حوار مع الكاتب راي برادبوري ( 3)

*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

إليك السر الكامن وراء كل عمل خلّاق : أن تفعل الأشياء التي لها القدرة على إدهاشك وثمة أمر صغير أضيفه : أحرص دوماً على أخذ قيلولة وهكذا يكون لدي صباحان في ذات اليوم

*  أنت علمت نفسك بنفسك . ألست كذلك ؟
– نعم أنا كذلك تماما والمكتبة هي معلمي ولم أرتد أية كلية . اعتدت الذهاب الى المكتبة منذ أن كنت في المدرسة الابتدائية ولاحقاً المدرسة الثانوية في لوس انجيلس وقضيت الكثير من أيام الصيف الطويلة في المكتبة وأذكر أنني اعتدت سرقة مجلات من مخزن للكتب وبعدما أكمل قراءتها أعيدها الى الرفوف ثانية ولم أكن أنوي لأصبح لصاً دائمياً وأذكر أنني كنت أغسل يدي بكل حرص قبل أن ألمس أياً من المجلات و ما زلت أرى نفسي وسط المكتبة كمن يعيش وسط برية مزدانة بحلقات من النعناع البري كما أحسب ، إذ حيثما تدير عينيك في دوائر كاملة ترى الكثير مما يتوجب عليك النظر اليه وقراءة عناوينه وهي تجربة أكثر إمتاعاً بكثير من الذهاب الى المدرسة ، فبوسعك  دوماً أن تحدد قائمة قراءاتك بنفسك وليس عليك أن ترهق اذنيك بالاستماع لأي كان . أنا كائن مسكون بالمكتبة و أكتشف ذاتي فيها دوماً ولطالما قلت أشياء من قبيل أنا ذاهب الى المكتبة لأكتشفني فيها !! .
كنت في السادسة عندما وقعت في هوى المكتبات التي أشعلت جذوة فضولي الجامح للمعرفة في كل المجالات ابتداء من الديناصورات و حتى تاريخ مصر القديمة ، وبعد أن تخرجت من المدرسة الثانوية عام 1938 بدأت بالذهاب ثلاث ليال في الأسبوع الى المكتبة و بقيت أمارس هذه الفعالية حتى تزوجت عام 1946 وقد ساعدتني هذه السنوات على اكتشاف أن المكتبة هي المدرسة الحقيقية للمرء .

*  قلت إنك لا تؤمن بالانخراط في كلية ما لكي تتعلم الكتابة . لمَ تقول هذا ؟
–   لن يتعلم أحد كيف يكتب في كلية ما لأنها المكان الأسوأ الذي يمكن أن يتواجد فيه من يود الكتابة ، فالأساتذة يرون أنفسهم دوما أعلم من تلاميذهم بكثير وهم في الغالب ليسوا هكذا ولهم انحيازاتهم المسبقة فقد يميلون الى هنري جيمس مثلا ولك أن تتصور كيف سيكون الحال لو أن أحدا من تلاميذهم لم يكن يميل الى هنري جيمس ؟ ! وهنا أعود الى المكتبة وأقول إنها بلا انحيازات فكل المعلومات فيها متاحة  لك وعليك أنت وحدك أن تفهم ما تريد وبالطريقة التي تريد .

13934565_1345340978828065_8782288453429670524_n-1
*  تقول هذا في وقت تلقى فيه كتبك ورواياتك رواجاً هائلاً في المدارس ؟
– أتعلم لماذا يحب المعلمون ما أكتب ؟ لأنني أكتب استعارات metaphors وكل واحدة من قصصي تقوم على استعارات يمكن تذكرها بسهولة . دعنا نتذكر أن الأديان الكبرى كلها مثلا مؤسسة على استعارات فلا يمكن إلا أن نتذكر حكايات مثل “دانيال و جب الأسد” و “برج بابل” التوراتية والناس عموماً يتذكرون الاستعارات لأنها مشوقة الى حد لا يستطيعون فكاكاً منها وهو السبب ذاته الذي يحبب تلاميذ المدارس فيما يقرأون من حكايات عن السفن الفضائية و المغامرات المريخية والديناصورات وأرى أن الكثير من الكتّاب المتميزين قد كتبوا بهيئة استعارات ما زالت تجذب الأطفال ليومنا هذا ومن هؤلاء الكتّاب حسب رأيي : ( أدغار الان بو ) و ( هيرمان ميلفيل ) و ( واشنطن ايرفينغ ) و ( ناثانييل هوثورن ) .

*  هل تلتزم بجدول عمل صارم كل يوم ؟
– يدفعني شغفي الى الجلوس أمام الآلة الكاتبة كل يوم وقد داومت على فعل هذا منذ أن كنت في الثانية عشرة .

14068325_1357889387573224_7413968949530659120_n

*  أين تكتب في العادة ؟
– أستطيع الكتابة في أي مكان ولطالما كتبت في غرف النوم و المعيشة عندما كنت في طور النضوج في منزلنا الصغير الكائن في لوس انجيلس ولاحقا عندما أردت كتابة ( فهرنهايت 451 ) ذهبت الى جامعة كاليفورنيا في لوس انجيلس  وانزويت في سرداب يحوي آلات كاتبة بإمكان المرء أن يكتب عليها لثلاثين دقيقة عندما يضع فيها قطعة نقدية من فئة العشر سنتات.

* هل استخدمت الكومبيوتر في الكتابة يوماً ؟
– اعتدت استخدام آلة كاتبة نوع IBM Selectric حتى أصبت بجلطة دماغية و لم أستخدم كومبيوترا أبدا .

* يجادل البعض أن الكومبيوتر يجعل عملية تنقيح الكتابة أسهل كثيرا كما أنه يوفر خدمة فحص حروف المفردات Spell – Check ؟
– مكثت سبعين سنة وأنا أكتب كل يوم فلو كنت لا أعرف تهجئة الكلمات التي أكتب لليوم فما ذا عساي أقول بحقي ؟!

*  هل تحتفظ بكراسة ملاحظات ؟
– كلا، فمتى ما راودتني فكرة ما أكتب قصة قصيرة أو أبدأ بكتابة رواية أو أنغمس في كتابة قصيدة ، لذا لا أرى حاجة لكراسة ملاحظات .

14045653_1351780348184128_2391824349718678797_n
*  لماذاَ تظن أنك تفضل كتابة القصص القصيرة على الروايات ؟ هل للأمر علاقة بالقدرة على المطاولة ؟ هذا ما يدعونه اليوم  (اضطراب فرط الحركة المقترن بنقص توجيه الاهتمام )  ؟
–  نعم ثمة قدر كبير من الصحة في هذا . ليس في خزانة قدراتي قدر كبير من الميزة التي ندعوها ( الصبر ) وأنا أكتب ما أستطيع كتابته : القصص القصيرة وحسب .

*  في أي وقت من اليوم تنجز معظم أعمالك ؟
–  أكتب طيلة اليوم : أنهض من فراشي كل صباح وأنا لا أعرف تماما ما الذي سأفعله ولكن ثمة إحساس يراودني عند الفجر فيما ينبغي لي أن أعمل ، وعندما تختمر في رأسي استعارة ما أقفز من فراشي صوب الآلة الكاتبة لكي أصطاد هذه الاستعارات قبل أن تفر هاربة . إليك السر الكامن وراء كل عمل خلاق : أن تفعل الأشياء التي لها القدرة على إدهاشك وثمة أمر صغير أضيفه : أحرص دوما على أخذ قيلولة وهكذا يكون لدي صباحان في ذات اليوم .

*  أفترض أن من غير المناسب سؤالك هل تستمتع بالكتابة ؟
–  من الواضح أنني أستمتع كثيرا وأرى في الكتابة البهجة والجنون الرائعين في حياتي ولست افهم عبارة أن الكتّاب يعملون فأنا أرى في الكتابة فعلاً يشبه اللعب : أرغب كثيرا في ملاعبة الأفكار ولو حصل انني كنت أرغمت على كتابة الأفكار بدل ملاعبتها لهجرت الكتابة مذ زمن بعيد .

14117917_1357889204239909_1459822891808329639_n
*  هل ترى أية التزامات اجتماعية تترتب على الأدب ؟
–  ليس ثمة التزامات اجتماعية مباشرة وأرى أن هذه الالتزامات ينبغي ان تتحقق عبر المفاهيم والمثل وبطريقة غير مباشرة . دأب ( نيكوس كازانتزاكيس ) على مخاطبة القارئ :”عش حياتك الى الأبد ” وهو ما كان يمثل التزامه الاجتماعي وكل عمل مميز ينبئك أن تعيش حياتك الى أقصى قدراتها . لم يكن ( ادغار رايس بوروز ) يرى في نفسه محركاً اجتماعياً وبالتزامات اجتماعية محددة ومع هذا يطيب لي القول دوما – وهو قول أعرف انه سيثير امتعاض الكثيرين – إنه الكاتب الأكثر تأثيرا في تاريخ العالم بكامله .
*  ولماذا ترى في ( بوروز ) الكاتب الأكثـر تأثيراً في العالم ؟
–  عندما منح ( بوروز ) الرومانسية وروح المغامرة جيلاً كاملاً من الصبيان والصبايا فقد حثهم على الانطلاق ليعملوا جدياً على أن يكونوا مميزين في حياتهم وهذا بالضبط  ما ينبغي للكاتب أن يمنحه لقرائه : أن يمنحهم هبة الحياة مع كتبه . تحدثت الى الكثير من العلماء من بيو كيميائيين وفلكيين وتقنيين في اختصاصات متعددة وجميعهم أكدوا لي انهم علقوا بشباك ( جون كارتر ) و ( طرزان ) عندما كانوا في العاشرة من أعمارهم وقرروا حينها أن يحققوا انطلاقتهم الرومانتيكية في الحياة . أجد دوما أن هناك حاجة ملحة وثابتة الى الدفق الرومانسي ليقود جهازنا المفاهيمي ولكن هذا الدفق للأسف لا ينظر اليه بجدية كافية يستحقها من جانب الأقلية المثقفة وكنتيجة لهذا السوء في الفهم تراهم يعيقون انطلاقة أولادهم رغم أنهم لا يستطيعون في كل الأحوال قتل الحلم الكامن في كل طفل من أطفالهم . الالتزام الاجتماعي ينبغي ان يُخلق من معايشة المغامرة الجامحة المقترنة  بالأجواء الرومانسية.

*   إلى أي حد  كان  شعورك بالتفاؤل داعما لمهنتك الأدبية ؟
–  لا اؤمن بالتفاؤل ولكن بالسلوك الأمثل وهذان أمران مختلفان تماماً . ينبغي أن تعيش حياتك الى أقصى طاقاتها المتاحة و أن تتنفس ملء رئتيك وتطلق صوتك عاليا وتسمع صداه .

*  ما الذي ترى في الكتاب الالكتروني وجهاز كيندل لشركة امازون Amazon”s Kindle؟
–  الكتب الالكترونية ليست كتباً فأنت لا تستطيع أن تقلب كومبيوترا بيديك كما تفعل مع الكتاب ، فالكومبيوتر لا يبعث رائحة : كل كتاب كما أرى يبعث رائحتين فإذا كان الكتاب حديثاً تكون رائحته عظيمة و اذا كان قديما تكون رائحته أفضل بكثير وتشبه رائحة مصر القديمة . ينبغي عليك أن تمسك الكتاب بين يديك وتتعامل معه كمن يصلّي .

*  مع نشر كتابك (فهرنهايت 451) أشيد بك كثيرا ككاتب رؤيوي . ما العواقب التي تود أن تحذرنا منها اليوم مستندا الى رؤيتك ؟
– انحدر نظامنا التعليمي كثيرا ولطالما كانت فكرتي أن نوقف الإنفاق على تمويل تعليم الاطفال ممن يتجاوزون السادسة عشرة وبدل ذلك نضع كل التمويل في صالح الارتقاء برياض الأطفال . ينبغي للأطفال أن يتعلموا كيف يقرأون ويكتبون وأرى أن الأطفال لو ذهبوا الى المرحلة الاولى من التعليم الابتدائي بمهارات قرائية وكتابية جيدة نكون قد صنعنا المستقبل ، وثمة مسألة تعليمية أخرى : ينبغي أن ننسى تعليم الرياضيات للأطفال ونكتفي بتعليمهم المهارات الحسابية البسيطة لأنهم لن يفيدوا كثيرا من الرياضيات المتقدمة في حياتهم المستقبلية إلا إذا أرادوا أن يكونوا علماء وعندها يمكنهم الاستزادة قدر ما يشاؤون من الرياضيات، وأذكر في هذا المقام تجربة أخي الذي لم يكن مجوّدا في أدائه المدرسي لكنه عندما بلغ العشرينات و احتاج الى عمل في مكتب للطاقة والإنارة الكهربائية انصرف لدراسة شيء مهم من الرياضيات والكهربائية وحقق فيهما نجاحاً ملحوظاً و حصل على العمل، وهنا أسجل ملاحظة غاية في الأهمية : إذا كنت لامعاً كفاية فسيكون بمقدورك دوما أن تعلم ذاتك سواء في ميدان الرياضيات أو غيرها متى ما احتجت جدياً لتعلمها ، غير أن الطفل في السادسة لا يفعل هذا عادة ، لذا ينبغي علينا التركيز على تعليم الأطفال القراءة والكتابة ومتى ما بلغوا السادسة من العمر وتعلموا إمكانية القراءة والكتابة المتقنة سيكون بإمكانهم تعليم أنفسهم بأنفسهم و ستكون المكتبة هي المكان الأمثل لنموهم المفاهيمي اللاحق.

_______
*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *