ثلاثية الزمن والمكان والذاكرة

*فاطمة الشيدي

الذاكرة هي فتيل الروح، تلك الجذوة التي تبقيك على قيد الحياة، إنها المدفأة التي تلجأ إليها حين يحاصرك البرد، والنور الذي تتّبعه حين تتغلّق المصابيح الحلمية في زمنك، ومهما حاولت التملص من الذاكرة فلا شيء يستطيع منحك الفكاك من شراكها الزمنية، كل لحظة تعيشها في زمن ما هي خيط رفيع ينسج كينونة حياتك ووعيك، ينسج روحك بمهل العشق وشفاعة الزمن، نحن لا ننسى بل ندخر كل شيء في ثقوب الزمن وتعرجات الذاكرة للحظة تذكر أو ذكرى، الرائحة تجلدنا بسياطها كلما دنونا من المكان/‏‏الذاكرة، رائحة ضحكة غافلة، ورائحة حنين قديم، ورائحة زمن يتجلى بكل مفرداته، ليأخذك من زمنك هذا لزمن آخر سيأتي، لم تظن في لحظتها أنك كنت فيه سعيدا، لكنه الآن هو الجنة المفقودة.

وعليك أن تؤثث ذاكرتك دائما عبر الزمن بالحب والأمكنة لتحوّل لحظاتك الآنية الممتلئة بالزمن لزمن آخر أوسع من زمنك، زمن برائحة، زمن من أزمنة الذاكرة تلك التي لا يغيّبها النسيان، ولا يرعبها الغياب. هكذا يشعر عشاق السفر أبدا، وهكذا يحملون مصابيح الفرح ليقتحموا الأزمنة الموصدة بأزمنة جديدة أكثر بهجة ورائحة، أزمنة حية، وهكذا يواجهون الذاكرة ببلل الروح وأغنيات المستقبل والأمكنة الجديدة.

كل هذا وأكثر يتداعى لروحك ما أن تصل إلى فيينا، بعد أن تتملكك أغنية أسمهان «ليالي الأنس في فيينا» فتمشي على نغم حضورها في دمك وسمعك وذاكرتك. فمنذ المطار وثمة إحساس ضمني يشعرك بالأمان، رغبة عميقة في الركض لمعانقة كل شيء، ولذا تتريث قليلا وأنت تخرج من بوابة المغادرين، فلا تريد أن تترك المطار بسرعة، المطار اللامكان بكل اتساعه وشجنة له رائحة غامرة وجاذبة في فيينا، ولذا تلجأ ورفيقك لأقرب مطعم لتحظى بإفطار بطعم المكان المختلف. أنت الذي تركت عاداتك الآسرة خلفك، بحثا عن الجديد الضمني أينما وجد.

تتركا المكان لاحقا عبر القطار (المترو) نحو البلاد، ثم تلوذا بصخب المدينة ومقاهيها لتكون القهوة مفتتح البدايات، ومفتاح الدخول لهذا العالم الجديد. وهناك تنتظركما صدفة عربية محضة لسائق عراقي أرمني بلسان عربي مبين. يأخذكما للفندق. الفندق « wandl» البسيط لولا فخامة التاريخ الذي يخبرك أنه ولد القرن الثامن عشر، حيث كانت أوروبا تخلع شرنقة الجهل وتذهب في الجمال والعلم بسرعة. وهناك تبدأ معك رمزية الرقم ثلاثة القديمة الجديدة، ثلاثة، رقم حضورك لهذه الحياة، رقم الحظ، ورقم المكان ورقم الذاكرة غالبا، ففي كل مكان تذهب إليه تجده ينتظرك ليرمّز حياتك بعجائبية الصدفة التي لا تنتهي أبدا. إذن الغرفة في الدور الثالث، فتبتسم في سرك وتنتظر بعدها الكثير. وبعد سقوط مدوٍ في هوة النوم السحيق، تفتح أجنحتك للمدينة برفقة قلبك الذي توحد معك في سيرة المكان، ويتوحد معك عبر سرده في الضمير والمعنى وفي الزمان والمكان والذاكرة. وتخرج لتنهب خطواتك الساحات الواسعة والشوارع المتداخلة، والمباني التاريخية والحداثية في تناغمها الآسر، والوجوه التي جاءت من كل قارات العالم البيضاء والصفراء والسوداء والأجساد العارية والتي تغطيها قماشات هشة وقليلة وواسعة، وتسترها الحرية فقط وهي تهبها إمكانية الحضور كما تريد، حرية أن تلبس ما تشاء، وتعيش كما تشاء، وتحترم خيارات الآخر في أن يفعل ما يشاء أيضا.

سيأخذك التعب في بداية اليوم التالي لتقضي بداية نهارك في الفراش، وبعدها تخرج مجددا للشارع لتأكل أجمل غداء لم تتذوق مثله في مطعم منذ زمن طويل، فينحني له ذوقك المحكوم بالصحّي والمنكّه من الطعام، وفي أول شارع من الفندق التي تسكن إليه، الصدف التي لا تنتهي وتجعلك روحك الفرح تلهج بالشكر والامتنان لرب الروح.

تخرج بعدها للمدينة، التي تهديك صور موزارت ابن المدينة المدلل في كل زاوية من قلبها المفتون به فتنة الأم بصغيرها النابغة، فتأخذك الدهشة لكل هذا الجمال الباذخ، فالسياحة الثقافية بشكل عام والموسيقية بشكل خاص، الأكثر شيوعا وحضورا، السياحة الأكثر رقيا وعذوبة، فتذاكر الحفلات تباع في كل مكان، وفي كل زاوية، كما الحفلات التي تقام في كل مكان، ناهيك عن عازفي الشوارع الذين يعزفون على كل ناصية ومفرق. كما تنتشر المتاحف والمعارض الفنية بمختلف الأنواع متحف الأدب، متحف تاريخ الموسيقى.

ومتحف تاريخ المسرح، وهناك متاحف خاصة بفنانين معينين مثل «كليمت» الطفل الثاني المحبوب لقلب المدينة، وقد يحضر معه «بيكاسو» و«مونيه» من ثقافات أخرى. وهناك التماثيل التي تستحضر التاريخ وتجلسه بين البشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق بل ويتربع على عرش المكان وفي واجهة الشوارع، التاريخ الذي يصنعه المنتصر، وربما يحمّله الإنسان أكثر مما يحتمل بل وقد تستغله الرأسمالية ليغدو ذاكرة مدفوعة الثمن سلفا. ومع هذا فتلك الرائحة (العطنة)، وذلك البهَتَان اللذيذ يكسب كل شيء قيمة إضافية، وولعا خاصا وعمقا خرافيا يشتهيه الباحثون عن الجمال، المتتبعون لحرفة نحت الزمن بقايا وجوده في الذاكرة ويأخذ بتلابيب روحك حتى المنتهى.

كانت الحفلة الموسيقية التي حضرناها في قاعة بسيطة قد اختصرت لنا الكثير من تاريخ الموسيقي عبر مقطوعات كلاسيكية راقية متعددة، وأصوات أوبرالية مدهشة، ورقص باليه يجعل الروح تسمو في حضور الموسيقى والفن. في حين كانت وجبة «الفلافل» التي قدمها لنا «علي» الشاب السوري في شوارع فيينا غصة في قلوبنا، علي الذي يضحك والحزن يتحشرج في صوته ويترقرق في عينيه، بينما تبيع طفلة ورداتها بكل رقي واحترام وعدم إزعاج للسياح، ويمدّ شحات كوبَه لتضع فيه ما تجود به نفسك من عملات ترن في الكوب الذي يفرغه أولا بأول سواء استحقها أم لا.

في اليوم الثالث تتعرفك المدينة أكثر، فتستوطن شيئا منك، وتصبح أنت منها أقرب حيث تتسرب أشياء منها داخلك، وتعلق في ذهنك بعض مفرداتها وأسماء مدنها الغريبة، وتألف رحلة «المترو» في النقاط المحددة التي تخدم تحركاتك، ثم تنهي النصف المضيء ليومك في قصر بيلفيديرBelvedere Palast حيث التاريخ يحكي سردياته المدهشة عن الحياة والموت والقوة والضعف، وحيث الفن يخلّد الحكايات والوجوه والزمن في تلازمية مدهشة، لوحات من كل العصور والحقب ويتصدر «كليمت» بلوحته التاريخية «القبلة» المكان، تستقبلك وتودعك بذات القبلة، في حين يحكي المكان عن الزمن والخلود وما بينهما من حيوات وبشر.

وحين يخذلك جسدك المرضوض من المشي بعد حيوات أتقنت الخمول والركون للداخل، تلجأ لوجبة ليست لذيذة جدا، ولذة الفراش قليلا، قبل أن تستأنف التجوال في سكون المدينة وضجيجها عبر فنجان قهوة، وتعود لتختبر حزنك على فرق التوقيت الهائل في الحضارة والإنسانية والحرية بين مكان جئت منه ومكان أنت فيه الآن. وأنت تتأمل أناقة المكان، والبشر خاصة النساء والمقاهي المنتشرة في زاوية تفيض بالكلام والحب والغزل والحزن والشجن والحكي.

تستأنف رحلتك الصباحية التي تبدأها بالقصر الملكي «الهوفبورغ» ومتحف سي سي زوجة الملك وترى الزمن يحتفظ بمفردات حيواتها الأنثوية والبيتية من أوان وكؤوس وتفاصيل دقيقة، في حين غيّب الموت عالمها وجسدها، ثم لمتحف (ألبرتينا) حيث يتربع الفن في المكان عبر حيوات الملك انتهاء بالفن من مختلف للمدارس كالانطباعية وما بعدها كالتكعيبية وغيرها، ليحتل «مونيه» و«بيكاسو» المكان الأهم واللائق بهما.

بعدها تعود لمطعمك المفضل القريب من الفندق، وتستأنف رحلتك المسائية في زاويتك اليومية في مقهى تاريخي يعود لمنتصف القرن الثامن عشر، حيث تحتجز التاريخ في روحك ويحتجزك في أحلامه الوردية بفتنة الخلود.

وبعد أن صالحتك فيينا مع شمسها الدافئة لزمن ما، عادت لتبلل قلبك بالمطر في مساء اليوم الرابع ثم تغسلك تماما في نهر الدانوب في اليوم الذي يليه، (الدانوب الأزرق) الذي ألقيت فيه أحمالك وأسرارك وأوجاع قلبك واستبدلتها بضحكة نضرة وحيّة، وزرعت في قلبه الأزرق أمنية عذبة وأنت تذرعه من (ملك) حتى (كرمس)، لتعود لفيينا الحسناء منتشيا فيكمل المطر الصيفي قصيدته بالقرب من قلبك الصحراوي الجاف تماما، وعلى مقربة من طعام الشرق الذي اخترته ليلة وداعها. وأنت تذرع الشوارع حتى تصل للقطار الذي سيحمل جسدك وأحلامك ورغبات انعتاقك لـ(براغ) هذه المرة، وسيختار القطار أن يرجع بك القهقرى في طريقه في صدفة غريبة، ليجعلك تلوّح لفيينا تلويح عاشق لا يقوى على الالتفات الكلي عن المكان حتى آخر لحظة، حيث يشعر أنه ودّعها وداع مضطر، فيهرّب لها كل حنين الروح، ويظل الشوق فراغ الذاكرة الأزلي، فتغتسل عيناك في السهول الخضراء الممتدة حتى تصل.

نصل براغ، براغ الفرح والجمال الذي يؤنسن المكان ويشعل الحواس، والتي لم يكن استقبالها لنا بالمطر إلا بداية كل العناقات والتصاعدات التي تذهب بنا إليها تماما. أعادتني براغ إلى ذاتي إلى الفرح الذي افتقدته طويلا، إلى الحب الذي يشمل الكون والوجود والإنسان والتفاصيل، وكان نهر (فلتافا) الذي يطل عليه الفندق بداية الأخذ بها، مطر ونهر، فأي لذة كانت تعد براغ الروح بها.

استمر الفرح حيث اكتحلت الخطوات بذلك التيه الجميل الذي يمتد من عنفوان التاريخ في مبانيها حتى مباهج الحياة العصرية، والتعددية الأوروبية التي تشمل اللباس والطعام والوجوه والأشكال، بلا تنميط ولا أنماط. ذرعنا المدينة وتناولنا العشاء في مطاعمها ومقاهيها التي تنبت على الطرقات كالزهور والعشب في كل مكان.

وفي اليوم الثاني كنا نعانق التاريخ على جسر (تشارلز)، الجسر التاريخي الذي يقصده السياح من كل مكان، وحيث تصدح الموسيقى وتنتشر الألوان واللوحات ويحتضن المكان بحب كل المواهب، وكان المطر رفيق المكان والزمان والأرواح حتى أنه يقيّد حركتك السياحية المحدودة ويحتجزك لنفسه وحناناته الخاصة والعميقة.

وتحت شجن المطر زرنا متحف كافكا الحزين المتوجع، كافكا الذي عاش في لغته الخاصة وأثر في أجيال كثيرة من الكتاب ومازال يفعل، كافكا صديق الروح المتوجعة، والإنسان الطفل، ثم متحف الشمع (Grevn) حيث استحضرنا روح شخوصه، وتجلى خلودها الفني في أرواحنا، المتحف الذي جسّد الكثير من شخصيات براج والشخصيات العالمية، وكان قبلة مهمة للحالة السياحية في براغ. (براها) حبيبة الجواهري، ومدينة قلبه وعشقه.

وفي المساء اتحد الليل والنهر والموسيقى في حالة خرافية من الجمال، حيث قضينا سهرة خاصة (sweet praha) في سفينة تبحر عباب النهر لمدة 3 ساعات مع عزف مباشر على البيانو وغناء ينساب في الماء وفي قلوبنا بشجن، فحلّقت أرواحنا في جو راقٍ ورفيع من الجمال والدهشة.

ولأنها براغ فكان لابد من زيارة (متحف الشيوعية) التي يتحدث بالصور والمنحوتات وفيلم تصويري عن تاريخ الشيوعية في براغ فتنقلت عيوننا بين تراث فكري عالمي كان ينشد العدالة والحرية بشخوصه وأفكاره وأحلامه المتهاوية مع الزمن. ثم استعذبنا التيه في شوارع براغ الخلفية، تناولنا قهوة على شرف عازف البيانو في مقهى (piano kafe) وعانقنا نهر (فلتافا) طويلا وكثيرا وغازلنا بجعاته وطيوره التي صحبتنا طوال رحلة المكان فتعلقنا بها وتعالقنا معها. وتركنا لأجسادنا وحواسنا التمادي في عناق كل شيء حتى ساعة متأخرة لوداع المكان المولع بالحب. كنا نفتتح النهارات أمام نهر فلتافا، نلوّح له فيلوّح لنا بيد مائية كبيرة وقلب عذب، وتلوّح لنا السفن التي تمخر عبابه، والسياح الذين يذرعون جسده، والأطفال والدراجات والأحلام والأحزان، كل شيء يحدث في الوداع كما في الحضور، لنحزم حقائبنا في منتصف النهار. بأمل أن نعود ذات يوم لننعم بهذا الجمال مجددا.

لنهرع لميونيخ عبر رحلة القطار القصيرة نسبيا التي قضيناها في حديث شجن ومتوجع عن هجوم نيس الإرهابي في فرنسا، وعن الإرهاب الذي يتطاول بيده البشعة، وعنفه الأسود في العالم أجمع، وعن انقلاب تركيا القصير الذي هلل له العرب وكبروا.

لم تستقبلنا ميونيخ بالكثير من الود، كانت جافة وباردة في أول ليلة، وكان الكثير من العبث والفوضى في الشارع الذي سكنّا فيه، وللأسف بفعل بني جلدتنا، كانت أمكنة العبث والعفن التي يبحث عنها البعض تطوّق المكان، فهربنا نحو قلب المدينة، ففتحت لنا أحضانها حين شعرت بأننا نبحث عن قيمة المكان وذاكرته التاريخية، فقررنا أن نتعرف عليها عن كثب عبر القطار السياحي الذي عرّفنا على تفاصيلها الحضارية والتاريخية الخالدة، ولذا كان لابد من زيارة تلك التفاصيل، «نهر isar»، و«الحديقة الإنجليزية»، و«متحف الفن الحديث»

ميونيخ الجميلة التي بعد أن فارقناها بساعات فقط روّع قلبها بعملية إرهابية، وهي التي تموج بالعرب من مواطنين وسياح (بالجمال والقبح الخاص بنا معا) كأنك في أحد بلدانهم إلا ما يتعلق بالقوانين والحرية والنظام، والتي تثبّت في كثير من مواقعها لافتات بالعربية، لمطاعم ومحلات ومتاجر عربية، كأنها تلاطف قلبك المتعب من اللافهم للغتها ببعضك وبحروف من شغافك.

ميونيخ البشوشة كطفلة طيّبة، أو أم حنون، التي يقف إنسانها ليسألك (هل أساعدك؟ لمجرد أن يراك محتارا في شيء) وما أن تبادره بالسؤال حتى يشرح لك بانفعال كل ما تريد وأكثر بصدق ومحبة، ثم يقول Thank you .. good bye..كأنه يرقيك ويحفظك.

ميونيخ التي أكلنا من خبزها، وتبعثرت خطانا في شوارعها، وتماهت روحانا مع جمالها وفنها، وانفعلنا مع مغنيّيها وعازفيها في الشوارع والزوايا، وركضنا خلف دقائق قطاراتها، والتي حزنّا ونحن نفارقها ووّدعناها قبل قليل من وقت حادثها المريع، باحتضان دافئ وأمل في لقاء قريب. كما شعرنا بالحزن والخوف عليها كأننا هناك تماما.

عدنا وقد توردت الذاكرة عبر الزمن من 7-22 يوليو 2016، والأمكنة الثلاثة (فيينا- براغ – ميونيخ) بالكثير والدهشة والحب، ليظل حفيف الزمن والمكان خالدا في الذاكرة.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *