الرواية الحديثة.. قاعها وقمتها

*محمد العباس

بعد أن كان يُنظر إلى الفن الروائي على أنه فن التأمل الارستقراطي، بتعبير ر. م. البيريس، صار بمقدور الحلاق والفلاح والميكانيكي وسائق الباص والنادل وغيرهم التصدي لكتابة رواية، وهي مهمة أدبية لم تداعب أحلام هذه الشريحة من البشر في المراحل الأولى لنشأة الرواية، التي كانت تصنف في حقل الآداب النبيلة، على اعتبار أنها وريثة الملحمة، وبالتالي فهي قرينة الإلهي والأسطوري، حيث كانت تكتب على أرضية لها قاعها القدسي، وبواسطة طبقة اجتماعية رفيعة، إلى أن تخففت من الديني باتجاه الدنيوي، وانسلخت من سطوة الخرافة لتعانق الحسّ العلماني، وانفلتت من السرد الشمولي لتجسد المطمح الديمقراطي، حيث علا صوت الفرد على ضرورات الجماعة، وحضرت عذابات الكادحين إلى جانب مباهج البورجوازيين، وكفت المجتمعات الحديثة عن إنتاج السرديات الخرافية.

هذا هو الخط البياني المختصر الذي مكّن الإنسان المتحدر من طبقة غير رفيعة لكتابة الرواية، حيث لم تتوقف التحولات عند حد إنزال الرواية من تعالياتها الأدبية، وتحطيم خطابها الملحمي الأسطوري، والإجهار بشكل عام على فكرة التعالي النصّي، بل تدحرجت إلى حافة سرد الواقعية المبتذلة، المحتّمة بشروط الأزمنة الحديثة، لتصبح في ما بعد الصوت الشخصي للفرد، حيث صارت الرواية بمثابة المرآة المنصوبة قبالة الفرد لتعكس أعماقه الشخصية وتضاعف نظرته الداخلية، بعد أن كانت منغرسة أمام الطبيعة والمشهد المجتمعي، وهي نتيجة طبيعية لما تختزنه الرواية من نوايا تقويضية ومزايا نقدية لكل ما هو سلطوي ومؤسساتي وشمولي، اعتماداً على تفكيك مفاعيل اللغة الرسمية، بما هي الحاضن للأبعاد المعرفية والأخلاقية والاجتماعية للمؤسسة، بمعنى أنها شكل من أشكال الأدب المحتضن والمؤسس والمبدّل أيضاً للقيم.

هكذا بدت الرواية في ثباتها كخطاب مضاد للمرويات الكبرى التي تختزن قيم ومعارف الشعوب، بكل أشكالها الفلكلورية والملحمية والخرافية، من منظور تعبيرها عن صيرورة الأزمنة الحديثة، بما تحتمله من انفلات فردي وحس علماني، حيث نشأت الرواية، حسب آرثر شبنغلر، من حاجة الإنسان الحديث فوق التاريخي إلى شكل أدبي جديد قادر على التعامل مع الحياة ككل، كما يشي تاريخها بطاقة تدميرية للبنى والطبقات، فهي قرينة التطور الاجتماعي، وهو ما يعني أن تحلّل الأشكال الأدبية وتحولاتها التي أسست للرواية بشكلها المشاع اليوم، إنما كان نتيجة لتحلّل الطبقات الاجتماعية، وكسر الحق الحصري للكتابة والتوجيه القيمي، وهو الأمر الذي يفسر أيضاً جرأة كل الطبقات والفئات والشرائح على اقتراف الرواية، وخلط أوراقها المتعارف عليها كرواية الفروسية والرعوية والرومانسية والتسجيلية والصوفية وغيرها مقابل روايات الخيال الذاتي، أو ما يعرف بمحكي الذات وهكذا.

الطليعة الأدبية هي التي كانت تقترح ما ينبغي وما لا ينبغي حضوره في الرواية، وكانت بالفعل تجترح عمليات تحويلية على درجة من الجرأة والأهمية كالشعرية وتيار الوعي والزمنية والأثر المفتوح وغيرها من الطروحات السردية المجسدة في أعمال روائية لافتة، حيث تم استدخال العلوم الإنسانية والخيال العلمي والكولاج للتحرر من سطحية المحاكاة وإلزامات التصوير الواقعي للأحداث، وكان ذلك التجريب داخل حلقة محدودة من الروائيين والنقاد، إلى أن انفتح الفعل الروائي باتساعه على كل الفئات القادرة على الكتابة، حيث يمكن مقابلة الرواية الأوروبية ذات البناء الكلاسيكي – مثلاً – بالرواية الأمريكية الحديثة، الفارطة في الخفة، وملاحظة الفارق الهائل على مستوى البناء الفني واللغة ومنظومة القيم المستدعاة داخل السرد، إذ يبدو الفارق على درجة من الوضوح ما بين رواية رافلة في الثقافي ورواية تدير ظهرها لأبجديات المثاقفة، إذ لم تعد في تلك المنزلة التي رفعها إليها والتر سكوت عندما موضعها في مصاف القيمة الفلسفية للتاريخ.

بهذا المعنى تكون الرواية كجنس أدبي قد خضعت لعمليات إعادة بناء متكررة لتغيير نظامها القواعدي، وكأنها لا تمتلك ذلك الإطار الصارم الذي يحد من انفلاتها، بحيث بدت مرونتها عصية على التأطير ضمن نظرية حادة الحواف تمنع تحولها إلى ملكة عامة، ربما لأنها نتاج مجموعة من الأشكال السردية المعروفة منذ القدم كتعبير عن الوجود الإنساني، حيث جرت مجموعة من التحولات الفنية والموضوعية صبّت مجتمعة في مصب الرواية، وهذا هو منطق التطور الأدبي للنوع والجنس الأدبي إذا ما تم استجواب تلك الأنماط السردية ورصد انزياحاتها التي غدت صوت الفرد الذي يعادل صوت الإنسان، بمعنى أنها وصلت بالفعل إلى الطور الثالث من أطوار الانزياح والتبدّل للجنس الأدبي، برأي ألستر فاولر، أي استخدام الشكل الثانوي الأكثر مرونة للتعبير، ومفارقة الطور الثاني المتمثل في الاستقامة على القواعد، والانزياح عن الطور الأول الذي تبلور فيه الشكل الجنيني للرواية.

حتى عندما يتم التطرق إلى مصطلح رواية، تقول المعاجم إن الرواية في العصور الوسطى كانت تعني قطعة نثرية مكتوبة بلغة خالية من القدسية مقارنة بالشعر مثلاً، وكانت في الوعي الجمعي أقرب إلى الحكاية منها إلى العمل الفني البنائي، كذلك كانت سمتها التخييلية تقلل من قيمتها وتضعف كفاءتها الأدبية، بموجب اختبارها على حافة الآداب المجاورة، وكان ذلك قبل أن تتحول إلى عادة ثقافية فردية، وهو الأمر الذي فرض تداعياته في الحياة الثقافية العربية، حيث صنفها العقاد في مرتبة أقل من الشعر، وحذر محمد عبده مما سماه بالكتب المعتمدة على الأكاذيب، ويقصد في هذا المقام المرويات ذات الأفق التخييلي.

منذ نشأتها الحديثة – أي الرواية – وهي تعد بهذا الذي يتجسد الآن في انفتاحها كملكة عامة وصالحة للانكتاب بمعزل عن الطبقة الرفيعة، حيث كان الروائيون يطرحون مناهجهم في كتابة الرواية من خلال مقدمات ورسائل، يتضح من خلالها ذلك التنوع والاندفاع نحو تحطيم القواعد، أي الانتقال من اللاوعي الملحمي إلى الوعي البشري، أو ما سماه جورج لوكاش بملحمة العصر الحديث، أي التمثل المادي للوجود عبر الطبقة البرجوازية ابتداءً، لتتحول بتصور باختين إلى مشروع غير ثابت المزايا وقابل للتطوير الدائم، مبشراً بظهور شخصيات من القاع الاجتماعي أو ما دون الوسط، حيث أسست الطبقات الشعبية للرواية الحديثة وللغة الشعبية التي تنكتب بها، أي الاندفاع باتجاه الواقعية بكل شفافيتها، لتأكيد نظرية أن القاع الاجتماعي هو الذي أنتج الرواية الحديثة وليس قمتها، وهذا هو ما يفسر ازدحام المشهد الروائي بروائيين يتحدرون من الهامش الاجتماعي.

_______

*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *