رواية نوستالجية مغايرة عن «ولادة الفلسفة»

*أحمد مغربي

الأرجح أن الزميل عفيف عثمان في ترجمته كتاب الفيلسوف الإيطالي جورجيو كولي (1917- 1979) «ولادة الفلسفة» (دار المعارف الحكمية/ بيروت- 2016)، تنكّب جهداً دؤوباً في جعل الترجمة مهمة فلسفيّة أيضاً. فالترجمة تصلح نموذجاً لوصف الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر الترجمة بأنها فعل مزدوج يتطلّب انزراعاً في النص- الأصل ولغته وتضميناته ومحمولاته، ثم السعي إلى إنتاج ذلك النص- بلغة ثانية- يكون محمّلاً بأشيائه الأصليّة.

وصدّر عثمان، وهو أستاذ فلسفة في الجامعة اللبنانيّة، ترجمته بمقدّمة توضح جَمعَ أفكارٍ متضمّنة في نص الفيلسوف كولي، وتبرز سياقها في مجمل تفكيره الفلسفي. وتحيل هوامش المقدمة إلى مجموعة من مؤلّفات كولي تتضمّن دراساته عن الفلسفة وتاريخها. وبمعنى ما، تنجح تلك المقدّمة في استدراج العين لقراءتها، كما أن نص كولي يفتح مضامينه بسهولة أكثر بعد قراءة المقدمة، خصوصاً لمن هم خارج التراث الثقافي لأوروبا.

وتلفت المقدمة إلى أن كتاب «ولادة الفلسفة» هو نصٌّ أُعدّ أصلاً ليقرأ ويذاع في حلقات بثّت على الهواء من الإذاعة الإيطاليّة في 1947، لا ليكون نصاً مكتوباً، على رغم تعقيد موضوعه وكثافة استدعاءاته للميثولوجيا اليونانيّة ورموزها ومدلولاتها. وربما يفسر ذلك أن نص كولي لا يتضمّن هوامش أو شروحاً، بل يتدفق بإيقاع من يتحدّث أصلاً مع نفسه بصوت مرتفع.

يبدو صدور النص الكلامي لفيلسوف كولي في كتاب مطبوع (1975)، كأنّه «خروج عن النص» بالنسبة إلى أفكار كولي نفسه عن الفوارق بين ما يقال شفاهة وما يصاغ في نص يتجمّد لحظة كتابته على الورق. ومن المستطاع المغامرة بالقول أن «ولادة الفلسفة» المُكرّس لوصف لحظة الولادة للفلسفة الغربيّة المتّصلة بمشروع العقلانيّة والحداثة (وربما ما بعدها)، يمكن الدخول إليه من كلمتين مع ضد لكل كلمة: «ميتافيزيقا- فلسفة» و «مشافهة- كتاب». ومع تذكّر أن كولي كرّس الكتاب ليقدّم «رواية مغايرة» عن تلك الولادة، ينداح سؤال عن مدى كونها «مغايرة» فعلاً، وبأي معنى؟ هل أنّها سرديّة مغايرة حقاً عن تاريخ الفلسفة أم نوستالجيا لتصوّر معين عن ما قبل الفلسفة، بمعنى أنها خروج يتوافق (خصوصاً في زمن تأليف النص) مع «تصدّعات» الحداثة التي تراكمت وصولاً إلى ما بعد الحداثة.

وفي «ولادة الفلسفة»، يبدو كولي كأنه يسعى إلى مغادرة مجمل مغامرة الإنسان في غرس نفسه وعقله في الوجود والكون والسعي لاكتشافهما والتحاور معهما، بداية من هجران الفلسفة التي كانت بداية التفكير الإنساني. وبحنين نوستالجي، يرى زمناً ذهبيّاً قوامه ما قبل بداية الفلسفة، وتاريخ ما قبل انفصال الإنسان عن الميتافيزيقا الميثولوجيّة التي كانت «ديناً» إغريقيّاً وظلت وثيقة الوشائج بالدين غرباً (وكذلك شرقاً). إذا صحت الكلمات الأخيرة، (وهي «إذا» كبيرة مهما حاول المقال مساندتها)، يكون كولي وثيق الصلة بفلاسفة كهنري برغسون وبنديتو كروتشه وسورين كيركغارد غرباً، ومدارس آسيويّة (كونفوشيوس، الـ «تاو»، والـ «زن»…) بل أيضاً روحانيات طاغور وإشراقيّاتها الميّالة إلى أثواب الحكمة، على غرار ما يترسمه كولي. وليس ذكر طاغور عرضيّاً. إذ مُنِحَ ذاك الذي وُصِف بـ «الحكيم الشرقي» جائزة «نوبل» في الآداب في 1932، ما يدل على أن التفكير في الغموض ومغادرة الحداثة كلها بدعوى ترسّم روحاني، كان دوماً حاضراً، بل إن نبرته تعلو وتخفت بالتفاعل مع عناصر شتى في الثقافة والاجتماع والسياسة وغيرها.

عتبة الميتافيزيقا

يرجع «ولادة الفلسفة» بكثافة إلى الميتافيزيقا الإغريقيّة، قارئاً علاقتها مع فلاسفة ما قبل سقراط الذين يرى أنهم امتلكوا «الحكمة» التي يعطيها معنى الاستقاء مباشرة من تلك الأساطير على طريقة عرّافات «دلفي» المتلقيات إلهام الألهة وصراعاتها مباشرة. ويستعيد كولي أن تلك العَرافَة عبّرت عن نفسها بطريقة «اللغز» الذي يرفع صاحبه إلى مرتبة الحكمة مع هالات تشبه القداسة والقسوة التي ترافقها أيضاً. إذا حلّ اللغز (أو إذا فشل حكيم في حلّ لغز)، تنهار تلك البنية، بل يموت شبه الإله الأسطوري أو الحكيم، مع تحكّم الآلهة وصراعاتها بمصائر البشر ومعارفهم أيضاً! نملك مثلاً شهيراً عن ذلك في «مأساة أوديب» لسوفوكليس، عن كائن متحكم بالمصائر يلقي لغزاً (ما الذي يكون في أول النهار على أربعة، وفي منتصفه على اثنين، وفي آخره على ثلاثة؟ وبمجرد أن يحلّ أوديب اللغز («إنه الإنسان»)، يموت ذلك المتسربل بهيئة إلهٍ إغريقي. في المقابل، يلاقي هيرودتس الموصوف بأنه «الأشد حكمة بين الإغريق» صيّادين عادوا خائبين لكنهم فلّوا أنفسهم من البراغيث، ورموا ما استطاعوا استخراجها في البحر. يلقون عليه لغزاً (ما حصّلناه تركناه، وما لم نحصله، حملناه معنا)، ولما حار جواباً، مات فوراً. ولأن اللغز المتقاطع مع الموت يعني أنه متقاطع مع الآلهة أيضاً، يكون درباً مفضّلاً للحكمة، خصوصاً أنه يجبر على الحوار. ويشير كولي إلى أن بداية الفلسفة كانت في ترك أفلاطون الميثولوجيا والألغاز والحكمة، واستبداله بحب الحكمة (وهي المعنى الحرفي لكلمة فلسفة) مع ما رافقها من فلسفة ومنطق وكتابة.

ويفوت كولي تماماً أن بداية ادعاء الحكمة المتصلة بالآلهة الغابرة وبضرب العرافة هي كانت دوماً على حساب الإنسان الذي يبقى هامشاً أبداً، ولا ينهض في شأن نفسه وكينونته وكونه وفكره وعقله. وأكثر من ذلك، كانت بداية «حب الحكمة» هي أيضاً بداية العلوم على يد الفلاسفة الأوائل الذين جمعوا الفلسفة مع العلوم، خصوصاً الرياضيات لدى أفلاطون والفيزياء والطب وبقية العلوم عند أرسطو. ابتدأ كل مسار مغامرة عقل البشر وصعدت قصة الإنسان والمعرفة، منذ تلك الولادة المزدوجة للفلسفة والعلوم، وتلك بداهة لا يتحداها كولي، بل تبدو غائبة غياباً صارخاً يجعلها أقرب إلى مقتل (أو «كعب إخيل»)، لمجمل دعوى كولي.

المدرسة وانتشار الفرد المجادِلْ

ماذا عن سقراط، نقطة البداية المرجعية للفلسفة؟ يقرّ كولي لسقراط بوضع خاص فيصفه «بآخر الحكماء»، ويقرّ بمعرفته بالميتافيزيقا الإغريقيّة وآلهتها. وأيضاً، يغيب بصورة مدويّة علاقة محاكمته وبكونه «آخر الحكماء»، مع بداية الفلسفة. وحوكم سقراط لأنه حرّض على التمرّد على الميتافيزيقا المدعيّة القداسة، وحرّض كل شخص على أن يفكر نقدياً بما يلقى إليه. ويورد كولي نقدية سقراط، لكنه يصمت عن كونها نقداً للميثولوجيا وآلهتها، بمعنى أن سقراط بدأ الانفصال المؤلم للإنسان عن الغيبي، وزرعه في كون يتولّى هو شأنه فيه، ولا يعني ذلك الانفصال عدم «معرفته» بالغيبي. وعند هذه النقطة، يعود السؤال عن مدى مغايرة سردية كولي لبداية الفلسفة، عن تلك المعروفة والسائدة.

ويفيض كولي بالحنين إلى زمن ما قبل الفلسفة، مشيداً بأن تناقل «الحكمة» كان يجرى بالجدال والنقاش بين الأشخاص. ويعيب على الكتابة أنها تجمّد النص بالتدوين، فلا تتسنى إثارة جدال متفاعل مع الأفكار.

وأيضاً، يغيب في شكل مدوٍّ تماماً عن سردية كولي، أن الكتابة والتدوين أدّيا أيضاً إلى ولادة المدرسة (بمعنى النظام التعليمي)، التي تتضمّن تفاعلاً مستمراً بين الأشخاص، خصوصاً مع الأستاذ- المعلّم. وهناك رمزية مكثفة في ذلك السياق، لكون أفلاطون دوّن ما قاله سقراط، لكنه افتتح أول مدرسة في أثينا لم يكن النقاش ليتوقف فيها مع تلامذته طيلة حياته. وعُرِف منافسه «المعلم» أرسطو بأنه لا يكف عن المشي أثناء نقاشه المعارف مع تلامذته، بل عرفت فلسفته بـ «المشائيّة». وفي ظل التدوين والكتابة والمدرسة والتعليم والمعلمين، ولدت العلوم وتوسّع انتشار المعرفة وتبادل، بل وُلد الإنسان المتعلّم الذي يفترض أنه يقضي سنوات من عمره مكرّساً للنقاش والجدال.

هل يحتاج الأمر إلى برهان في علاقة الكتاب والمدرسة ونظام التعليم، مع تقدّم البشر وعمرانهم ومعارفهم وحضارتهم؟

____
*الحياة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *