تسريد العرفاني.. الريادة والأصالة

د. رسول محمد رسول*

قراءة في تجربة (سابع أيام الخلق) لعبد الخالق الركابي

في عام 1994، وبينما كنتُ مُنهمكاً بالتحضر لكتابة فصول رسالتي الجامعية (الدكتوراه) عن (الحضور والتمركز في الفلسفة الألمانية) من (جامعة بغداد)، صدرت في بغداد سردية الروائي العراقي عبد الخالق الركابي (سابع أيام الخلق)، التي طُبعت تالياً لأربع مرات حتى عام 2012.

في ذلك الوقت، بدا (عنوان) رواية الركابي هذه منعطفاً في تاريخ الرواية العراقية، بل والعربية حتى، كونه يوحي بدلالة أسطورية أو دينية أو صوفية ما عزز قناعتنا بأننا كقرّاء سنكون بصدد عمل روائي يحفر في موضوعة مغايرة؛ عمل يتوغل شاحذاً كينونته لتسريد عرفان المعنى ووجد الحضور ومسالك العارفين المتخيَّلة على نحو تأسيسي جديد يقطع ماضي السَّرد الروائي مع مستقبله منذ ذلك العام، بل منذ تلك التجربة/ القطيعة في تاريخ السَّرد الروائي العربي، التي تبعتها تجربة رواية المغربي أحمد التوفيق (جارات أبي موسى) عام 1997، وروايات أخرى له تالية، وصولاً إلى تجربة الشيخ عبد الإله بن عرفة ابتداء من روايته (جبل قاف) عام 2002، ورواياته التالية أيضاً، وهي التجارب الروائية التي صارت تشق طريقها صوب ما يُعرف بـ (الرواية العرفانية)، وهو مصطلح يشي بمخاطر قلقة في كونه الدلالي من الناحية المفاهيمية والمعارفية (Epistemology)، بل والتجنيسية حتى قدر تعلُّقه بالفن الروائي، لكنَّها العودة إلى النَّصوص الأصل أو نصوص التأصيل الأولى لهذا الضرب من الكتابة الروائية الذي يحفل بتسريد العرفاني قد تضعنا عند تخوم دلالة مصطلح (الروية العرفانية) من خلال قراءتنا هنا لرواية عبد الخالق الركابي (سابع أيام الخلق)، الذي ولد في محافظة واسط العراقية عام 1946.

منذ العتبة الأولى التي افتتح بها الناص المركزي (Central textor) متنه الحكائي، نجد أنفسنا بإزاء كون دلالي سرعان ما تأسرنا عوالمه الصوفية، وذلك عندما يُوظف أحد فصوص ابن عربي الصوفية كعتبة افتتاحية، والذي جاء فيه: «العالم حروف مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبداً لا تنتهي» (ص 29). وإذا كان الملفوظ الأول في هذا الفصل يصف الحالة، فإن الملفوظ الثاني المسرود يحثُّ على فتح دلالات الملفوظ الأول من خلال الكتابة على “رق الوجود المنشور”، وعندها تصبح الكتابة السَّردية حالة وجودية قد تكون أنطولوجية – بحسب مفهمة مارتن هيدغر لدلالة ما هو أنطولوجي – لكنّها تبقى وجديَّة للذات الإنسانية، كما هي عند المتصوفة، فيها معنى ومثول يتجاوزان مجرَّد الوجود المادي إلى بواطنه غير المرئية.

ما هو لافت في جسديَّة هذا النَّص المتناص معه هو انشغاله بعوالم السَّرد المفتون بذاته (Metafiction) الذي يوظِّف شئون الكتابة الروائية على نحو واضح في أي متن سردي؛ فإلقاء نظرة على عناوين فصول هذه الرواية، نجدها تحتفي بملفوظ «كتاب» الذي أخذ يتكرَّر لأكثر من عشر مرّات، كما أن عناوين الفصول وُضعت تحت مسمى مسرود هو “فهرست كتاب سابع أيام الخلق” (ص 429)، وهو مؤدّى سردي غير معهود في روايات النَّمط التقليدي في العصر الحديث، بينما جاء استخدام ملفوظ «سفر» لسبع مرات، وعلى عدد أيام الخلق، وهو ما له دلالاته الكتابية المهمة كونه يوحي باستقطاب دلالات ما هو ديني، ليواصل الناص المركزي أو عبد الخالق الركابي، استقطاب عوالم السَّرد المفتون بذاته عبر توظيف مفاهيم مسرودة ذات دلالات فلسفية صوفية مثل: الإنية، والصفات، والهوية، والذات، والأحدية، وحروف اللوح المقروء كالألف، واللام، والراء، والحاء، والميم، والألف المحذوفة، والنون، وبجمعها يتكوَّن لدينا ملفوظ “الرحمن”، وهو أحد أسماء الله الحسنى.

booksstream

تبدو رواية (سابع أيام الخلق) تكملة سردية لمسرود ناقص كان الركابي الناص قد نشره في سرديته السابقة (الراووق)، التي صدرت كرواية عام 1986، ما يعني أن السَّرد لدى الركابي يمثل صيرورة متواصلة في لوح الوجود أو في نص الوجود المعاش وجدياً والمقروء أنطولوجياً، وهو ما يكشف عنه مفتتح «كتاب الكتب – سفر الألف» (ص 31)، الذي قال فيه الراوي: «لعلَّ كلمات شبيب طاهر الغياث، سادس رواة المخطوط، هي خير مدخل لروايتي هذه؛ ففي ختام الصفحات التي كتبها إليَّ، لخَّص جهده وجهود منْ سبقه من الرواة بعبارة بليغة أشبه ما تكون بحكمة» (ص 31). وأضاف الراوي نقلاً عن الغياث: «لقد تم العثور على أهم أوراق السيد نور، وبذلك اكتمل متن جديد للمخطوط؛ متن غريب هو مزيج من حكايات شفهية ما زال رواة السيرة المطلقية المحترفون في محافظة الأسلاف يقصّونها على أنغام الرباب، ونصوص عرفانية، وكتابات أدبية ذات طابع تراثي بحت» (ص 31).

لقد سبق لي وعرَّفت السَّرد المفتون بذاته بأنه وجود إبداعي متخيَّل وقد تحوَّلت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية كالقصَّص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمَّن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة، وأحوال الكاتب، والقارئ، والمقروء، والناقد، والناص أو المؤلِّف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والمظاريف، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيَّل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصَّة أو رواية أو مسرحية.

وفي ضوء ذلك، فإن أي حديث مسرود عن مخطوط ما يعدُّ موضوعة من موضوعات هذا النَّمط السَّردي كما هو حال رواية (سابع أيام الخلق) التي توظف مخطوطاً توافرت ظروف معينة على إيجاد ما فُقد منه، وهو الذي يعود إلى (السيد نور)؛ الجزء الذي تتضمَّن كينونته النَّصية حكايات شفهية، ونصوص عرفانية، وكتابات أدبية تراثية. وكلها مؤشرات أنطولوجية متخيَّلة تؤكِّد ارتباطها بالسَّرد المفتون بذاته كأسلوب يحتفي، من بين ما يحتفي، بتسريد ما هو عرفاني على نحو متخيَّل.

إلى جانب ذلك، توجد جُملة ملفوظات مسرودة ترتبط بعوالم ما هو عرفاني صوفي؛ فمصطلح “السيرة المطلقية”، ومصطلح “مدينة الأسلاف”، وهي مدينة متخيَّلة؛ “مدينة الحروف والكلمات” (ص 32)، ومصطلح “نصوص عرفانية”، ومصطلح “كتابات تراثية”، إنْ هي إلاّ دوال يبقى المشار إليه (Referent) المسرود فيها هو عالم ما هو صوفي عرفاني تراثي، ناهيك عن دوام اشتغالها وعدم انقطاعها أو توقفها، فبعضها ما زال يُقصُّ لأسماع الناس وهو دأب بقاء الذوات المتحابة وتزمنها الروحي.

يبدو (الراوي) في (سابع أيام الخلق) سابع الرواة، إنه الراوي التالي، في المخطوطات المسموعة والمكتوبة المعثور عليها، ليعود (الراوي) كاشفاً، في بادئ الأمر، عن وظيفة الروائي في عمله السَّردي؛ فالروائي “يحب أن يتجلى في مرآة الوجود”، وما كتابة رواية، أية رواية في سياق الوجد العرفاني سوى “ضرب من حب الذات” (ص 32)؛ فالحب والذات والوجود ثلاثية تستند إليها الكتابة الروائية العرفانية عبر أنطولوجيا الكتب والمكتبات، هذه الأخيرة التي يقدِّم لنا الناص/ الراوي فيها تماهياً بينها وأنطولوجيا ما هو صوفي: “هكذا مضيتُ في التنقُّل بين تلك المكتبات عاماً بعد عام لأنتهي، في آخر الأمر، بمكتبة المُتحف، وكأنَّ تلك المكتبات كانت أشبه بالمقامات التي يرتقي إليها السالك في طريق التصوّف، وما الكتب التي كنتُ أقع عليها إلاّ الأحوال التي تنزل بالقلب كلمع البرق فتورثني القبض والبسط والخوف والرجاء ليحصل الكشف في مكتبة المُتحف” (ص 34).

يضعنا هذا النَّص المسرود من جانب الراوي وهو يتحدَّث عن تجربته مع القراءة والكتابة والكتاب والمكتبات عند عتبة الانتقال إلى بنية الحياة الصوفية، بل هي أنطولوجيا ما هو صوفي، وهو ما تعبِّر عنه المتشابهات المتماهية الآتية: المكتبات = المقامات + الكتب = الأحوال + القلب = المُرسَل إليه، ومسرح الوجد + أحوال القلب = القبض، البسط، الخوف، الرجاء + الغاية = الكشف + المكان = مكتبة المُتحف.

لنبقى في المكان؛ «مكتبة المُتحف» التي أضفى عليها الناص قيمة روحية عندما التقى أول مرة أنثى اسمها “ورقاء”، وهي موظَّفة في المكتبة؛ ورقاء التي حقَّقت للراوي، وهو روائي، كشفاً أزال عن قلبه حجاب الظلمة: “حينما التقت نظراتنا في المرآة، استدارت نحوي مفغورة الفم ذعراً – اعترفت لي، فيما بعد، بأنها حسبتني لحظتئذ شبحاً، وهو ظن يسوّغه الجو شبه المعتم المفعم برائحة البخور والحناء، كما يثيره اقتران تلك القاعة باسم السيد نور من أصداء” (ص 35). ناهيك عن أن لقاءهما تم في «القاعة النورية» (ص 34)، وكلها أسماء مكانية دالة على عوالم صوفية سيواصل الناص اعتمادها في تسريد الحالة.

تبدو رواية (سابع أيام الخلق) لعبد الخالق الركابي مؤثثة بكل متطلّبات السَّرد المفتون بذاته، لكنها أيضاً أكثر تأثيثاً لمتطلَّبات الرواية العرفانية، وكلاهما يؤثث للحكاية المركزية فيها طابعها العرفاني من حيث الشخصيات والعلاقات المسرودة فيما بينها تواصلاً مع الغايات الذاتية بطابعها الوجدي الذي تكشفه تباعاً الحكايات المصغرة لكل الفاعلين (Actors) المشاركين في أحداث الرواية، ولكل العوامل (Actants) التي تساعد على بناء المتن الحكائي العام فيها، والذي امتاز الناص المركزي بتسريدها (الفواعل والعوامل) على نحو مغاير للانفلات من قبضة التاريخ التسجيلي في تشييد الكون الحكائي ومتنه صوب بناء شخصيات وأمكنة وأزمان وأهواء وجدية وذاتية من دون السقوط في هاوية استدراج شخصيات بعينها من التراث الصوفي والعرفاني، وهو ما أضفى على (سابع أيام الخلق) سمة العمل الروائي فائق القدرة على تخييل التراث الصوفي والعرفاني بعيداً عن أي ارتماء في الرواية التاريخية الذي سقطت في حبائله بعض التجارب الروائية ذات الشأن العرفاني، وبذلك حاز عبد الخالق الركابي قصب السبق النسبي في تأصيل هذا الضرب من الإبداع الروائي الجديدة على المشهد السَّردي العربي ابتداءً من ثمانينيات القرن العشرين لتظهر، من بعده، تجارب تالية في هذا السبيل الجمالي الخلاق.

______________

*ناقد من العراق/ مجلة الفجيرة الثقافية

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *