الكتابة.. مَجْدُ البشرية

*إميل أمين

هل وجدت القراءة دون وجود الكتابة مقدماً؟ المؤكد أن اختراع الكتابة يعد أحد أهم الاختراعات البشرية، إن لم يكن أهمها جميعاً، فبدون الكتابة، ليس ثمة تاريخ للبشرية، ومع ذلك فنحن ننظر إلى الكتابة على أنها أمر مسلم به، نتعلمها في المدارس بناء على الأبجدية، مع ذلك فنحن نادراً ما نتوقف قليلاً لنتمعن في الجهد العقلي – البدني الذي يحول أفكارنا إلى رموز يفكها على قطعة من الورق أو على شاشة الفيديو أو في ذاكرة الكمبيوتر. وقليل منا هم الذين يعرفون كيف تعلمت البشرية أن تخط وتكتب.

ينظر إلى الكتابة والقراءة بصفة عامة على انهما من عناصر الخير والنفع العميق، وغني عن القول أن الشخص الذي يجيد القراءة والكتابة بصفة عامة يمتلك فرصاً أوفر لتحقيق الذات بخلاف الشخص الأمي، ولكن انتشار الكتابة له أيضاً بعده الآخر السلبي الذي تمتلئ به صفحات التاريخ، فلقد استخدمت الكتابة لنشر الأكاذيب إلى جانب الإعلان عن بعض الحقائق، كما استغلت الكتابة والنشر للمخادعة والتضليل والابتزاز، وأيضاً لتغفيل العقول، دون أن نغفل بطبيعة الحال وظيفتها في التربية وشحذ النفوس.

ولقد أوضح الفيلسوف سقراط مشاعرنا المختلطة بين الحب والكره تجاه الكتابة في القصة التي ساقها عن الإله المصري تحوت، المبتكر الأسطوري لفن الكتابة، والذي قيل إنه قصد إلى بلاط الفرعون لتلقي التهنئة والتبريك على اختراعه لفن الكتابة، وإذا بالفرعون يقول له: «أنت يا رب الحروف، قد أعطيت هذه الحروف سلطاناً ليس من خصالها الأصلية، لأنك تحب هذه الحروف وتتعاطف معها… لقد ابتكرت إكسيراً لا ينفع الذاكرة في شيء وإنما قد يعين قليلاً في التذكر عند الناس، وبهذا فإنك تقدم لتلاميذك وجهاً مخادعاً للحكمة، لأنهم سوف يقرؤون الشيء الكثير دون أن يتعلموا شيئاً يفيد، ومن ثم فإنهم سوف يتظاهرون بالمعرفة في أمور شتى، ولكنهم في حقيقة الأمر جهلة غافلون».

والتأمل في كلمات هذا الفرعون، في القرن الحادي والعشرين الذي نحاصر فيه بسيل من تكنولوجيا المعلومات يعطي هذه الكلمات الحكيمة القديمة رنيناً له وقعه في أيامنا المعاصرة.

الكتابة.. تاريخها وتطورها

أحد أهم الكتب العالمية التي تؤرخ لرحلة الإنسانية مع الكتابة هو كتاب «تاريخ الكتابة.. من التعبير التصويري إلى الوسائط الإعلامية المتعددة» لمؤلفته البروفيسوره الفرنسية «آن ماري كريستان»، والتي تقوم بالتدريس في جامعة باريس السابعة، حيث أسست مركز دراسة الكتابة، وقد أشرفت على نشر العديد من المجلدات حول موضوع الكتابة، وقد قامت مكتبة الإسكندرية بإصدار نسخة منه بالعربية من تحرير د. خالد عزب.

يحدثنا د. إسماعيل سراج الدين، رئيس مكتبة الإسكندرية، في مقدمة هذا الكتاب عن ظهور الكتابة منذ فجر التاريخ في مصر، حيث كان لاستقرارها الاقتصادي والسياسي والديني أثره في اختراع الكتابة، ما أدى إلى ازدهار الحضارة المصرية القديمة التي ما تزال تثير إعجاب العالم، والسبب الرئيس كان هو الاختراع العظيم الذي أحلّ الكتابة محل الذاكرة في حفظ العلم، وإذا كانت الذاكرة تضيع أكثر، فالكتابة تحفظه كله.

فالصور والرموز والعلامات، تمثل البدايات الأولى البسيطة للكتابة المصرية القديمة التي بدأت كغيرها من الكتابات القديمة في شكل رسوم يصحبها بعض الرموز، ومن المحتمل أن الكتابة في مصر القديمة قد ظهرت بطريقتين: طريقة تخطيطية لم يقدر لها الانتشار وأخرى تصويرية هي التي استمروا عليها، وبمضي الزمن جمعوا إلى تلك الصور علامات تصويرية إصطلاحية، كانت تؤدي غرض المقاطع الصوتية. ثم أضافوا إلى هذه وتلك حروفاً هجائية يدل كل شكل منها على حرف واحد، وبلغ العدد عند اكتمالها أربعة وعشرين حرفاً.

على أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت بداية الكتابة مع الفراعنة المصريين أم أن الأمر يسبق ظهور اللغة الهيروغليفية ذاتها بآلاف السنين؟

الثابت أن الجواب يتصل اتصالاً أساسياً بالمفاهيم والنظريات المتعلقة باللغات من منظورين: لغوي وجغرافي. وقد استفاض الدكتور محمد مدحت جابر والدكتورة فاتن محمد البنا في كتابهما «جغرافية اللغة» في شرح تلك المفاهيم، والمستمدة من أسئلة أساسية شاغلت فكر الإنسانية منذ القدم، أسئلة من نوع: كيف ظهرت اللغات بين البشر؟ ما هي أقدم هذه اللغات؟ كيف تطورت الكلمات واللغات؟ ما هي اللغة التي تحدث بها أفراد جاء ذكرهم في الكتب المقدسة؟ هل تفرعت كل اللغات عن لغة واحدة؟ أم نشأت اللغات نشأة مستقلة؟ تعددت النظريات التي تحاول الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها لكنها لم تخرج بإجابات شافية.

اللغة.. المسموعة و المكتوبة

يأخذنا البحث للتساؤل من سبق الآخر اللغة المسموعة أم اللغة المكتوبة؟

هناك ما يفيد اليوم بقطعية أن الكلام سبق اللغة المكتوبة، حتى لو لم يجد العلماء أية دلائل على ذلك طول نصف مليون سنة من تاريخ البشرية، أو ما يشير إلى كيفية تواصل أسلافنا الأوائل. والاختلاف على من بدأ الكتابة أولاً ليس غريباً، ولا يمنع الأمر من أن تكون الكتابة قد نشأت في عدة أماكن في وقت واحد، كما هو الحال حين نبحث في مجال من بدأ الزراعة أو استئناس الحيوان من بين الحضارات القديمة. والمهم ليس هو معرفة أين نشأت الكتابة، بل معرفة درجة تطورها وتعقدها، فهناك العديد من أنواع الكتابة بدءاً من المحاولات الأولية، وحتى المتطورة المتقدمة.

ومن الطبيعي أن تكون الكتابة المعتمدة على الصورة أو الرمز المعبر عن الشيء أو الفكر هي الأقدم، والتفرقة بين الاثنين أن الشكل الأول مباشر يوضح صورة الشيء، أما الثاني فهو أكثر تجريداً ورمزية.

ومن هنا ظهر ما يعرف بالكتابة الهيروغليفية، وهي ليست قاصرة على مصر كما يظن البعض، إذ أن أي كتابة تصويرية رمزية تدخل تحت هذا العنوان، لذا ليست بلاد ما بين النهرين (الرافدين) أو مصر فقط، من عرفت بدايات الكتابة بل مناطق قد تكون غير مواتية لذلك. فقد وجدت إرهاصات للكتابة في حوض نهر الدانوب في شكل نقوش ورموز وعلامات مختلفة.

كتاب البشرية الأول

يعتقد البعض أن اكتشاف المصري القديم لنبات البردي، يؤرخ لحقبة متميزة في علاقة الإنسان بعالم الكتابة، فقد ساعد اكتشاف طريقة إعداد البردي للكتابة عليه المصري القديم، في تسجيل أحداث الزمن وكتابتها، وكما استطاع أن يرسم علاماته بمهارة فائقة، وليس من اليسير تحديد الوقت الذي اكتشف فيه طريقة إعداد البردي فهو على العكس من ألواح الطين السومرية سريع العطب. ومع استقرار الكتابة على هذا النحو في مصر القديمة وبين النهرين واليونان ثم روما، تكون البشرية قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق التطور الحضاري، فهناك كتابة مستقرة، وهناك تسجيل للعلوم والمعارف.

وفي الوقت الذي كان المصري القديم حول نهر النيل يتوصل إلى الكتابة، كان هناك شعب آخر هو الشعب السوري في بلاد الرافدين، يخطو هو الآخر نحو نمط من الكتابة سمي بالكتابة المسمارية، وقد بدأت الكتابة المسمارية في الظهور في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد في جنوبي بلاد الرافدين، وكان الشعب السوري هو الذي أوجدها، وكان له فضل إنشاء حضارة تعد من الحضارات الأولى التي عرفها الإنسان في تاريخه القديم.

وفى الوقت ذاته كانت الكتابة الفينيقية التي غطت رقعة واسعة من العالم القديم تشق طريقها في الوجود وتتكون أبجديتها من اثنين وعشرين حرفاً هجائياً، كلها ساكنة. ولعل هذه الأبجدية الفينيقية كانت من أهم الأبجديات القديمة، حيث أنها تعد أصل الأبجديات العربية واليونانية والعبرية والروسية… وهناك أسئلة كثيرة مطروحة حول نشأة هذه الأبجدية الفينيقية وأصلها.

saint-jerome-writing-caravaggio-

من المكسيك إلى الصين

لم تكن الكتابة قصراً يوما ما على شعوب الشرق الأوسط أو حوض البحر الأبيض المتوسط بصفة عامة، فبعيداً عن هاتين المنطقتين، هناك حضارات قديمة نشأت في أماكن أخرى بعيدة، كان للكتابة أثر كبير في قوتها وبقائها؛ ففي الأميركيتين ظهرت حضارات الانكا في البيرو، والأزتك والمايا، وآثار الأخيرة ما تزال باقية حتى اليوم في صورة تدل على تقدمهم في فنون العمارة (الأهرامات والمدرجات الضخمة) وفي علوم التقاويم والأرقام، والمخطوطات، وما زالت نصوص المايا التي كتبها الكهنة، قبل غزو المكسيك بزمن طويل تشهد على ذلك. وكتابة المايا تقوم على مبدأ التصوير، ويلفت النظر أشكال الكتابة المربعة أو البيضاوية المتقنة في العديد من المعابد والمباني، ويعتقد بأنها كانت منتشرة في مناطق مختلفة من أمريكا الوسطى، ولكن الأرجح أن الصراعات مع المستعمرين الأسبان قضت على آثارها الكتابية في المخطوطات، ولم ينج من بين أيديهم سوى أربع مخطوطات.

وتعد كتابة شعب الأزتك الذي بنى حضارته في المكسيك أكثر بدائية من كتابات المايا، فهي كتابة تعبر بالرسم عن جملة من الأفكار، ولا يدل الشكل فيها على كلمة واحدة أو مقطع صوتي، ولكن الازتك استخدموا العلاقات المصورة للأشياء الملموسة أيضاً وإنما في نطاق محدود.

أقدم لغة مكتوبة

هل كان للصين صاحبة الحضارة العريقة تاريخياً أن تتوارى في عالم الكتابة؟ بالقطع لا، فعلى الجانب الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية كانت الكتابة الصينية التي تعد أقدم طريقة للكتابة ما زالت مستخدمة حتى الآن، إذ لا يزال ربع سكان العالم يستخدمون هذه الطريقة التي نشأت في الصين منذ حوالى أربعة آلاف عام لم تتعرض خلالها إلا لبعض التعديلات الطفيفة التي لم تؤثر على الجوهر الفعلي لهذه الكتابة ولا يمكن في الحقيقة تأكيد بدايات الكتابة الصينية أو إثباتها، ولكن أقدم ما عثر عليه كانت عبارة عن كتابات على ألواح برونزية وعلى أوان وأوعية ترجع إلى (2205 – 1766) ق.م، كذلك الكتابات التي وجدت منقوشة على عظام الحيوانات، ودرقات السلاحف، والتي ترجع إلى القرن الثاني عشر ق.م، وتتضمن نصوصاً سحرية وتنجيمية وقوائم وسجلات لموظفي الحكومة.

وتعتبر الكتابات التي نقشت على العظام منذ حوالي ثلاثة آلاف عام هي أقدم الكتابات الصينية، وكانت هذه الكتابات عبارة عن علامات تنحت في البداية باستخدام آلات حادة كالسكين، ولذلك أطلق على هذا النوع من الكتابة اسم «الحفر أو النحت». كانت لهذه العلامات البدائية أشكال وأحجام مختلفة، وأحياناً خطوط رفيعة تشبه رسوم الأطفال، وقبل استخدام الصينيين للورق، كانوا يكتبون حروفهم على العظام والبرونز، وكان الحرير يستخدم أيضاً في نطاق محدود من الطبقة الأرستقراطية، بينما كان عامة الشعب يستخدمون الأخشاب والخيزران.

لم تكن اليابان أو اليابانيين ولغاتهم بعيدين عن المشهد، فالكتابة اليابانية قامت معتمدة على الكتابة الصينية وتطورت بما يتلاءم مع تركيبها اللغوي المختلف فهي على عكس اللغة الصينية، لغة غنية بالصرف والمقاطع الصوتية، فاحتفظ اليابانيون بهيكل الكلمة الصينية وأضافوا إليه عناصر صوتية ذات وظيفة صرفية ونحوية مختلفة، ونتيجة لذلك نجد طريقين في الكتابة، تأخذان في الظهور هي الكاتاكانان والهيراجاتان.

اللغة العربية

يقودنا الباحث الفرنسي «فرانسو ديروش» في كتبه ومؤلفاته عبر رحلة طويلة لتأصيل اللغة العربية ويرى أن تاريخها أمر شائق؛ فالكتابة العربية هي الأخت الصغرى في منظومة الأبجديات السامية، التي تعتمد على الأصوات الساكنة، والمقاطع المتحركة الطويلة، وكانت نشأة هذه الكتابة في صحراء دائمة التغير، متاخمة للعالم المستقر في منطقة الهلال الخصيب، ويفسر هذا ــ نوعاً ما ــ ذلك الغموض الذي يحيط بنشأتها، وإذا كانت الشواهد والروايات المتأخرة قد اختلفت فيما بينها فإن المظهر العام لها ذو علاقة بالكتابة السريانية بالرغم من وجود اتفاق مرحلي مع الخط النبطي. والبحث في أصول هذه الكتابة أمر في غاية التعقيد أيضاً بسبب تاريخها الطويل واستخدامها المكثف يمكن مشاهدته في أشكال حروفها التي تكونت من خطوط بسيطة قليلة أو دوائر يتصل بعضها ببعض لتشكيل الشكل اللين للكتابة القديمة، وهذه الصورة المبسطة والاقتصادية للكتابة العربية؛ بالإضافة إلى أصولها الآرامية ذات الأبجدية السامية هو ما جعلها غير ملائمة لتمثيل اللغة العربية، وإذا كانت الأصوات العربية الثمانية والعشرين يمكن كتابتها في هيئة ثماني عشرة علامة فقط فإن الحاجة إلى الإعجام كانت لازمة لتمييز الحروف التي تستخدم الصورة نفسها، ولكنها تنطق بأكثر من صوت.

وعندما ظهر الإسلام كانت اللغة العربية ذات مظهر بسيط وغير متقن، وتكشف الوثائق القديمة عن عدم وجود نسق منظم في الكتابة، وهو أمر ناشئ في الأساس عن درجة ممارسة الكتابة كوظيفة عملية باعتبارها أداة للاستخدام اليومي، وداخل الجماعة التي عرفت باسم «أهل الكتاب» طرحت أهمية تدوين نص الوحي القرآني تغييرات اتضحت أهميتها تدريجياً. انتشر القرآن بسرعة عن طريق كتابته وتدوينه، وفي القرنين السابع والثامن الميلادي ساعدت الفتوحات العربية على سرعة عملية التعريب ووسعت من نطاق استخدام الكتابة العربية، وبينما كان هذا التوسع يجري في مجراه ولتلبيه الحاجات التي أوجدها تحولت الكتابة لتأخذ شكلاً أفضل يتناسب مع مهمتها المقدسة ويتناسب كذلك مع القوة الجديدة للإمبراطورية الإسلامية، وقد كان لقرار الخليفة الأموي عبد الملك (في أواخر القرن السابع الميلادي) الذي يقضي باستخدام الكتابة العربية كتابة رسمية للدولة أثره في التعجيل بعملية التعريب.

لماذا الكتابة؟

على أن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أراد القدامى الكتابة، وأي هدف كانوا يسعون وراءه؟

أفضل من قدم جواباً لسؤال كهذا هو «أندرو روبنسون» الباحث في علم الآثار، محرر صفحة الأدب في ملحق التعليم العالي لجريدة التايمز (لندن)، وتتضمن قائمة مؤلفاته العديدة: «قصه الكتابة والأبجديات»، «الكتابات المقدسة والرموز التصويرية»، و«الصدمة الأرضية»وغيرها.

في كتابه «اللغات المفقودة» يذهب «روبنسون» إلى أن هدف الكتاب القدامى من كتاباتهم كان ضمان الخلود لما يسجلون؛ فلقد كانت آلاف الشظايا الكتابية التي خلفها الاتروسكيون (شعب قديم سكن إيطاليا الحالية) على سبيل المثال، نقوشاً جنائزية، وفي مقدورنا من واقع هذه الشظايا أن نتعرف على أسماء المتوفى وأقاربه أو أقاربها، وكذا عمر المتوفى، وذلك لأن الرموز في هذه الشظايا المكتوبة كانت مستقاه من الأبجدية اليونانية بطريقة معدلة، ولكن هذا هو كل ما نعرفه عن اللغة الملغزة التي كان يستخدما الأتروسكيون، الذين اقتبسوا الأبجدية اليونانية ونقلها عنهم الرومان، الذين قاموا بدورهم بتقديمها لبقية البلدان الأوربية.

وعلى هذا يمكن القول بأنه في الإمكان فك طلاسم الكتابة الأتروسكية، ولكن فك الغاز اللغة الأتروسكتة نفسها، أي محاولة معرفة دلالات الكلمات، إنما يشبه محاولتنا تعلم اللغة الإنجليزية من خلال نصب القبور الإنجليزية ليس غير.

ومن بين الأهداف الأخرى للكتابة عند القدامى اعتقادهم في التنبؤ بالمستقبل المجهول، فلقد كانت كل المجتمعات القديمة مهمومة بأمر الغد المجهول، وجاءت الكتابة لتسهل عليهم تشفير همومهم تلك. وكان أهل مايا يستخدمون لحاء الشجر أسمر اللون بعد تلوينه وتغليفه بجلد النمر الأمريكي لتسجيل مشاكلهم، وكانت تكهناتهم تقوم على حسابات تقويمية طالت في حساباتها بلايين السنين المنصرمة، أي بقدر حسابي يفوق حساباتنا العلمية عن عمر الأرض نفسها. وفي الصين من ناحية أخرى، كانت قضايا المستقبل المجهول، وقت العصر البرونزي وأسرة «شانج» تنقش على درقات السلاحف أو عظام الثيران، التي أطلق عليها

«عظام الوحي» وكانت هذه العظام تعرض لجمرة من النار حتى تتشقق ليطالع العرافون من شكل التشقق ما يخفيه الغد من أمور، وفيما بعد كان القوم يسجلون على الدرقات والعظام ما تنبئ به هذه التشققات من أخبار.

على أن أغلب الكتابات القديمة كانت تتعلق بأمور حياتية، ولذا تلفت وبادت كما هي الحال مع الجرائد اليومية التي نتخلص منها كل عام، وكانت هذه الكتابات تتصل بما يشبه البطاقات الشخصية أو أوراق الملكية لعقار أوما شابه ذلك.

وكانت الكتابة المتعلقة بالحسابات أكثر شيوعا عن تقليد نقش الأسماء، وأقدم هذه الكتابات على ألواح من الصلصال يرجع إلى سومر القديمة في بلاد ما بين النهرين، وإلى عيلام في إيران القديمة، في تاريخ لاحق.

وقد قام المتخصصون بفك رموز نص عيلامي مبكر يدور حول تسجيل لقوائم من المواد الخام والمنتجات، من قبيل الشعير والجعة، إلى جانب قوائم بأسماء العمال ومهامهم وأخرى عن مساحات الحقول وأسماء ملاكها.

فك طلاسم الكتابة

هل استطاع الإنسان فك طلاسم كافة الكتابات التي عرفتها البشرية حتى الساعة؟

المؤكد أن فك طلاسم والغاز النقوش الأثرية مهمة معقدة، وإن كانت ممتعة في نفس الوقت. كما أن الإقدام على فك طلاسم لغة قديمة مخطوطة يعني محاولة التوصل إلى الأصوات والمعاني التي تمثلها تلك الرموز المنقوشة، وما كان يقصد بهذه الكلمة أو تلك في لغة قديمة أو بائدة. ونخلص من هذا إلى أن فك الطلاسم يعني الخروج من هذه الرموز بأصوات بعينها، مع ترجمة هذه الأصوات إلى معان.

جاءت أول إشارة إلى «فك طلاسم» اللغات القديمة فيما كتبه العالم الإنجليزي «توماس هربرت» سنة 1677 حول النقوش المسمارية للملك الفارسي «دارا» في مدينة «برسبولى» والتي كانت تمثل معجزة من معجزات العالم مكتنفة بالاستغلال والغموض.

وقد عقب هربرت على هذه النقوش بقوله: «إنها جديرة بجهد العباقرة الذين يجدون متعة كاملة في ولوج هذا المضمار المظلم في فن حل الألغاز وفك الطلاسم» وبعد ذلك بقرابة ثلاثة قرون، خرج العالم «مايكل فنتريس» الأثري البريطاني الأصل ليوجز هذه المهمة الوعرة فيما يلي:

«إن كل عملية» في فك طلاسم الكتابات القديمة تحتاج إلى تخطيط على ثلاث مراحل: تحليل الرموز والكلمات والنصوص في جميع النقوش المتاحة أمامنا، بهدف الخروج بالمفاتيح التي ترشدنا إلى نظام هجاء الكلمات، ومعانيها، وبنية اللغة، ثم الخروج من هذه الرموز ببدائلها الصوتية ومقاماتها في النطق بما يتساوى مع معلوماتنا عن لغة مسلم بقواعدها سلفاً، وأخيراً التحقق من صحة ما نتوصل إليه من نتائج بالاستعانة بمادة خام أخرى، حتى لا تكون أحكامنا النهائية من وحي خيالنا، أو الصدفة أو المماجة المتواترة دون تمحيص. وحري بنا أن نعي جيداً المحاذير الثلاثة التي أكد عليها فنتريس من خيال وصدفة ومماجة تقليدية.

ومع ذلك تبقى الكتابات المشفرة في جزيرة إيستر (الرونجو رونجو) محط أنظار الكثيرين وعامل جذب للمحترفين والهواة على حد سواء، كما يقول العالم «جاك جي» والسؤال المهم في هذا السياق هو: ما الحد الأدنى لضمان فك طلاسم نقش معين؟

يقول فنتريس إجابة عن هذا التساؤل: «إن المتطلبات الأساسية التي ينبغي الانطلاق منها هي توافر المادة النقشية بقدر يسمح لنا بالتحليل للخروج بنتائج ملموسة، أما في (حالة الكتابات الملغزة التي لا يقابلها نصوص بلغة أخرى أو الخالية من أسماء الأعلام) فإنه يتوجب البحث عن لغة أخرى تتصل بهذه الكتابة المشفرة لتعيننا على سد غور هذه الرموز الغامضة.

حجر رشيد

جاء أول إنجاز في مجال فك طلاسم الكتابة القديمة بفك طلاسم الخط الهيروغليفي المصري القديم من خلال النقوش الواردة على حجر رشيد، الذي كان قد عثر عليه جنود نابليون في مصر سنة 1799 ثم حملة الإنجليز معهم كاكليل لانتصارهم العسكري على نابليون وأودعوه في المتحف البريطاني بلندن، وكان حجر رشيد هو المفتاح لفك مغاليق اللغة المصرية (القديمة)، لأن نقشه كان قد جاء في لغتين: بالحروف اليونانية في جزء منه (وهذه كان من اليسير فهم مضمونها)، وهي في الوقت نفسه كانت ترجمة للأجزاء الأخرى من النقش بخطين مصريين قديمين غير معروفين، هما الهيروغليفية والديموطيقية، ولكن هذا لم يكن كافياً لفك طلاسم هذه الرموز القديمة، غير أن مستشرقاً فرنسياً فذا هو» جون فرانسو شامبليون «، أعتقد أنه يمكن فك تلك الرموز من خلال صلتها باللغة القبطية التي كانت قد حلت في أعقاب العصور الفرعونية في مصر، ولا تزال مستخدمة في الكنيسة القبطية حتى اليوم، وبهذا تمكن شامبليون من خلال تحليله لأسماء الأعلام الواردة على حجر رشيد وفي نقوش مصرية أخرى، ومن قبيل أسماء: الإسكندر وبطليموس وقيصر، وكليوباترا، ورمسيس، على ضوء ما ورد عند المؤرخين اليونان والرومان القدامى، إلى جانب الاستعانة باللغة القبطية تمكن من استخلاص الأصوات والمعاني للكلمات الهيروغليفية والديموطيقية.

وهكذا وفي سنة 1823 تحديداً، اتسعت مساحة التاريخ المكتوب لتستوعب ألفين من السنين، وصار في الإمكان أن يخاطبنا فراعنة مصر بطريق مباشر، من خلال آثارهم العملاقة من الحجر، ومن رسوم الجدران ومن مخطوطات البردي أيضاً، وأصبح في مقدور العلماء أن يعيدوا صياغة عالم جديد فسيح عن تاريخ مصر القديمة، وفي هذا يقول أمين من أمناء المتحف البريطاني المنوط به حراسة حجر رشيد:« إن دراسة ما ورد على حجر رشيد من نقوش تمكننا بالفعل من التخاطب مباشرة مع الموتى ».

وبعد هذا الإنجاز العلمي العظيم جاءت الأنباء المدوية عن كشف أسرار الكتابات البابلية وغيرها من الكتابات المسمارية لبلاد ما بين النهرين، مهد الحضارة، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر، ليعقبها بعد ذلك فك طلاسم العديد من كتابات بلدان الشرق الأدنى وأوروبا، متضمنة الحيثية، والأوغارية، والكتابة الخطية الثانية، وذلك ما بين أوائل القرن العشرين ومنتصفه، وصولاً إلى وقتنا الحالي وتحقيق الإنجاز العظيم في فك الغاز النقوش الخاصة بشعب مايا في أمريكا الوسطى، ومنذ سبعينات القرن العشرين، أخذ العلماء العاملون في حقل الحضارات القديمة والمقيمون في الولايات المتحدة، يزيحون النقاب عن حقيقة مهمة مؤداها أن العالم الجديد أيضاً كان يمتلك حضارة مزدهرة في مجال الكتابة زمن الإمبراطورية الرومانية، لعل أشهرها حضارة مايا التي يصل تاريخها إلى قرابة ألف وخمسمائة عام قبل أن يصل كولومبوس إلى أرض تلك البلاد.

لغز قرص فايستوس

رغم التقدم الذي حققه علماء الآثار في فك رموز اللغات القديمة ما تزال هناك بعض اللغات المكتوبة التي تستعصي رموزها على الحل، من ذلك قرص فايستوس الذي يوصف بأنه سيء السمعة، ويقول إيميت بينيت عالم الكتابة الخطية الأولى والثانية إن أي غلاف كتاب تزينه صورة قرص فايستوس – وما أكثرها – يمثل بالنسبة له مرادف الجمجمة والعظام المتقاطعة على زجاجة السم. وقد اكتشف القرص للمرة الأولى في كريت العام 1908 ويعتقد أنه أول وثيقة مطبوعة في العالم، ويرجع تاريخه إلى الفترة ما بين (1850 – 1600) ق.م، وقد تصدى القرص لعشرات المحاولات البارعة لإحداث اختراق لرموزه ومعرفة كنهها. ويبلغ قطره نحو 16 سم (6,5 بوصة) وسمكه نحو 1,9 سم (0.75 بوصة). ويبلغ عدد الرموز المدونة عليه 242 رمزاً في مجملها (أحدها ممسوح) وهو إما مطبوعة بختم أو مطبوعة من خلال كشط الطين من حول الرموز وذلك على وجهي القرص. وقد رتبت هذه الرموز في 61 مجموعة مقسمة إلى أقسام تميز بينها خطوط. ويبدو أن الرموز كانت تكتب من الحافة الخارجية بطريقة حلزونية للداخل في اتجاه عقارب الساعة. ولكن لم يعثر على نماذج أخرى من تلك الكتابة، واللغة المسجلة عليه، هي لغة غير معروفة على الإطلاق رغم المزاعم الكثيرة عكس ذلك.

الكتابة والخط

أتاحت مرونة حروف الكتابة العربية فرصة جيدة استغلها الفنانون إلى أقصى حد ممكن. ففي إطار حضارة منعت تصوير الكائنات الآدمية والحيوانية، فإن الكتابة أصبحت تحتل مكانة كبيرة في الفن الإسلامي، وبلغت مدى أصبحت معه أي مناقشة للكتابة العربية تنصب على «فن الخط». ومن الأمور المثيرة للجدل أن لا مصطلح دقيقاً لكلمة Calligraphies في اللغة العربية، لأن كلمة «خط»، تعني الكتابة عموماً، فهل يعني هذا، أن الكتابة ليس لها وجود حقيقي سوى في الخط الذي تكتب به؟

عباقرة وأدعياء

من الحقائق المعروفة عن عالم فك طلاسم الكتابة القديمة أنه يجذب إلى ساحته العباقرة من العلماء والأدعياء أيضاً. وفي كثير من الأحيان يصعب علينا أن نميز بين الفريقين؛ فأحيانا يخرج علينا أحد المشتغلين بالكتابات القديمة، بعد نجاحه في فك معالم نقش ما، مدعياً أن في إمكانه أيضاً فك طلاسم النقوش الأخرى للغات الأخرى، وهذا يمثل شططاً من جانبه دون شك، ولعل هذا الخلط وتلك الشطحات عند البعض هي التي جعلت العالم فنتريس يتحرج من مقاربة الكتابة الخطية الأولى بعد أن نجح في فك مغاليق الكتابة الخطية الثانية.

_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *