“شعر التبراع” للنساء فقط!

خاص- ثقافات

*بوزيد الغلى

كان لي شرف الاطلاع و الاستمتاع بقراءة هذا السفْر المفيد ، الذي يجلو جانبا غميسا  من ثقافتنا الشعبية الحسانية، اذ عملت مؤلفته القديرة ، الدكتورة العالية ماء العينين بكثير من الجسارة على إتحاف القارئ او المتلقي بما استنقذته من مخالب الضياع من أشعار النساء الحسّانيات، التي لا تذاع ولا تشاع الا على استحياء، إذ أنها لا تُلقي إلى العامة ولا تجود بها القرائح النجُبُ إلا في مجالس الخاصة !؛ أي مجالس الإمتاع و المؤانسة التي تنفرد بها النساء او تُفردنها  لأنفسهن. ذلك ان السياق والمواضعات  الاجتماعية والثقافية شرطٌ ، كما يبوح بذلك العنوان ( التبراع شعر النساء الحساني: المفهوم-السياق- الثقافة).

وقبل ان نلقي نظرة على منهجية تناول الموضوع التي قامت على أساس يمكن من استنباش بنية شعر التبراع الإيقاعية و استخراج دلالاته النفسية و الاجتماعية ،  لا مندوحة عن القول، إن العمل الذي قامت به الدكتورة العالية و غيرها ممن سبق له تناول الموضوع من هذه الزاوية أو تلك ( الحسن ولد الشيخ، إحمد بابا مسكة، إلين توزان)، يتجاوز عقبة الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية، فثقافتنا الشعبية بمَيْسمها الشفوي تعتمد على التناقل المباشر أو على الصوت الحي ،  حسب عبارة رائد التفكيك ” جاك دريدا ، ولذلك سيلحظ القارئ أنه تمت الاستعانة عند كتابة “التبريعات” بالشكل التام ،  وهذا أمر محمود ما دامت إشكالية الرسم في اللسان الحساني لا تزال تحتاج لكثير من الدراسة الفنية  و التقنين ، كي يتم التوصل إلى رسم مُمَعير للكلمات الحسانية، يراعي جوانبها الشكلية والصواتية  ، ومن المهم في هذا النطاق القول ،  إن جل مؤلفات المستعربين تبدأ ببيان كيفية نطق الحروف بالحسانية، مع جدول مفاتيح يُعين القارئ على النطق السليم بها، كما هو الحال في بعض كتب ” فانساي مونتاي” التي أعيد نشرها منذ سنوات قليلة.

لقد انبنى هيكل الدراسة التي بين أيدينا على مقدمات ممهدات قوامها تقديم دبّجَتْه بلغة رقراقة رقيقة  الدكتورة زهور كرام ، تضع شعر التبراع ضمن النتاج الفخم للثقافة المغربية بكافة ألوان طيفها الثقافي المتشبع بروافد مختلفة، ثم مقدمة دقيقة تستعيد فيها الباحثة الدكتورة العالية ماضي تجربتها الذاتية التي قادتها الى اكتشاف وجود شعر للنساء فقط، وما تلى  ذلك من اهتمام تمخض عنه هذا العمل الذي اكتمل و استوى على سوقه و تدارك بعض ما شاب أعمال السابقين من الخائضين بدلائهم في هذا الجدول الدافق الذي يسري هادئا مُثْريا نهر ثقافتنا الشعبية الحسانية بثمرات القول الرقيق والقريض الشفيف، ولا نكاد نفرغ من المقدمات الممهدات إلا بالتوطئة التي وطئت للقارئ أو المتلقي سبيل التعرف على الفضاء البيضاني؛ بوصفه فضاءً  ثقافيا لمجموعة ثقافية تتقاسم اللغة  والثقافة الحسانية وتنتشر عبر عدة بلدان كما هو معروف و مبين في هذا المقبوس الوارد في الصفحة 17: ” فالبيضاني هو ذاك الشخص الذي يتكلم الحسانية ، و يرتدي زيا مميزا ، وله هوية ثقافية بالمعنى الانثروبولوجي ” .

aliya
ومادام شعر النساء ليس  خصيصة مقتصرة على النساء الحسانيات ، فإن المؤلفة، حرصت على اطلاعنا على ضربين من ضروب الإبداع النسائي، ( شعر لعروبيات عند نساء فاس ، شعر اللندي ، عند نساء البشتون ) ، مما يفتح أفقا هاما للبحث المقارن أمام المهتمين و جمهور الطلاب والباحثين. و هذه احدى أهم ميزات البحث في الثقافة الشعبية ، إذ أنه يقود إلى زرع قلق السؤال ، ويزرع بذور بحوث أخرى تتلمس جوانب الاتفاق والافتراق في كل جوانب الثقافات الأم، بما يوحد ولا يفرق ، أليست الثقافة الشعبية تمثل حكمة الشعوب،  وخلاصة تجاربها و خبراتها ؟

عند الانتقال إلى جوهر موضوع التبراع ، تناوش الباحثة أصوله مستشعرة صعوبة حسم القول في مسالة او سؤال بدايات شعر التبراع الذي لا يشذ عن جنسه من الشعر الحساني او “لُغنَ ” من حيث صعوبة حسم بداياته مادام فرعا من فروع ثقافة  شفوية لم يطمثها التدوين إلا في زمن متأخر غير بعيد، ومن أهم ما كشفته الباحثة في تناولها للبناء الموضوعي للتبراع ، عدم اقتصاره كما يتوهم الكثيرون على باب الغزل ،  إذ اوردت نمادج من التبراع تْطَاول عنان القضايا العربية بشؤونها وشجونها و حروبها؛  كالاجتياح العراقي للكويت ثم الحرب و الشقاق داخل العراق.

ونظرا لأهمية البناء الفني للتبريعة، فإن المؤلفة قد أجادت و افادت بالفحص لا بالخرص بحث البنية الايقاعية التي تميز التبريعة عن “الكاف”، مستخرجة خصائص التبريعات الفنية من حيث مُعْجمها وحقوله الدلالية والصور البلاغية التي تكشف أسرار الجمال بتعفف شفيف.

واستحضارا للعلاقة الجدلية القائمة بين الفن و الواقع ، فإن فصل الدلالات النفسية و الاجتماعية للتبراع،  يجلو كثيرا من تجليات حضور الذات والآخر ممثلا في المجتمع والسياقات التي تحكم الإبداع ، و تسمه بميسم الخصوصية الثقافية.

هذا غيض من فيض ما كشفت عنه هذه الدراسة المتميزة التي رصعت خاتمتها بمدونةٍ للتبراع تضيف إلى مخزون ذاكرتنا الشفوية رصيدا مدونا يحفظ الإبداع من الضياع.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *