أدب الرحلة

*أمير تاج السر

في الأسبوع الماضي، كنت تحدثت عن كتابة الرواية السياحية، أي تلك التي تبنى على الخيال، وفي الوقت نفسه، تجد فيها معالم سياحية مهمة لبلد ما، لا بد قام الكاتب بزيارته قبل أن يكتب نصه، وأورده في النص، لأن النص الذي يدور في بلد ما، يحتاج لأن تظهر بعض معالمه، وبالتالي تتجول الأحداث لتبرز بعض تلك المعالم.

عدد من القراء، تفاعلوا مع ما كتبته بوصفه حديثا عن أدب الرحلات الذي عرفه الناس مبكرا، وانتشر كثيرا في كل الأوقات وما زال الكثيرون يكتبونه والكثيرون يهوون قراءته، بوصفه أدبا رفيعا.

الحقيقة أن أدب الرحلة يختلف كثيرا عن أدب السياحة، إن جازت التسمية، فأدب الرحلة يعتمد في الأساس على وقائع كاملة لرحلة قام بها شخص ما، وليس بالضرورة كاتبا، إلى بلد ما، تشتمل على لحظة وصوله لذلك البلد، وتنتهي بمغادرته، وتمر بما أكله وشربه والنزل الذي أقام فيه والأشخاص الذين تعرف إليهم، وحتى اللصوص، إن حدث وتعرض لسرقة من لص، والحبس في السجون، إن حدث واصطادته الشرطة لأي سبب، وأيضا العلاقات العاطفية العابرة، والمشادات الملعلعة في الشوارع، وأحيانا تجد وصفا دقيقا للملاعق التي تستخدم في غرف الطعام، والحلل التي يطبخ فيها، وجلسات النساء البريئة وغير البريئة التي قد تكون من ضمن الوقائع ويوثق لها النص، وقد كان الرسامون الأوروبيون من الأشخاص الذين يهوون السفر للشرق كثيرا في القرون الماضية، وتجد في أعمالهم، كيف رسموا الشرق في لوحات ناطقة بالروعة، وتوثق للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت موجودة ساعة أن زاروا تلك البلاد، وأجد أن الروائيين، وكثيرا من المؤرخين، يعتمدون على لوحات استشراقية، في تحليلهم للشرق القديم، وأظن أن الرسم، كان هو الحيلة الأجمل في رصد التغيرات قديما، وقبل اختراع الكاميرا وبعدها تصوير الفيديو، وصولا إلى ما نحن فيه الآن من نقمة إلكترونية، تعنى بالاتصال خاصة، وتوثق حتى لأنفاسنا التي نطلقها في الغرف المغلقة والأسرة ولاحتضارنا حين نزفر أنفاسنا الأخيرة.

لقد كتبت مرة عن أدب الرحلات، ووصفته بالأدب السخي الذي لا يبخل على الأدباء الروائيين بالتفاصيل، وبالخامات الكتابية الجيدة، التي يحتاجونها لصياغة أعمال متخيلة، وقرأت كثيرا في تلك الكتب التي ألفها مستشرقون، غزوا الشرق مستكشفين وبعضهم أحب الحياة الشرقية وطقوسها وانعزل عن بيئته الأم ليعيش ويشارك في زخم الحياة في بلاد العرب أو بلاد الهند أو غيرها من تلك البلاد الغاصة بالتوابل. وقد لفت نظري في معظم ما قرأت أن الرحالة يأتي غالبا بشهوة رصد التفاصيل وتوثيقها، وأن لا تفوته كبيرة ولا صغيرة في رحلته، ولدرجة ظننت معها أن الذي يقوم بالرحلة من هؤلاء ويوثقها، لا بد حصل على دروس نظرية في كيفية القيام بالرحلات المستكشفة لبلاد لا يعرف عنها شيئا. وقد وصف ضابط ألماني أقام مع البدو في مصر، وارتدى زيهم، وأتقن لهجتهم، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كل ما يخطر لك ولا يخطر عن عالم البدو وثقافتهم، وتقاليدهم. كانت شهوة جامحة في الوصف امتدت لعادات النساء أيضا، ووثقتها. وصادف أن حضر عرسا أيام إقامته في تلك الأنحاء فوصفه كاملا من بداية الزغاريد حتى دخول العروس على عريسها، وذكر ما شاهده على وجه العروس من بشر، وفرحة وتطلع للحياة المقبلة.

كان السودان، وما يزال من الدول التي تعد هدفا متكررا للرحلات الاستكشافية، وقد خرجت من الرحلات إليه كثير من الكتب التي اهتمت بالعادات والتقاليد، ووثقت للظروف المناخية والاقتصادية والسياسية، ومن ثم أصبحت مصادر جيدة، للكتابة بإيحائها، وقد قرأت مرة كتابا لشاب إنكليزي، قام برحلة للسودان، في نهاية القرن التاسع عشر، واستطعت أن أستلهم منها جوا مختلفا، ظهر في أحد نصوصي، ولأن الرحلة توثيق والكتابة من إيحائها، خيال يعتمد على التوثيق، فقد جعلت الشاب الإنكليزي يبقى في البلاد، وينخرط في الطرق الصوفية التي تنتشر بكثرة في السودان، بينما الرحلة الأصلية انتهت بعودة الرحالة إلى بلاده، ربما ليعتزل المغامرات، وربما ليقوم برحلة أخرى لبلاد جديدة ويوثق لها. وكنت في تلك الأيام، قد شاهدت فيلما توثيقيا عن حياة امرأة إنكليزية، زارت الأردن منذ سنوات طويلة، لكنها انبهرت بحياة الصحراء وعاشت مع البدو حتى شاخت، وكانت ما تزال تعيش منقطعة عن حضارتها المتقدمة، حين تم تصوير الفيلم، ولعل ذلك ما جعلني أغير مصير الشاب الرحالة، وأجعله أحد المقيمين في بلاد بعيدة تماما عن ثقافته، وما تربى عليه. موقف المرأة العجوز، جعل هذا المصير ممكنا جدا.

كانت أيام الثورة المهدية، وما قبلها قليلا، في نهاية القرن الثامن عشر، من الفترات التي شهدت رحلات كثيرة لمستكشفين، بعضهم جاء مع الاستعمار كموظفين عموميين ومن ثم كتبوا وجهات نظرهم في شكل مذكرات وذهبوا، ومنهم من جاء مغامرا، لتصادفه الثورة وينغمس فيها سلبا أو إيجابا، وفي كلا الحالتين، تبدو الكتابة رائعة، أي أنها تعطي لمحات كثيرة، وربما فقرات مكثفة من الدهشة يمكن استغلالها في أعمال روائية، تمزج الخيال بالواقع.
ومن المفيد معرفة أن ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، كان هناك في فترة المهدية، وألف كتابا بعنوان: «معركة النهر» احتوى على زخم تاريخي من وجهة نظره، ورحلة وثقت لحدث عظيم، تغيرت بعده مصائر عديدة، من وجهة نظرنا كقراء لذلك الكتاب، أيضا كتب ضباط ومعلمون ومفتشون زراعيون، انطباعات بعضها كان ناجحا جدا، وبعضها مجرد كلام عادي، في ذلك الكتاب الذي سمي، «حكايات كانتربري»، وأصدره مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي منذ سنوات.

عموما، لا بد من التفرقة بين الأدب في كل ضروبه ومدارسه، رغم كونه أدبا في النهاية. الرحلة الموثقة، غير الرحلة المتشابكة مع الأحداث في نص روائي فيه خيال، وهكذا.

________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *