟!

وكيف يمكن الاستشفاء بالشعر وجعله بلسما شافيا ومرهما يقوم بترطيب الذاكرة وإنعاش الذهن خاصة لاؤلئك الذين بلغوا من العمر عتيّا وتجاوزوا العقد الثامن من عمرهم ووصلوا إلى  حالة الاجهاد والضعف مع تقادم العمر وخفوت لمعان الذكرى إلى  حدها الأدنى مما نسميه حالة الخرَف وفي مراحل أرذل العمر كما يقال عنها.

أذكر حالة استرعت انتباهي قبل بضع سنوات في بريطانيا وفي أحد مراكز إيواء المسنّين المصابين بحالات متقدمة من الزهايمر الذي يصل إلى  حدّ الخرف ومدى قوّة المفردات الشعرية والخيال في القصيدة في تحقيق المتعة ولو في حدّها الأدنى لدى أذهان متلقّي الشعر ، مرضى فقدان الذاكرة.

ففي تجربةٍ فريدة قامت بها السيدة ” جيل فريزر ” رئيسة جمعية ” كيسنغ آيت بيتر ” في بريطانيا ؛ دُعِي الشعر إلى  مأوىً للعجزة وفاقدي الذاكرة من المسنّين ليكون حاضرا في وسطهم  عسى أن يُعيد شيئا من وهج الذاكرة الضائعة  لهؤلاء المتقاعدين التسعة عشر المقيمين في مأوى/ هايلاندز في سترادفورد ابون ايفون وسط إنجلترا.

تقول السيدة ” ايلين غيبز ” المسؤولة عن المأوى إنها أحسّت بأن هؤلاء المتقاعدين المصابين بالزهايمر شعروا بسعادة غامرة وهم يتذكرون قصيدة ألقيت على مسامعهم من لسان إحدى المتطوعات العارفات بالشعر وكم كان نهارهم مشرقا بهيجا وهم يتعلقون بأول خيط يربطهم بطفولتهم يوم كانوا صغارا في المرحلة الإبتدائية  يقفون في طابور المدرسة ويصغون إلى  شعر العصر الرومانسي وبالذات قصيدة ” النرجس البري ” للشاعر الانجليزي” وليم  ووردزورث  ” الموضوعة في المنهج الدراسي للأدب الإنجليزي في مدارسهم وقتذك.

وقالت إحدى المقيمات في دار المسنّين  وهي المدرّسة السابقة في إحدى مدارس بريطانيا والتي تقاعدت بسبب الشيخوخة وهي السيدة ” ميريم كولي ” ذات الشَعر الأشيب المصابة بالزهايمر : مع اني لا أتذكر كلمات القصيدة لكنها حملتني إلى  ذكريات طفولتي الجميلة فقد تم تلقيني إياها في المدرسة ، حقا سأحلم بها هذه الليلة في رحلة ممتعة بخيالي وأتسلق الأشجار كما كنت في ريعان شبابي وأفترش نرجس ” ووردزورث البريّ ” وأنا في غاية السعادة.

أما الصبايا المتطوعات اللائي يلازمن هؤلاء المسنين فقد استُطلعتْ آراؤهنّ بشأن ردود الفعل التي تصدر من مرضانا السامعين، إذ تقول الشابة هانا : حينما نصل إلى  المأوى نرى كل واحد جالسا في مكانه المعتاد وعندما نبدأ بقراءة القصيدة بصوت عالٍ نلحظ لمعان أعينهم وانبهارهم حيث تمتدّ الرقاب إلينا صاغرة مصغية لما نقول وهذا أمر حسن ، أما زميلتها “انيتا ” التي تعمل ممثلة في فرقة رويال شكسبير كومباني العريقة فقد أضافت : إنه لأمرٌ رائع عندما ينضم إليك سامعوك ليصغوا إلى  شعر ” جون ميلتون ” أو” جورج بايرون ” وهم في أسعد حال.

ويجدر أن نذكر بأن الفرقة المذكورة ومقرها ستراتفورد ابون ايفون (مسقط  رأس وليم شكسبير) تشارك مسؤولي المأوى في مساعيهم للعناية بكبار السن المبتلين بالزهايمر وكثيرا ما تبعث  منتسبيها المتطوعين لقراءات شعرية منتقاة لأولئك الكبار التي تتراوح أعمارهم بين الحادية والثمانين إلى  السادسة والثمانين من العمر.

أما السيدة ” لين دارنلي ” رئيسة دائرة الصوت والنصّ في الفرقة فقالت إن وتيرة القصيدة تسري في أعماقنا فالشعر المقروء لهؤلاء المصابين ينعش ذاكرتهم برذاذ من مطر الذكريات وليس فقط التذكير بعواطف وأحاسيس مضت فالتجربة المثيرة التي حدثت للمستمعة المتقاعدة المصابة بالزهايمر ” ميريم كولي ” ذات الواحد والثمانين عاما جعلها تفيض حماسا؛ فقد كانت إحدى القصائد تتحدث عن رجل يودّع حبيبته فأجهشت بالبكاء قبل أن تتحدث بكلامها الخاص عن خطيبها الذي قتلوه أمام أنظارها ، فتقول بتأثرٍ واضح :

لم أكن قد نبست ببنت شفة منذ دخولي هذا المأوى وكان الصمت يلازمني لكن هذه القصيدة أنطقتني وتفاعلتُ معها وكانت صدى لمرحلة مهمة من حياتي حين كنت في ميعة الصبا.

وحين سؤل الممرض” ديف بيل ” المسؤول عن هؤلاء المرضى والعناية بهم والذي يلازم المسنين ولا يكاد يفترق عنهم الاّ لماماً عن مدى تأثر البقية الباقية حينما يستمعون إلى  الشعر فقال :

الشعر لايشفي من الخرف تماماً إلاّ أنه قادر كما الأغنية على تسليح المرضى بالثقة من جديد وبعدها يكتشفون أنهم يتذكرون شيئا ما رغم أنهم يفشلون في تذكر اسمهم الأول، وأكاد أجزم بأن الشعر يسمح أيضا بتجديد الروابط بين هؤلاء المرضى مع الناس العاملين بخدمتهم وبين أنفسهم أيضا وبين الاجيال الجديدة مثلما حصل بين هؤلاء والمتطوعات قارئات الشعر.

ماهذا السحر الكامن في الأدب والفنّ ؟؟ وخصوصا جاذبية الشعر الموغل في أعماقنا ، وما السرّ الذي يجعله ينفث من لسانه ذلك الطيب العبق الرائحة وينشر هواءً معطّرا من روائح الكلمات ويجنح بنا إلى  مصحّات العافية ويُدخل السرور والبهجة والمؤانسة في محيط الجسد والروح ويبعث الدهشة التي تأخذنا بعيدا على بساط  طائر في سماء الخيال القويّ الجناح فيخفق ويبسط ذلك الجناح في دواخلنا وتصحو له الذاكرة النائمة بعد أن كانت غارقة في سبات طويل.

وقديما قيل في تراثنا العربيّ : ” إن من الشعر لحكمةً وإن من البيان لسحْرا ” والحكمة من معانيها المعروفة تطبيب النفس وتطهيرها وإزالة ماعتم منها من الظلمة وإنارة طريق الصواب وإيقاد العقل ، وماسحر البيان إلاّ إنعاش القلب وترطيب المشاعر وشحذ الذاكرة وإيقاظها وتنبيهها بجرس الشعر من خلال معانيه وتراكيبه الايقاعية وجنوحه نحو الخيال ليطير بنا حيث نريد ونحطّ في محطات كنا مررنا بها سابقا في طريق الحياة.

jawadghalom@yahoo.com
_________
*أديب عراقي.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *