ريم الخشّ.. القصيدة النموذجية في تشكيل الأنوثة النابضة بوجعها الكوني

خاص- ثقافات

*أحمد الشيخاوي

على مرّ التاريخ، حتى في جاهلية وأدها وأوج الممارسات القمعية التي هدّدت وجودها، استطاعت الأنثى إثبات قوتها وتفجير طاقاتها وفرض صوتها بجدارة واستحقاق، ولو على سبيل الشذوذ وعبر حالات متواترة، فكان أن انسلخت كلّيا  عن الصورة السلبية والضيقة جدا كلعنة ملا زمة للجنس الناعم، وما على قبيل ذلك من كوادر الالتصاق المفاهيمي بفسيولوجية النوع كسرطان عشّش وعمّر طويلا في المخيال الذكوري ولم يزل.

فتولّد الانزياح مشكّلا صفعة قوية للعقول المتحجّرة والمريضة، ومعلنا شموخ المرأة وتساويها في الكفاءة والقدرات مع غريمها الرجل، بل منافسته و التفوق عليه في الكثير من المجالات.

وإذا كان مفهوم مليشيا الثقافة وليد مرحلة ما بعد اندلاع أولى الثورات العربية، في أبسط توصيف له، فإن أسمى ما يسجّل له، حمله لجملة من المعاني المنتصرة لأدوار الأنثى الطلائعية، ووظائفها الحيوية في خوض مغامرات الحياة بكل أطيافها وتفاصيلها الحلوة والمرة جنبا إلى جنب مع الجنس المضاد لها تكوينا وخلقة ومعارف وأهدافا ووجدانيات .

إنها موجة تؤرخ لعصر الانحطاط ولشهوة الفتك والسطو وبخس الروح الآدمية حقها وشتى مرادفات الشرور والفوضى والدمار. موجة تجرد فرسانها إلا من تفخيخ الكلمة وتعبئتها بمشاعر الخيبة والمرارة والتمرّد ومنظومة ما يدفع باتجاه تعريض رعاف العالم و شظاياه وأشلائه وكامل حطامه إلى مرآة أغاني الحب والحياة.

تأبى الشاعرة السورية المتألقة في كلاسيكيتها الحديثة، إلا أن تغرّد وسط هؤلاء، محرجة بأشعارها فحول الجلادين، وناقمة لنون النسوة من آلهة اليباب وجبابرة استعباد الأوطان ومصادرة حقوق الشعوب.

يزهو الحس الوطني لدى شاعرتنا كاشفا قرانه الفني مع لازمة ثورة/ حب،ومدبجا بالمفردة الدالة على ملائكية الأنثى وكيف أن رؤوس الشياطين مروّضة ومسيطر عليها، لا تطل منها إلا عند الضرورة والحاجة، تحديدا حين تطعن في هويتها وكرامتها وإنسانيتها.

“سوريةٌ أنا..

ومن عروقي الفجر ينمو..

و يسطع من نوري الصواب…”

إنها الهلامية الأليق بيقين النسب إلى جغرافيا لها قدسيتها ورمزيتها بين الأمم . الفجر يتلبس هذه النرجسية والنور، وهنا الإشعار صاعقا يُمرّر إلى سدنة استباحة كهذه أرض، ورافلا في ثوب الغضب والسخط الذي هو من نسيج معجم مطبوع بخطورة نون النسوة ومعجون بمعاناة الأنثى في انتقال الخطاب وتحوله إلى مستويات المدح الذم.

“سوريةٌ أنا..

وفي ردائي.. الحق يجثو

ويهطلُ من كفي السحاب..

سوريةٌ أنا..

ومن رحميَّ الخصب ينمو

ويولد الحرف…ويزهو بالكتاب

سوريةٌ أنا..

مرَّ من الرحمِ أحقابٌ عجاب

سوريةٌ أنا..

لا يخيفني العهر..أو شرَّ الذئاب

هل تخافُ الحرة من وهمِ الضباب؟؟

هل تخاف الحرة من نعقٍ الغراب؟؟

سوريةٌ أنا

يزلزلُ الأرضُ نهدي..”

ويلمع من صدري الشهاب..”

أنا بداية التكوين..

أنا عشتارُ..وأرقام الحساب..

لا يخيفني الليل..يا زناة الليل

لا يخيفني اللؤم ..أو زيف السراب

سوريةٌ أنا..

أنا منبع الخير…يا أهل الصواب..”

إنها سلطة اللاشعور واستلهام تراكمات الذاكرة، لإنتاج جماليات تغذيها ثيمة الحب في شموليته وسرمديته وامتداداته، يقود ذلك إلى خارطة مدح الأرض في ذمّ زناة الليل، مثلما أسمتهم شاعرتنا، كون الليل مرعى ومرتعا لأنانيتهم الموبوءة وتعطّشهم لدماء قرابين من نسج أحلامهم فقط، كأنما يرمون إلى إضفاء لون من المشروعية على إلوهيتهم الزائفة.

*يزلزل الأرض نهدي.

تسطع دوال هذا السطر الشعري، لتنتج عقلية جديدة شاهدة لجيل الأنثى الطاعنة بكلمتها قيادات مترهلة ومفككة يستهويها امتطاء أحلام البسطاء حبّا في السراب و هاوية تروي عقدة الجيل.

قصيدة هامسة وراسية المغزى على قصدية تكرار العتبة، قالت كل شيء، ووشت بملامح نوستالجيا تجربة فريدة وحّدت الوجع واقترحته في كونية استغرقها زمن النبش في مثالب راهن تكالبت على مصالح أبريائه،حثالة اللقطاء.

____________

*كاتب مغربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *