السينما الإيطالية.. مشكلات السياسة والمدينة والإنسان (فيديو)

خاص- ثقافات

*أحمد ثامر جهاد

صنّاع التقاليد

عبر تاريخها الطويل الحافل بالإنجازات والمتغيرات، رددت السينما الإيطالية خلال القرن المنصرم أصداء التأثيرات العاصفة التي تعرضت لها الحياة الإيطالية ذاتها، لا سيما في فترة ما بين الحربين العالميتين وصعود الفاشية ثم انهيارها المدوي، وما تلا ذلك من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية استمرت لعقود.

فترات الركود والانقطاع التي عانت منها السينما الإيطالية آنذاك دفعت صنّاعها إلى التقاط هاجس رفض كل ما هو سائد – وإن على المستوى الفردي- والبحث عن هوية خاصة ولغة سينمائية مستقلة خارج إطار الرومانسيات والكوميديا، وكذا مناكفة الواقع المرير بمسرحة فيلمية دعائية تتغنى فيها استوديوهات (روما سينشيتا) بأمجاد سالفة، متعالية على مشكلات راهنها.

في خضم ذاك الحراك ومن رحم الخراب الروحي والفقر وانعدام الشرط الإنساني في واقع ما بعد الحرب؛ الممزق طبقيا والمنقسم سياسيا،ولدت الواقعيّة الإيطاليّة، مُحاولة منذ بداياتها إعادة النظر بمعنى الحرب والواجب الوطني وهوية المنتصر والوقوف على طبيعة الانحطاط الذي دفع الشعب لصنع طاغيته. لقد أدرك السينمائيون حينذاك ضرورة توثيق ما يحدث على أرض الواقع، ونقله إلى الشاشة بأمانة فنية بدت أقرب إلى التسجيليّة، لتمثل في جانب من جوانبها، استجابة لمخاض فني وفكري تزعمته بشكل ملحوظ قوى اليسار، وتضافرت فيه عوامل الوعي الفلسفي والنقدي الهادف إلى تأصيل النزعة المناهضة للفاشية والتخلص من أوهام الماضي والاعتراف بـ(خواء الإمبراطورية) التي نخرها فساد السياسة وتلبستها نذر الشر.

وبرغم أن السينما الإيطالية في أصعب مراحلها، تدين بوجودها واستمرارها للدولة الفاشية، إلا أن أفلام جيل الواقعية الكبار(روسليني، دي سيكا، فيسكونتي وآخرين) مثلت إيذانا ببدء مرحلة سينمائية جديدة اختارت أن تكون ملتزمة بقضاياها العادلة في كشف مظاهر الخداع السياسي والفشل والتحلل الأخلاقي في مستوياته الفردية والاجتماعية، لذا عدّ الطابع الإنساني لأفلام الواقعيّة دعوة صريحة ذات بعد سياسي للنهوض بإيطاليا جديدة تليق بالإيطاليين، ونزوعا سينمائيا تطهيريا ينشد الخروج من براثن الماضي والتخلص من عُقده وتقاليده المشوهة، ليس فقط عبر وضع الكاميرا في الأمكنة الحقيقية للحدث، معاينة الواقع بلا رتوش، وتحويل أناسه العاديين إلى أبطال على الشاشة؛ وإنما عبر اعتماد أسلوب معالجة سينمائية جمالية، فعّالة وباعثة على الأمل، من دون نظر مثالي وتهويمات شكليّة كما في فيلمي روسليني(روما مدينة مفتوحة، ألمانيا العام صفر)، فيما شكلت أفلام الواقعية الجديدة طوال عقود لاحقة مجابهة جريئة مع شهوة المال والجنس والسياسة، الثالوث المحرم الذي حكم الحياة الإيطالية المدموغة بهيمنة مافيات الفساد السياسي وسطوة الكنيسة.

max1414758296-front-cover

مقارنة بسينمات أوربية أخرى، بقيت السينما الإيطالية وفية لواقعيتها، فرصدت مشكلات الحياة الاجتماعية والسياسية في ايطاليا وتحولاتها الخطيرة منذ مطلع القرن العشرين وإلى الآن. ومهما عُد بعض المخرجين خروجا عن النسق الواقعي (فليني،بازوليني،ماركو فيريري،انطونيوني) إلا أن أفلامهم الجريئة عبرت بشكل من الأشكال عن وعي حاد وبصيرة فذة في تعرية ونقد البنية السوسيوثقافية، وإن كان ذلك عبر منحى لاواقعي وشكل سينمائي مغاير ينهل من فرادة التجارب الخاصة للمخرجين.

في المحصلة ثمة صورة سينمائية مشاكسة ومُكبرة لا تؤمن بترف الغرب الكولونيالي ولا تتملق عوالمه البرجوازية، كانت قد حفزت الجدل الثقافي في الأوساط السينمائية الإيطالية ومنحته أحقية التعبير عبر وسيط فني(السينما) هو الأكثر شعبية، في بلد تشرب لقرون خلت أعظم إبداعات الرسم والموسيقى والأدب.

على خطى الواقعية

 

الواقعية سمة إيطالية في السينما، لناحية تأملها صورة الواقع وليس لمجرد توثيقه، تلك بصمتها الخاصة وعامل تميزها ورواجها. إن السينما التي استوعبت تأثيرات السينما السوفيتية والفرنسية حملت في خطابها أعباء الايدولوجيا والتحريض المباشر على تغيير الواقع من جراء تفاعلها مع دعوات جيل رافض للحرب ومتمرد على قيود البنية الاجتماعية المحافظة. حينذاك كان لا بد من الاعتراف بالهزيمة وتجاوز هول الصدمة ودرء تهمة الفاشية عن الشعب الإيطالي الذي كان أسوة بشعوب أخرى مجاورة ضحية الخوف والدعاية الحزبية وأحلام الإمبراطورية في الهيمنة.

بعد انقضاء الحرب وعودة إيطاليا إلى أحضان جيرانها الأوربيين، استعادت السينما قدرا من إيمانها بخصوصيتها، وباتت تتطلع إلى مستقبل واعد يمحو آثار الماضي ويقدم إضافة نوعية مشفوعة بتصورات جديدة ستغيّر مفهوم الفن والجمال والنظرة إلى الإنسان. فجرب بعض السينمائيين الذهاب بعيدا في رحلة ذاتية فريدة وطموحة في أفلام لا تتجاهل الواقع لكنها تتجاوزه نحو آفاق أرحب، بما تمتلكه من رؤية سينمائية عميقة تتواءم مع مرجعياتها الفكرية المختلفة، لكن العقبات ستبقى تلاحق صنّاع السينما الإيطالية، إحدى أعرق سينمات العالم، فلا أحد ينكر ما تعانيه منذ أكثر من نصف قرن من مشكلات عدة،على مستوى الإنتاج والتسويق والطابع الاستهلاكي لأفلام الشبّاك وقلة حضورها في حلبة التنافس العالمي، فضلا عن هجرة بعض أشهر نجومها (ممثلين ومخرجين) إلى هوليود التي لم تكن موضاتها غائبة عن السينما الإيطالية (سباغيتي ويسترن)، لكن في المقابل سيحمل فريق مبدع من المخرجين السينمائيين على عاتقه ضريبة العمل في ظروف ليست مثالية من اجل إعادة الاعتبار للفيلم الإيطالي وترسيخ حضوره عالميًا.

Rome, Open City (Roberto Rossellini, Italy 1945, 100 mins)
Rome, Open City (Roberto Rossellini, Italy 1945, 100 mins)

خلال العقدين الأخيرين واصلت عجلة الإنتاج السينمائي دعم أفلام الشباب الطموحين(ماتيو غاروني، اورليانو امادي، روبيرتا توري، ماركو تيليو جيوردانا، ريكي تونياتسي) إلى جوار إنتاج أفلام أقل شأنا، فالصالة التي دشنها السينمائيون الكبار ستتسع للجميع وإن برهانات سينمائية متناقضة. ويمكن للمتابع أن يلحظ على الأفلام الإيطالية التي نالت خلال السنوات الماضية تقديرا عالميا واستحسانا جماهيريا، محاولتها أن تكون -بنجاح متفاوت- وفية لتقاليد السينما الإيطالية في اتجاهاتها وجمالياتها. ربما يجد البعض أنها بشكل من الأشكال تستكمل قراءة مسار التاريخ الإيطالي وتستهدف في مضامينها الاقتراب من صورة الواقع ذاته الذي يشوبه الإرباك وتحوطه العثرات والأزمات الاقتصادية وقضايا الهجرة والطابع الكوزموبولتي للمدينة بشكل يجعله عرضة للنقد والمفهمة. في خضم ذلك عاودت بعض الأفلام تناول حقبة الحرب العالمية الثانية (المرحلة المفصلية في التاريخ الأوروبي) بعين فاحصة خلت من التوهمات والبطولات الزائفة، وان لم تذهب بعيدا في تحليل تلك الظاهرة التي اعتبرت- إلى حين- قدرا محتوما. إنه بحث متواصل بزوايا نظر متباينة لبلوغ إجابة شافية عن السؤال الجوهري للايطاليين:  ما سبب تأخرنا عن جيراننا الأوروبيين؟.

dd0f59428464c82c6bd97cbf0e71181d

أحلام الأمس، أفلام اليوم

في الغالب لم تغب هموم السياسة والاحتجاج الاجتماعي عن السينما الإيطالية المعاصرة التي ألهمتها بالأمس، أفلام (جيلو بونتيكورفو وفرانشسكو روزي وايتوري سكولا) والتي لم تكن نبتا شيطانيا بلا جذور. وبرغم أن سينما الأمس العظيمة التي لم تغادر مخيلة المشاهدين بقيت معيارا قاسيا لتقييم أفلام اليوم، إلا أن الأخيرة ساعية ليس فقط لتغيير المعادلة الاجتماعية وتعرية زيفها، وإنما لسرد قصة فساد مستتر يحكم ايطاليا برلسكوني، كما لكشف متلازمة شر غير منظور تمثله السلطة وشبكات المافيا والجريمة المنظمة وتخادم المصالح بين الكنيسة ورجال الأعمال. هل السير على خطى الواقعية الجديدة يعني أن لا شيء تغير في الحياة الإيطالية الراهنة؟.

في فيلمه الموسوم( النصر-2009) طرح المخرج الإيطالي المخضرم”ماركو بيلوتشيو” رؤية سينمائية مثيرة لا تبرأ أحدا عن سيرة بنيتو موسوليني، منذ ريعان شبابه وحتى مقتله، عبر قراءة صعود العسكريتاريا واندحارها، واستند الفيلم إلى التفاصيل الواردة في كتابي”زوجة موسوليني” لماركو زيني، و”النجل السري للدوتشي” لالفريدو بياروني،والتي وظفت في سيناريو سينمائي محكم كتبه المخرج بنفسه وعرض فيه سيرة الزعيم الايطالي من زاوية مغايرة لما اعتدنا مشاهدته من أفلام تتناول حيوات القادة والزعماء.

في آخر مشاهد الفيلم تصبح الصورة كناية دالة عن بزوغ فجر جديد مع أفول الفاشية، إيجاز سينمائي بليغ، نرى من خلاله الحركة البطيئة لآلة فولاذية عملاقة تكبس بقوة تمثال برونزي لرأس الدوتشي، انها بشائر انطفاء الحرب وعودة الحياة ثانية إلى إيطاليا وعموم أوربا.

ومع غنى تجربة السينما الإيطالية التي عرفت أوج مجدها بعد الحربين العالميتين يعرب جمع من السينمائيين بمختلف الاتجاهات عن الرغبة في السير على خطى واقعية جديدة تثري التجربة وتوسع مدياتها بأساليب سينمائية تتباين من مخرج إلى آخر. فالحيلة لم تنقص هؤلاء المخرجين،وهو تماما الشيء اللافت في سينماهم، التي وظفت الدراما والكوميديا في إيصال رسائلها النقدية. ألم يلجأ المخرج”ناني موريتي” الذي يعد وريث الواقعية الإيطالية، في فيلمه (أصبح لدينا بابا-2011) إلى الكوميديا السوداء لتعرية أزمة الحبر الأعظم الذي رفض المنصب البابوي، ليطل من خلالها على أزمة مجتمع بأكمله رهن مزاجه الشعبي برجاحة قرارات بابا الفاتيكان وسلامة قواه العقلية والجسدية. كما قدم “موريتي” في أفلامه الأخرى (غرفة الابن-2001) و( أمي-2015) صورة سينمائية مؤثرة وصادمة أحيانا عما يحدث اليوم من متغيرات في نسيج الحياة الاجتماعية الإيطالية.
Life_Is_Beautiful_R2_1997-front-www.GetCovers.net_

في حين قدم المخرج الأكثر شهرة “روبرتو بنيني” بحس مرح وأداء ممتع شهادة سينمائية ملحمية عن إمكانية العيش بسلام وأمل في حياة خربتها الحرب وغادرتها المعجزات، وذلك في فيلمه (1997- Life Is Beautiful) الذي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، فيما تناول فيلمه الكوميدي اللاحق( النمر والثلج-2005) الذي يؤدي دور البطولة فيه، قصة حب ساخرة بين شاعر وصحفية على خلفية الحرب على العراق، والتي سبق للمخرج أن قال عنها “إنها قلبت حياتنا رأسا على عقب”، كما لم تغب أجواء الحرب وتأثيراتها على حياة الأفراد وطموحاتهم ومصائرهم، عن العديد من أفلام المخرج الدؤوب جوسيبي تورناتوري (Cinema Paradiso،Malena،Baaria) والتي نالت تقديرا نقديا وجماهيريا واسعا.

ولأن ماضي روما شاخص دوما في حاضرها، سيفتش المخرج المبدع “باولو سورينتينو” عن أشباحه وحكاياه، في فيلمه المتميز(الجمال البهي-2013) المتوج بأوسكار أفضل فيلم أجنبي بالتعاون مع النجم”سيرفيللو”، ليقدم للعالم صورة استعارية عن روما،مدينة الأحلام التي يسكنها التاريخ، وتخلد في قداسة معمارها ومتاحفها أروع الأساطير. روما فلليني يعاد بعثها مجددا، لكن نراها هذه المرة بعين كاتب في خريف العمر،خانه الإلهام وغادرته العزيمة. فيلم باذخ الجمال يعيد للسينما الإيطالية وهجها الذي كان،حين يتأمل مسار الحياة والفن في مرثية شاعرية تتغنى بقلب المدينة النابض الذي أسرنا به.

السينما الإيطالية التي بقيت بوصلتها الحساسة تشير إلى متغيرات الواقع الحياتي الراهن، نجدها حميمة الصلة أيضا بروائع الأدب الروائي والمسرحي. فشكسبيريات”فرانكو زيفريللي” الكلاسيكية، تأخذ على يد “الأخوين تافياني” منحى آخر في فيلم (قيصر يجب أن يموت) المتوج بجائزة الدب الذهبي 2012 والذي يعيد موضعة تراجيديا “يوليوس قيصر” في إطار زمكاني معاصر، يكون السجناء فيه أبطالا شكسبيريين في متوالية بحث عن حلول مقنعة لتماهي الواقعي بالمتخيل.

يومها قال فيتوريو تافياني: “آمل أن يعود المتفرج إلى بيته بعد مشاهدة الفيلم، ليفكر في أنه حتى السجناء، الذين يحملون فوق رؤوسهم عقوبة ثقيلة، سيظلون بشرا مثلنا..”.

ومع تغير أساليب المخرجين السينمائيين وتنوع موضوعات أفلامهم يبقى جدل السينما الإيطالية المعاصرة قائما ومتجددا وفي الوقت عينه معبرا عن قلق صناعها وطموحاتهم الجادة في إعادة المجد لسينما عريقة صنعت إيقوناتها العالمية بلمسة ساحر.

***

في احد مشاهد رائعته (ثمانية ونصف-1963) كان فرديريكو فلليني قد عبّر بذكاء عن هواجس المخرج وقلقه الذاتي من غواية الركون إلى لغة خالية من الإبداع الحقيقي. هناك يعترف المخرج(غويدو-الممثل ماستروياني) الذي يجسد شخصية فلليني نفسه في لحظة مكاشفة مع الذات:” ظننت ان أفكاري واضحة، جملة أشياء بسيطة أقولها فتكون نافعة للجميع. أردت أن اصنع فيلما صادقا يخلو من الأكاذيب، فيلم يحفر أثره عميقا في قلوب المشاهدين، بدلا من عرض تلك الأشياء الميتة التي نحملها بداخلنا. أخشى أن لا أجد الشجاعة لأحقق شيئا على الإطلاق” .
______
*ناقد فني عراقي

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *