«الخائفات» يبدعن في الكتابة عن الخوف

*ندى حطيط

 لعقود طويلة، بقيت روايات الجرائم الشعبية في الأدب الغربي حكرًا على المؤلفين الرجال، تحكي قصص أبطال – أغلبيتهم الساحقة ذكور – يصارعون الأشرار والخيانات دائمي البحث عن الحقيقة والعدالة. لكن حتى عندما حدث وكتبت النساء روايات بوليسية (كما في حالة البريطانية آغاثا كريستي مثلاً)، فإن ذلك كان بمثابة استثناء صارخ، يؤكد القاعدة ولا ينفيها.

رفوف المكتبات في عالم الغرب اليوم تلحظ اتجاها جديدًا، سمته الشعبية المتزايدة لروايات جرائم بوليسية خطتها نساء، تغلب عليها أجواء أنثوية ومخاوف منزلية، الأبطال الرئيسيون فيها أغلبها شخصيات نسوية قلقة مشوشة، تعيش في سرد ذي حبكات شديدة التشابك.

سوق روايات الجريمة لهذا العام مثلاً سيطرت عليها بالكامل – تقريبًا – النساء، فأهم ما صدر كان لميغان أبوت التي كتبت «أنت ستعرفني»، وتانا فرينش «منتهك الحرمات»، فيونا بارتون «الأرملة»، بينما تستمر الرواية التي كتبتها بولا هوكنز «الفتاة على متن القطار» في تحطيم الأرقام القياسية للمبيع، وسيتم تقديمها لاحقا فيلما سينمائيا.
1-r46GVAX-8C2xRaSZYDdmtA

الحقيقة عند التدقيق، نجد النساء قد كتبن قصص جرائم شعبية في كل المراحل (روث رنديل في الستينات، بي دي جيمس في الثمانينات)، لكن يبدو أن صناعة النشر أدركت متأخرة تفوق الإقناع بالنسبة للجريمة التي تخطها أصابع النساء على ما يكتبه الرجال، وبالتالي العوائد المالية، ولا سيما إذا ما علمنا أن معظم جمهور روايات الجريمة في الغرب هن النساء. «المرأة تبدو أقدر على التعبير عن أسوأ المخاوف التي قد تدور بعقل الإنسان»، يقول ناشر بريطاني معروف كان يتحدث لـ«الغارديان» البريطانية عن روايات الجريمة التي صدرت حديثًا. هذا قد يفسر لنا كون جمهور مهرجانات كتب الجريمة والإصدارات الجديدة في لندن مثلاً تغلب عليه النساء. فبحسب آخر الإحصائيات، فإن 80 في المائة من كتب الجريمة التي تباع سنويًا في العالم (تقدر بـ21 بليون نسخة) تشتريها وتقرأها النساء.
غغ

لكن على مستوى أعمق، فإن تصدر المرأة للكتابة عن الجريمة في الأدب الشعبي الغربي خلال السنوات الأخيرة يبدو أنه ارتبط بمناخ عام من أجواء القلق والتخوف وانعدام الثقة الذي شهدته المجتمعات الغربية بُعيد الأزمة المالية العالمية، التي وإن كانت بدأت في 2008، إلا أن تداعياتها ما زالت مستمرة حتى اليوم. النساء طبعًا دفعن الثمن مضاعفًا في بيوتهن، فهن لم يخسرن اقتصاديا فحسب، بل وخسر أيضًا شركاؤهن الرجال، وشعرن باليأس والفشل والخوف والانكسار وهو ما انتقل معهن إلى البيوت، حيث لم يعد المنزل مكان الراحة والأحلام، بل مكانًا للتوجسات والانفعالات وأسوأ الكوابيس.

كاتبات الجريمة النساء نقلن أبشع مخاوف عصرنا البائس إلى المكان الذي خلق ليكون الأكثر أمنًا: المنزل. هن خلقن أكثر لحظات التوتر في بنية روايات الجريمة الجديدة. وتلاحظ الروائية ميغان أبوت – كانت تتحدث عن روايتها الجديدة للصحف – أن الكاتبات الجدد في عالم الجريمة «لم يعدن يقبلن بأن تلعب النساء أدوار الضحية». فهن في روايات الجريمة اليوم «جزء من ديناميكية الفعل في صراعات المنازل».

النساء أقدر فيما يبدو على تقمص مشاعر الرعب والقلق المتلازمين، بسبب من الشكل الاجتماعي للحياة المعاصرة المأزوم الذي يجعل النساء يفكرن بالجرائم بصفتها وجبة تهديد يومية. الرجال عادة لا يعيشون مثل هذه الهواجس؛ فالعلاقة بين الخوف والمرأة علاقة شخصية متينة، المرأة تتقن الخوف وتتهجاه منذ نعومة أظافرها التي تغرزها لإدماج أعاصير المخاوف في قوالب روائية. إنهن يعاقرن هذا الشعور الغامض بالفزع في كل مرة يضطررن إلى المشي ليلا، أو في أماكن غريبة، أو عندما يكن وحيدات في فندق أو قطار، أو عندما يسقطن في مخالب مجرم. إذن، هن الأقدر على تفهم شعور الضحية والتحليق في عوالم من فزع. ولذلك؛ جاءت روايات الجريمة الجديدة التي كتبتها النساء تتمتع عمومًا بنَفَسٍ يشبه روايات الجرائم الرومانسية القوطية التي فيها إحساس مستمر بالرعب، وليس نتيجة لحوادث متباعدة. وهكذا يشعر القارئ وكأنه علق في متاهة لا نهاية لها، ويكاد يصرخ من استمرار التخويف في كل انحناءة طريق.

574ebbb0f2b0ab6d230d629e

بالطبع، حديثي هنا مقتصر على روايات الجريمة في الأدب الشعبي التي تكتبها نساء العالم الغربي، وهو نوع أدبي يكاد يكون غير موجود في العالم العربي (ربما باستثناء محاولات قليلة في مصر ما بعد يناير/كانون الثاني 2011)، لكني لا أقدر إلا أن أعرج على مقدار جرعة الخوف اليومي التي تعيشها نساء عربيات في سوريا والعراق وفلسطين وليبيا، وكيف لو أن مجتمعاتنا العربية تمكّن المرأة من الكتابة والتعبير الأدبي الحر، لكان لها شأن في كتابات الرعب لا يدانيه أحد من الشعوب.

الملاحظ أيضًا أن أداء النساء في روايات الجرائم فيما يتعلق ببنية شخصيات العمل مختلف، بصفة نوعية، عما يكتبه الرجال. فهن – على العموم – غير مكترثات بأن تكون الشخصية الروائية الرئيسة محبوبة ومكتملة، بل هن يبدعن شخصيات قلقة، غير متزنة، فيها عيوب ونقائص وهفوات تجعلها أقرب لواقع الإنسان المعاصر. وهو ما كتبت عنه مجلة «أتلانتيك» الأميركية المعروفة مؤخرًا، فقالت: إن الروايات المعاصرة التي تكتبها النساء تتفوق لأنها بكل بساطة لا تحتاج إلى أبطال خارقين مكتملين، بل هم أناس عاديون مثلي ومثلك – الأبطال الذين هم ليسوا أبطالا. وهكذا بينما تجد لدى أقسى المجرمين في الروايات التي يكتبها الرجال وجهًا إنسانيًا على نحو ما، تجد القاتلات في الروايات التي تكتبها النساء قادرات على الوصول إلى أحلك زوايا السواد في السلوك البشري.

التلفزيون والسينما بالطبع تلقفا بدورهما هذا الاتجاه المتصاعد في الثقافة الشعبية، وهناك الآن مجموعة أعمال ستعرض قريبًا على الشاشات تبدأ من إعادة تقديم أعمال الجرائم البوليسية التي كتبتها أجاثا كريستي منذ ما يقرب 100 عام على «بي بي سي» إلى مجموعة من أفلام هوليوودية عن أعمال الروائيات الجدد. وتشير تقديرات الخبراء بأن هذه الأعمال تحظى بترقب عال من قبل جمهور النساء بالذات، وغالبا ستحقق أرقامًا قياسية.

هل صعود النساء في عالم الكتابة عن الجريمة ظاهرة مؤقتة مرتبطة بالظرف الموضوعي اجتماعيًا واقتصاديا وسياسيا، وقد تزول إن تجاوز مجتمعنا المعاصر أزماته، أم هو تصحيح دائم لاتجاه سيبقى في عالم الأدب؟ هذا سؤال يحتاج إلى سنوات على الأقل قبل أن يجيب عنه أحد. لكن يتفق الجميع بلا أدنى استثناء، خصوصا في صناعة النشر والسينما على أن شيئا ما قد تغير في أفق رواية الجريمة المعاصرة.
_______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *