الحيّة والثعبان

خاص- ثقافات

 

*يوسف غيشان

 

على زمان الكتاتيب، كان أحد الأساتذة، غير العرب، يعلم التلاميذ اللغة العربية، عن طريق ترجمة مقاطع من كتاب فقهي ، وقد ترجم  لهم عبارة: ” إذا وقعت الفأرة في السمن، فخرجت حيّة ، يبقى السمن حلالا”، لكن أستاذنا  اختلطت عليه اللغة فترجم كلمة (حيّة) إلى (ثعبان) بتلك اللغة . أحد التلاميذ الأذكياء لم يصدق الأمر فقال للمعلم:
– ياسيدي ..كيف دخلت فأرة إلى السمن وخرجت ثعبانا؟.

فقال الأستاذ:

– اسكت أيها الفاسق ..إنها قدرة القادر.

أنا أشبه الكاتب الناقد بذلك الولد النبيه ، وأشبه قوى الشد العكسي بذلك الأستاذ الضعيف( ولا أنكر أن هنالك  في كل مجتمع أساتذة أذكياء في ممارسة الشد العكسي) الذي يحاول  تغطية ضعفه  بقدرة القادر.

هذا الطفل النبيه هو الجد الأول للكاتب الناقد ، بعد أن انتقل من مرحلة السؤال والدفاع، إلى مرحلة الهجوم لتحرير مجتمعه من هكذا أساتذة ….إنه  الناقد لنواقص مجتمعه الذي يتعرض دوما  إلى  منظومة من آليات الدفاع والهجوم من قبل مجتمعه،وهذا أمر طبيعي جدا، لأن النقد هو تورط كامل في معركة الحياة، وانحياز إلى جانب التغيير نحو الأفضل.

 هذا الانحياز  يلاقي الكثير من المقاومة من قبل المستفيدين من الأوضاع الحالية للوطن..أقصد الوطن العربي الكبير الذي يجمعنا تحت راية العروبة والإسلام ، عربا عاربة ومستعربة، بدوا وفلاحيين وحضريين، بيضا وسمرا وصفرا وآريين، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، كاثوليكا وأورثوذوكسا وبروتستانتا  ،عربا وسريانا وأقباطا وبربرا وشركسا وشيشانا  وجميع ما لم يذكرمن مكونات العالم العربي الكبير، المتمطي على قارتين كالديناصور النائم.

حتى لو افترضنا أن الكاتب الناقد –السخرية أحد أساليب الناقد – يقوم بجلد شعبه وأمته، فإن ما يسمونه جلدا للذات قد يكون تطهيرا لهذه الذات وتنشيطا لقواها الداخلية الحية،  و(مساجا) للعضلات الروحية، المرتخية والمتشنجة معا.

بدون التشخيص الصحيح سيكون العلاج مجرد تسويف وتغطية، وربما قتلا بطيئا، وجريمة منظمة تقترف بطيبة قلب. والتشخيص الصحيح والسليم يعني فيما يعني تفقد كافة أجزاء الجسم بكل دقة، والتأكد من سلامة الأعضاء ومعاينة تلك الأعضاء المريضة والمصابة، وتقديم تقرير كامل بحالة الجسد للطبيب المعالج، وهذا الشخيص بالطبع لا يحتمل المحاملة والتغطية على الدمامل بالمساحيق ، بل ينبغي تحديد احداثياتها بدقة، تمهيدا لفقئها وطرد قيحها ومعالجتها، قبل أن تتحول إلى سرطانات سهلة الإنتشار، وقاتلة.

أما الكاتب الناقد فهو مريض على الأغلب بالتمرد الدائم على الواقع المعيوش، مريض بالتمرد على البداهات التقليدية ، مريض، يتأوه ويتنهد ويتعذب ، فتخرج أناته  على شكل خليط سحري عجيب وفوضوي …من السخرية والمرارة والمقاومة والعبث… والعدمية أحيانا.

مريض بالبحث عن آليات جديدة ومبتكرة لنقل المعادل الشعوري لمواقف الناس السياسية والاجتماعية والإنسانية.

مريض بالسعي الدائم والدائب  والقلق من أجل التعبير السليم عن واقع يعيشه مع بقية الناس ،واقع لا يرونه ولا يقرؤونه في الجرائد الرسمية ولا في تصريحات وزراء الإعلام.

الكاتب الناقد مريض ..أعترف بذلك!!

لكنه طبيب أيضا …..طبيب لا يعالج ولا يشفي ، لكنه يشخص ويوثق لمجتمعه…يشخص عيوب السلطات أمام الناس ويفقع بالونات البروبوغندا ويبصق على الهالات المزيفة التي يضعها المستغلون(بكسر الغين) حول أنفسهم.

وهو لا يكتفي بذلك ، بل يشخص أخطاء الناس أيضا وممارساتهم التي يصورها بشكل كريكاتيري يجعلهم يعون ممارساتهم المغلوطة ، لعلهم يفكرون أكثر إذا قرروا ممارستها مرة أخرى.

يشخص ممارسات الناس السلبية التي تضر بهم وبمصالحهم وتحتقر إنسانيتهم ، وينتقدهم لأنهم لا يقاومون الفساد والخواء، ويضعون الحق على الآخرين ، في عملية إسقاط نفسي تساهم في تكريس الجهل والرعونة والتخلف الإرادي، وتترك الساحة خاوية  للقامعين الذين (يتفرعنون) على الناس ما داموا خانعين وقانعين وساكتين.

الكاتب الناقد أيضا، يوثق لمجتمعه ..يوثق التاريخ والتأريخ الذي أخفته الجهات ذات المصلحة ، فإذا لم نستفد الآن من تشخيصات الناقد في هذا الزمن ، فربما تتهيأ الظروف في المستقبل، لأجيال قادمة الاستفادة من هذا التوثيق، لتغيير واقعهم.

الناقد لا يحمل مفتاح الحل، ولا يعرف رمز الأقفال، ولا يجيد فتحها عن طريق الإستماع إلى تكتكاتها أو نسفها في الديناميت، وإلا تحول إلى فوضوي.

الكاتب الناقد هو ذات الطفل الذي رفص ترجمة (حية) إلى ثعبان.

ghishan@gmail.com
___________
*كاتب اردني.

 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *