نهاية العلاقة النفعية بين الشاعر والجمهور

*د. عبدالقادر جبار

تطرح نصوص عدد من كتّاب قصيدة النثر في العالم العربي سؤالاً مفاده: هل هذا التحول نحو النثر يعود إلى تطور في الذائقة الجمالية للمنتح (المبدع) والمتلقي، أم أنه يمثل تراجعاً عن الأصول التي جبلت عليها القصيدة العربية؟ وهل هناك علاقة بين إبداع قصيدة النثر ومجمل ما وصل إليه البناء الحضاري؟، وهل استطاعت قصيدة النثر أن تزاحم القصيدة التقليدية (الشطرين، وبعدها التفعيلة) في جذب المتلقي إليها؟، هذا فضلاً عن سؤال يتعلق بفكرة النخبة الشعرية واتجاه الشعر نحو العوالم الضيقة والقطيعة مع بقية الأشكال الأدبية، بعد أن ساد عالمنا الاختصاص الدقيق، وهذه الأسئلة تمثل اليوم إشكاليات حقيقية أمام مستقبل أهم نتاج أدبي عربي في التاريخ، وهو الشعر.

سنحاول تحليل المعطيات التي يمكن أن تسهم في حل هذه الإشكاليات، مبتدئين من سؤال: هل استمر الشعر بوصفه (ديوان العرب؟)، إن الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى بدايات النقد ووصف النقاد العرب القدماء الشعر بالديوان، وفكرة (الديوان) لا تتعلق بالتسجيل والتوثيق، على الرغم من أن المعنى اللغوي المقابل يعني الدفتر، بل يتجه إلى قضية أخرى أكثر خطورة من التسجيل والتوثيق، ألا وهي، استمرار قول الشعر وتلقيه وذكر الأحداث والمآثر، وتعبئة القبائل والأفراد، وشحن الروح بما ينسجم مع متطلبات الحياة في المراحل المختلفة، من الجاهلية وحتى استقرار مرحلة التدوين بعد منتصف القرن الثاني الهجري، لأن العرب ربطوا بين الديوان والحكمة والجوهر الروحي للإنسان بقولهم: كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون.

هذا الموقف أكده ابن سلام في طبقات الشعراء بقوله: الشعر معدن العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها، وجاءت صفة الشعر هذه في ضوء ما حققه في المرحلة الشفاهية (الجاهلية) من مهام تتعلق ب: الحفظ، التعبير عن الذات، الموقف من الحياة، الخبرة التاريخية، حفظ اللغة، والهوية الخاصة، وقواعد ومبادئ النظام الاجتماعي التي تنظم العلاقة فيما بينهم، والقدرة على توحيد المتلقين، فقد وجد العرب في الشعر وظيفة خاصة يمكن أن تؤدي هذه المهام الخطيرة، وذلك لأسباب مختلفة منها، أن الشعر أفضل النصوص في التلقي بسبب بنيته الإيقاعية والكثافة اللغوية التي يحتويها، ويمثل رؤية للعالم والجمال، لهذا وصف بالعلوق في النفس والذاكرة، وأن نظامه المستقر في الشطرين أيسر في الحفظ، وهذه الأهمية تتبع النظام الحضاري الذي عاشه العرب في مرحلة الكلمة المنطوقة، ورغبتهم في تماسك قبائلهم، لذلك نظر العرب إلى جودة بنية الشعر من خلال تماسكها الداخلي، حتى أن عبد الملك بن مروان حين أراد وصف جودة شعر الأعشى قال: «ما أعذب بحره، وأصلب صخره» وكان يريد بذلك قوة تماسك شعره، وعلى منوال هذا الرأي وصف عبدالله بن أبي العتيق شعر عمر بن أبي ربيعة بالشعر الذي تعطفت حواشيه ومتن حشوه، وكان يريد بهذا الوصف قوة تماسك الشعر ووحدته العضوية، وإيصال صوت الشاعر المفرد إلى الذوات المتفرقة من أجل جمعها وتوحيدها.

أمّا في مرحلة الكلمة المكتوبة، فإن الموقف من الشعر نظر إليه من زاوية أخرى؛ لأن الكتابة بظهورها وانتشارها في العصر الحديث بدأت تتجه بالعلاقة بين المنتج والنص والمتلقي إلى الجانب الذاتي، معارضة بذلك الكلمة المنطوقة التي مثلت علاقة اجتماعية وثقافية وروحية بين الذات والمجموع، وربما يكون هذا واحداً من الأسباب التي جعلت النقاد العرب يصفون الشعر بالديوان، وذلك بناء على قدرته على جمع العرب في مرحلة الثقافة الشفاهية وتعبيرهم عن مآثرهم وخصالهم الحميدة في النظام الاجتماعي والثقافي العربي، واهتم الفكر الغربي بالعلاقة بين المكتوب والمنطوق في النصوص الشعرية، إذ حلل (والتر أونج) أثر الشفاهية والكتابية في المتلقي، من خلال أثر كل من الكلمة المنطوقة والمكتوبة بالجمهور، ووجد أن قدرة الكلمة المنطوقة التي تنبعث من الأعماق الإنسانية مباشرة، إنما تخاطب دخيلة أخرى، حيث تنكشف الكائنات وتنجلي بواطنها أكثر، ولهذا تستطيع الكلمة أن توحد جمهور المستمعين في شخص واحد، ما دام المتكلم أو المخاطب واحداً، لكن هذه المزية سرعان ما تزول لو وزع الكلام ذاته مكتوباً على المستمعين؛ لأن الكلمة في الكلام المنطوق، ليست هي ذاتها في الكلام المكتوب، فهي مكتوبة عاجزة عن أداء مهمتها الأصلية، التي هي المكاشفة مع الجمهور في وقت واحد، ومن خلال إحساس مباشر واحد.
وإزاء هذه المزية للكلام المنطوق، ما الذي يمكن أن يحققه النص المكتوب في قصيدة النثر التي نأت بنفسها عن المنابر التقليدية؟.
إن الإجابة عن هذا السؤال، تكمن في أن النص المكتوب، لابد أن يعتمد على نظام العلامات، ولا يمكن أن يحقق قدرته على التواصل إلاّ من خلال استثمار معطيات السيمياء التي ترسم للمتلقي اتجاهات القراءة، سواء أكان ذلك في إيضاح المعنى أم في التنغيم والإنشاد، وهذا التحول في النص المكتوب، هو الذي يفسر لنا الاستعمال المفرط لشعراء النثر في الإمارات لعلامات الترقيم في قصائدهم، وهو الذي يفسر اتساع التأويل في القصيدة، كما يفسر مستوى الرمز وغموضه في قصيدة النثر، مقابل انحسار هذه العلامات في شعر شعراء القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وهي ظاهرة يمكن تعميمها على الشعر العربي كله، وهي محاولة لتعويض الأثر المنطوق في النص، وتوجيه القارئ نحو إنشاد موحد للقصيدة التي يريد الشاعر إيصال رسالتها إلى المتلقي.

هذه الوحدة في التلقي التي يسعى إليها شعراء النص المكتوب في قصيدة النثر، تحاول تعويض ما فقده النص من مزايا المنطوق، وبين القصد والتأويل تفتح قصيدة النثر آفاقها في القراءة من خلال لغتها التي هي نتاجُ ذاتٍ مفردة تتوزع بين ذوات مختلفة، تؤدي في كل قراءة وظيفة مختلفة، كما تذهب إلى ذلك نظريات القراءة الحديثة، أمّا القصيدة الموزونة المنطوقة فإنها تفتح ذلك الأفق من خلال عنصري اللغة الشعرية والإيقاع، وهذان العنصران ورثتهما الحساسية الشعرية العربية في تلقي الشعر منذ العصر الجاهلي حتى أصبحا راسخين في الذائقة الجمالية العربية، وأصبحت عملية زحزحتهما صعبة ومعقدة.

إن هذه القدرة الاستثنائية في الرسوخ والجمال، هي التي جعلت الشعر ديوان العرب في مرحلة الشفاهية العربية، وهي نفسها التي جعلت إمكانات تحول النمط معقدة، حتى بعد التحول الحضاري الذي عاشه العرب بعد ظهور الإسلام والعصور التي أعقبته، وكانت هذه (الاستاتيكية) في النمط التقليدي الموروث، تمثل حاجة أصيلة في نفس العربي وتكوينه الثقافي.
أشار القرطاجني أنه لشدة حاجة العرب إلى تحسين الكلام، اختص كلامها بأشياء لا توجد في غيرها من ألسن الأمم ومن ذلك، تماثل الأسجاع والقوافي، وهو يشير إلى موقف نقدي بناء على استجلاء تاريخي لحركة الشعر العربي منذ عصر الجاهلية، وهو بمثابة تسويغ آخر لمعنى الديوان الجامع في الفكر النقدي العربي القديم.

لكن، ماذا عن قصيدة النثر التي تنتشر اليوم بشكل واسع؟.. في ضوء التحولات الحضارية التي تعيشها البشرية تمثل قصيدة النثر واحدة من المحاولات الإنسانية التي تعبر عن خصوصية الذات، بوصفها أداة قابلة للتوزع بين ذوات مختلفة، وقابلة في الوقت نفسه لتأويلات مختلفة تتفوق كثيراً على التعبير بالشعر التقليدي الموروث، فالنثر تعبير عن الحرية في الوجود والانتقاء والاختيار والرسالة؛ لأنه خارج القواعد الصارمة للتشكيل والإيقاع، وهذا الخروج يجعله أكثر تحرراً في صياغة الأنساق وأكثر تحرراً في استثمار المنابع الثقافية، ابتداء من الأسطورة وصولاً إلى أعقد المنجزات الحضارية، لذلك وصف ظهور قصيدة النثر من قبل روادها الغربيين بأن عملية نشأتها وصيرورتها، تمثل نتاج مراحل ثورات الحرية الغربية، وفي البلاد العربية لم تبدأ قصيدة النثر بالظهور والتطور إلاّ بعد مرحلة التطور الحضاري الذي شهدته البلدان التي ظهرت فيها (سوريا ولبنان والعراق) والتفاعل مع المنجز الحضاري الغربي.

هذه الشروط هي ذاتها التي جعلت قصيدة النثر واسعة الانتشار، ومع هذا الانتشار بدأت بنية التوزع في العقل العربي تزاحم بنية التماسك التقليدية التي تتبع أنظمة وشروط نظام النص الشعري العربي الموروث، مع الإشارة إلى أن بنية التوزع، لا تعني التفرق، بل تعني توكيد الذات وتكريس خصوصيتها في أوسع مساحة من الذوات القارئة، لذلك فإن مشهد قصيدة النثر العربية يختلف بين بلد وآخر تبعاً للمنجز الحضاري والتطور في مجالات الحياة المختلفة، وهذه المتغيرات تدعونا إلى القول: إن بنية اللغة المنطوقة هي بنية تماسك، وظيفتها جمع المفرق (وهذا ما حققته قصيدة الشطرين)، في حين توصف اللغة المكتوبة ببنية التوزع، ووظيفتها تأكيد الذات والتعبير عن حريتها في مرحلة البناء الحضاري والإنساني، وهذا ما فعلته وتفعله قصيدة النثر، لذلك فهي تعني نهاية العلاقة النفعية بين المبدع والمتلقي؛ لأنها لا تبني أغراضها على المديح والهجاء.
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *