خرائط ” كروننبرغ ” ونجومه.. شهادة سينمائية عن مهالك هوليود (فيديو)

 خاص- ثقافات

*أحمد ثامر جهاد

ليس من اليسير على المشاهد استبعاد صورة النبوءة التي حفل بها فيلم ” خرائط إلى النجوم”  للمخرج الكندي”ديفيد كروننبرغ” عن أفول مدينة السينما “هوليود” بفعل انحطاطها، وهو الذي لا تهمه، نظرا لخصوصية اختياراته الفيلمية، فرية الأحكام الآنية، وكان عُدّ في غير عمل سابق له، من نوع المخرجين الذي تمردوا على سياق “النوع”، وانقادوا للتجريب في إبداعاتهم السينمائية عبر أكثر من مضمار درامي ونوع فيلمي، وكأنه يراهن على ما هو غير معتاد أو حتى بعيد الاحتمال. وكان كروننبرغ قد ترك للجمهور قبل نحو عامين فيلما يعد إلى حد ما، عصيا ومتقشفا بما يصرح به، هو”كوزموبوليس” سيحتاج إلى وقت أطول للحكم عليه.

الأمر ذاته قارب تصريح المخرج كروننبرغ عشية اللغط الذي رافق عرض فيلمه “خرائط إلى النجوم” من أن مغزى الفيلم سيلقى تقديره في زمن آخر. لكن أليس من الأجدى لنا وضع كروننبرغ في سياق أفلامه ذاتها، للاقتراب من دعواه المثيرة  دوما، في محاولة متواضعة لتمرير بطاقة مخرج دؤوب حفلت سيرته بأكثر من أربعين فيلما. هل نحتاج لمعاينة هوية كروننبرغ في سياق أوسع، التذكير ببعض أفلامه السابقة على قدر قوتها التعبيرية ولغتها السينمائية المميزة وغرائبيتها أحيانا:

Videodrome) ، A History of Violence ، Eastern Promises ، Crash ).

682

المخرج الموسوم بالمهارة والمعرفة يمكنه التوقع أن فيلم “maps to the stars” سيكون بنظر بعض المشاهدين قطعة مهلهلة من خيال سقيم منذور للجنس والعنف والغرابة. مثلما يمكنه الدفاع عن فيلمه بوصفه احتجاجا ملتزما على كل ما يميز قصة”هوليود” عند الأمريكيين الفخورين ببهاء مملكتهم الأسطورية.

هجاء مرير يقدمه كروننبرغ للمدينة الاستثنائية أو ما يسمى بماكنة الذهب”هوليود” التي تغذي علاقاتها الراسخة لدى مشاهيرها حس التنافس والغيرة والمكائد، فيما تواصل استوديوهاتها العملاقة على مدار عقود طويلة إنتاج أفلام تافهة وبذيئة ومثيرة للسخرية، مفسدة للعقول ومخربة للذوق، وعليه ليست موعظة أخلاقية القول إنها بحاجة ماسة إلى دماء جديدة. لكن من سينصت لنداء كهذا، من دون ضربة موجعة على الرأس؟

maps-to-the-stars-2014

في سياق كهذا ربما يمكننا تصور المسوغات المرجحة التي دفعت المخرج لتجريد أحداث فيلمه من المعاني المتوقعة، لتكتسب الصورة لديه بعدا آخر، لا تعدم رمزيته، حينما يتعلق الأمر بنظام العلاقات بين الأشياء( الإنسان، القيم، العالم المنشود) وإن اتسمت الصورة هنا بثقل مفزع على الشاشة، عبر مشاهد حفلت بنزعات غريبة لأناس مشهورين يتعاطون يوميا صنوف الرياء والابتزاز، وينمّون في منازلهم وشركاتهم الفارهة أوهامهم ورغباتهم المشيطنة، كما ليس من الوارد استبعاد حاجة البعض إلى القتل كـ(حل) أمثل إذا اقتضت الضرورة ذلك.

كاتب سيناريو شاب يأمل من عمله (سائق سيارة ليموزين) أن يثير فضول نجوم السينما الذين يصادفهم لقراءة أعماله الفتية، أملا في الدخول إلى حيز الشهرة. فيما تجهد الممثلة”هافانا- جوليان مور” التي أفلت نجوميتها، لممارسة تصابيها، الخضوع لجلسات العلاج النفسي، أو القيام  بأي شئ آخر بوسعه إعادة بريقها، من أجل إطفاء قلقها، ولو عبر التعلق بطيف والدتها”النجمة السينمائي السابقة” والذي سيوصلها إلى حد ارتكاب أفعال حمقاء لمجرد الفوز بدور سينمائي يجسّد على الشاشة سيرة الأم المحبوبة جماهيريا.

349

للوهلة الأولى سيبدو كل شئ غير مترابط، ويفتقد إلى المنطق، لكن مع اقتراب المخرج من دواخل شخصياته والتعبير عما هو غير منظور فيها، سيمكننا التعامل مع فكرة أن الحاضر بات أكثر استعداءً للعقل واستعصاءً على الفهم، خاصة مع من يملكون القدرة على صياغة صورة عالمنا. وكلما توغلنا في أحداث الفيلم تعرفنا أكثر على باطن شخصياته الموتورة داخل إطار أريد له أن يلخص عالم هوليود بشريط إخباري متطرف ومبالغ فيه عن حياة نجومها وخطاياهم. فهذا “بنجي” نجم يافع متعجرف ومدلل، يعيش -في ظل رعاية والديه المشهورين- أجمل لحظات نزقه وغطرسته، من دون أن يجد خلاصا لمخاوفه من الأشباح التي تطارده في خلوته، فيما تعود ذكرى أخته”اجاثا” التي نفيت بعيدا عن العائلة عقب اتهامها بافتعال حريق في منزل الأهل لدوافع غير واضحة، كاد أن يؤدي بحياة الرضيع”بنجي”، فتم منذ ذلك الحين هجرانها من قبل عائلتها عقوبة عما اقترفته. لكن الفتاة الطموحة تحضر هذه المرة كواقع فعلي يحوم حول مبتغاه المحظور.

 ورغم تحذيرات العائلة التي تخشى على سمعتها من لوثة الابنة، تصل أجاثا(ميا واسيكوسكا) إلى عزلة “بنجي” وتتلاشى المحظورات أمام قوة أحاجيها المغوية وكلماتها التي تحمل أصداء قصيدة الحرية لايلوار، إنه نوع من تسلل شهواني مشفوع بهوس المراهقين بفردوسهم المتخيل. ستكون اجاثا فيما بعد مساعدة”هافانا” وكاتمة أسرارها، لكن عزيمتها على الدخول إلى مدينة الأحلام وتحطيم قيودها ستضعها في محور الأحداث اللاحقة للفيلم، لتكون الفاعل الأهم ونقطة الترابط في مسار الأحداث، خاصة وهي ترسم في مشهد قتل”هافانا”في منزلها، بضربات دموية تعرض مفصلة، وتمررها الكاميرا بلقطات بليغة تنحدر في زوايا تصوير متقنة، تظهر أقسى تعبير يمكن تصوره على وجه سيدتها التي تسقط مضرجة بدمائها وأوهامها مثل أيقونة تراجيدية تنحط إلى عالم سفلي.

 أثار هذا المشهد مع مشاهد جريئة أخرى، حنق بعض المشاهدين الذين عدوه مبالغة غير محبذة وتهويل قاس لخطايا النجوم الذين لا يختلفون عن سواهم من البشر، لكن الصورة السينمائية في نهاية الأمر لا تمتثل إلا لجدارتها في اقتناص الإحساس الجمالي، وان أفضى معناها إلى التعميم غير المحبذ.

***

يمكن القول إن الأحداث مصنوعة بجمال، لكن بسهولة بالغة لا تستبعد الكليشيهات النمطية، والأشد إزعاجا أنها متحيزة ثقافيا واحتجاجية بشكل فج. فالأحداث تتحرك حينا في مسارات كما أراد لها المخرج أن تكون، وليس وفق منطقها الداخلي الذي يفترض أن يوجه نظام سرد أحداث الفيلم ويرسم شخصياته. سنرى الفتاة الحالمة اجاثا التي تنوء بحمل الماضي، مقادة بوعي يتخطى خبراتها المحدودة المقتصرة على حدوس الغريزة المجربة، وإن كان قدومها إلى مدينة النجوم بحثا عن الشهرة، سيعني بحال من الأحوال رغبة دفينة في العودة إلى نوع من البراءة المنشودة، ستبدو مجسدة في المشهد الأخير الذي يجمعها مع أخيها بنجي بعد أن تخلص من أعباء سلطة الأب المنغمس سرا بعلاقة محارم أثمرت طفلين فريدين سيرسمان أقدارهما مثل آلهة تتناسل في السر.

ولطي صفحة الماضي الكريه بوحي القدرة على النسيان ومواصلة الحياة، يرقد بنجي وأخته المنتشية في العراء، يهمسان لبعضهما تحت سماء واعدة. هذا العالم المصنوع، البراق، لا حدود لنزواته ونزقه وجنونه، يعلمنا كروننبرغ ذلك، لكن على طريقته.

b92d9-maps3

يمكن القول ان كروننبرغ اختار طريقته الخاصة- وان كانت غير مكتملة أو مقنعة في بعض مواضعها- للشهادة على أن هوليود لم تعد مفخرة للأمريكيين كما كانت في عصرها الذهبي، صناعة الأحلام الجميلة باتت موبوءة بالجشع والاستغلال ولم تعد بنظر العديد من روادها أكثر من تفوق تقني حتمه تطور الآلة وهوس المنتجين.

أمر كهذا يدعونا للتفكير في النمط الثقافي الأمريكي برمته، بغية إفساح المجال لنبوءة سينمائية تستشرف مستقبل مملكة ذهبية تحمل عوامل نجاحها وانهيارها في الوقت ذاته، أسوة بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ. ولكن قد يثمر ذلك النزوع في نهاية الأمر عن فيلم شديد الغرابة والسخرية، فالنوع الحكائي الأليق لجعل الأشياء قابلة للفهم يتطلب وضع الأحداث في إطار أوسع لمنح التعارضات الأشد تمايزا مسوغات مقبولة وشكل فني ملائم.

يشير كروننبرغ إلى انه تعامل مع سيناريو معقد وطويل جدا لبروس واغنر وكان عليه ان يختصر الكثير من صفحاته، ليمنح الفيلم صبغة حداثة مناسبة. وقد تكون النتيجة لغير صالح الموضوع الذي كان يمكن تناوله من دون تصنع أو ادعاء أو إجابات نهائية. صورة قاسية مشفوعة بالدم والأوهام والجنس هي كل ما يبقى مهيمنا امام أي تأويل ممكن يحاول تلطيف هذه الدراما الجحيمية التي تسعى إلى أن تكون ملفتة في هجائها المقذع لعوالم السينما الأمريكية.

هل ما زلنا بحاجة إلى مسوغات كافية تجمع بين سائق ليموزين يحلم بالنجومية مع فتاة مضطربة تبحث عن مغزى حياتها الضائعة وممثلة تشعر بالغيرة ويقتلها الإهمال بعد أن أدركها العمر، لنكون أمام أحداث نموذجية تدفع القصة إلى مناطق مجهولة، أشد تطرفا وأبعث على الأسى؟ حينذاك ستهتز الموازين بشكل غير مسبوق ليصبح كل شيء عرضة للانهيار.

في هذا الفيلم قدمت الممثلة “جوليان مور” التي تخطت عقدها الخامس عرضا أدائيا ملفتا نالت عنه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان، وتسببت مشاهدها العارية في الفيلم في إثارة جدل واسع عشية عرضه في مهرجان القاهرة. فيما اعتبر النقاد أن دورها الملفت في هذا الفيلم هو الأكثر جرأة في تاريخها الفني منذ ظهورها بدور الأم الشهوانية في فيلم  “savage grace-2007”.

هوليود: الحلم والقسوة

46256_slip

كان” نهاية هوليود-2002″ فيلما متوقعا في مسيرة وودي آلن، مخرج ومثقف من طراز خاص، عرف جيدا عبر مسيرة فنية طويلة، كيف يسدد ضرباته لكل ما يثير حنقه، وبأسلوب تهكمي لا يضارعه أحد في إتقان صنعته ليغدو لاحقا بصمته الأسلوبية الفريدة. فيلم آلن، المخضرم في صناعة الأفلام والعارف بخباياها، يقولها ببساطة معهودة، ضمن إطار سردي واضح لدراما ساخرة تعاين أجواء صناعة السينما وكواليسها من خلال شخصيات، يقودها آلن ذاته عبر تأديته شخصية المخرج ” فال وكسمان”.

1468398092_3

أية سخرية أقذع من تلك التي تجعلك تتفرج على عالم زائف، لا حقيقة ولا مقدس ولا قيمة أخلاقية تحكمه، عالم منذور لسلطان المال والشهرة والرياء. في “نهاية هوليود” تخلص وودي آلن مما يؤرقه ولخص على ما يبدو أغلب أرائه ومواقفه التي عرف بها طوال حياته الفنية.

السخرية هذه المرة تطال كل شيء له علاقة بأوضاع الفنانين في أمريكا، محنة العمل في ظل ظروف تعسفية تقود أحيانا إلى الابتذال واللامبالاة، من خلال النظر إلى طبيعة الأخلاقيات والتقاليد التي تحكم مسار العمل السينمائي لدى المخرج والمنتج والممثل في سياق علاقاتهم المهنية وحياتهم العاطفية.

1468398180_4

قبل وبعد فيلم نهاية هوليود، شاهدنا عددا غير قليل من الأفلام التي تناولت بالهجاء الحيوات المضطربة لنجوم السينما وسطوة هوليود على من يعزم دخول عوالمها وتشرب لذائذها بمعية الثمن الذي ينبغي دفعه للاستمرار في مجد الشهرة. إجمالا، في هذه المدينة الأسطورية، ليس ثمة مكان للنوايا الحسنة، فإذا لم تكن نجما أو في طريقك إلى النجومية، فماذا أنت فاعل في هوليود؟

غرابة حياة المشاهير محكومة بنظام نفعي أهوائي خاضع لماكنة عملاقة ترسخت أعرافها طوال عقود لتصبح فيما بعد، أنجيل المدينة السحرية ودليل نجاحها القاري.

لكن هوليود رغم بوصلتها التي تنحاز لحمى شباك التذاكر لن تخلو يوما من الأفكار الخلاقة التي تجعلنا نعاف بضاعتها الباهتة من أجل قطاف جواهرها الأثمن في أحايين عدة. مع أن البضاعة المستهلكة ذاتها ما زالت تثير حماس الجمهور حول العالم بعد أن أدمن البطولات والغرام وتشرب لذاذة وصفاتها السحرية، نجوما وحكايات ومصائر جميلة شتى.
________
*كاتب وناقد سينمائي عراقي.

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *