«طفولة قائد» لبريدي كوربيت: كيف تصنع طاغية

*زياد الخزاعي

قِيل، إن زعيم إيطاليا الفاشي بينيتو موسوليني (1883 ـ 1945)، مارس في صغره «عدواناً» فرديّاً ضد رعاة الكنائس وحجاجها. كان يملأ جيوبه بالحصى والحجارة، ويشرع في «قصف» الخارجين من مراكز العبادات، وكأنه يعاقبهم على إيمانهم.

يقول الأدب إن هناك قصّة قصيرة عنوانها «طفولة قائد» للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ضمتها مجموعة «الجدار» (1936، ترجمها هاشم الحسيني وأصدرها عن دار «الحياة» البيروتية)، حذرت مبكراً من مخاطر صناعة فاشيّ أوروبيّ يمقت اليهود ويتطاول على أهل اليسار وتقدمييهم، فيما صاغ البريطاني جون فاولز في روايته «المجوسيّ» (1966، وترجمت الى العربية تحت عنوان ملّتبس هو «الساحر» عن دار «طوى») رؤية سحريّة لافتتان كائن ماحق في امتلاك حيوات الغير، ويسنّ مسارات أقدارهم. تآلفت هذه المراجع، إضافة الى تنظيرات الألمانية حنة أرندت وحداثات الروائي النمسوي روبرت موزيل، بألق مسيّس في باكورة الممثل والمخرج الأميركي المستقل بريدي كوربيت «طفولة قائد» (116 د)، مترسّمة قدراً ملتوياً لبطله الصغير بريسكوت (توم سويت) ووجدانه المهووسين بسطوات وطغيان دم وتآمرات.

الإشكالات النفسية
ما أكمله كوربيت (27 عاماً) في نصّ كتبه بشراكة رؤيوية مع زوجته مونا فاستفولد، ولّد كولاجاً درامياً ضمّ خطوط الحكايات الثلاث الأكثر تصريحاً بشأن نشأة مَنحُوسة لديكتاتور مستقبليّ. في مفتتح الشريط وتحت عنوان «نوبة غضب أولى. علامة على ما سيأتي»، نقابل الصبي ذا الأعوام التسعة والطلّة الملائكية بجدائله الشقراء، مساهماً في مسرحية مدرسية عن ولادة يسوع. إنها أعياد ميلاد العام 1918، ملقياً كلمات دوره كـ «ملاك» بلكنة فرنسية بائسة تعرّضه الى هزء مُضْمَر (استعارة من سارتر). يجمع الممثل الفاشل والمتنّمر حجاراته. يهاجم بحقد، من خلف سور وتحت ظلمة ليل، «أبواب الربّ» التي اجتازها متعبدوه، كما كان جُرْم موسوليني. قبل هذا، مهّد الشريط لفاجعته المقبلة بلقطات مروّعة عن الحرب العالمية الأولى ونوائبها، مصحوبة بخلفية موسيقية متدفّقة واستفزّازية ألفها سكوت ووالكر، حاكى الصوت المكتوم لوترياتها ما يمكن ان تكون عليه ضجّة ساحة وغى وعجيجها. وهو (الصوت) استهلال احتفائيّ لوقائع استقبال الغاليّين للرئيس الأميركي وودرو ويلسن، حينما حلّ عليهم كي يقتسم المغانم مع ساسة أوروبا الجديدة عبر معاهدة فرساي (1919). تتحول هذه الأخيرة ذريعة تاريخية، يستحيل عبرها القصر الريفيّ الكبير الذي صوّره البريطاني ليول كراولي ببذخ من ظلال ومشاهد ليلية، مستلهماً بتشكيلياتها حكائيات الرسام الهولندي يوهانس فيرمير وضوئياته الشهيرة، الى رحم إمبرياليّ ينمو وسط مائه الأمينوزي المقدّس مستبدّ سيُكلّف لاحقا بصون انتصارات رأسماليته المجيدة، وضمان عزّها ورفاهيتها ونفاقها.

لن تتحقق بركات البطل الصبيّ في «مرحلته الفرنسية»، ذلك أن وجوده على أرضها عابر. تم بسبب التكليف الفدرالي لوالده الديبلوماسي الأميركي «ليام كانينغهام» المتسلّط والمقرّب من ويلسن، في توضّيب تنازلات المهزومين. برغم ذلك، بقيت هذه الأرض ـ أوروبا ـ أكثر من مباركة وخصبة كي تستقوي على ملكاته وعقائده في التسيّد، وإن حاصرته فيها عقدة أوديبية مريرة وإشكالات سايكولوجية، منها شكوكه بعلاقتي زنى غير مؤكدتين جمعت والدته مع صحافي غامض، وأبيه مع معلمته الفرنسية، إضافة الى تجاوزات الآخرين وإلحاحهم بالخطأ على اعتباره فتاة (في نصّ سارتر يصبح لوسيان لوطيّاً متأسياً بالشاعر رامبو). لن يصبّ بريسكوت غضبه عليهم وحسب بل يشمل أكثر الناس إلهاماً لديه، والدته الألمانية الشديدة التديّن وإخفاقها في إرغام أولئك الخطاة على التنحي عن طريق زعيم مقبل، سيرتكب في المقطع الثاني «نوبة غضب ثانية»: معاصيه بإرادة صلبة. يتحرّش جنسياً بمدرسته الشابة (تريسي مارتن، بطلة فيلم لارس فن ترير «مهووسة جنسياً»، 2013) ويمسك ثديها، وحينما تصده وتعاقبه بصفع يده، ينتقم منها لاحقا بتأليب أمه ضدّها وطردها، معلناً بعزم: .سأُعلم نفسي». تصيب نواياه خادمة المنزل الرؤوفة (يولاند مورو) التي تقف ضد معاقبة «صغيري» كما تسميه، فتتعرض لقصاص مهين من سيدة «الشاتو» الكبير، وتعفيها من خدمة مديدة لأنها «عصت أوامر». قبل ان ترّد العجوز صاعها بتهديد جارح، لن نشهد تحقّقه لأسباب مجهولة، في وجه الأرستقراطية الجاحدة: «سأقضي بقيّة عمري لكي أُدمّر أسرتك». حينما يتوّهم موظفو والده أنه بنت، يخلع ملابسه ويسير بينهم عارياً، معلناً لهم عورته، ذلك ان جنس القائد لا يجب ان يلتاث على أحد. أما الفعل الأكثر شناعة، فتمثل برفضه أمر والدته (الممثلة الفرنسية بيرينيس بيجو) بقراءة صلاة شكر لتوقيع المعاهدة، قبل أن يصفع وجهها على مرأى من الجميع ودهشتهم، عقاباً على «تطاولها»، مجاهراً بـ «مقته لمولاه».

شريط أبيض
لن يتخلى كوربيت عن طفولة قائده، سائراً على خطى أستاذه النمسوي مايكل هانيكه في «الشريط الأبيض» (2009)، إذ تتقمّص في المقطع الأخير من شريطه، الحائز على جائزتيّ أفضل فيلم أول وأفضل مخرج في خانة «آفاق» بـ «مهرجان البندقية السينمائي» (2015)، والمعنون «حقبة جديدة. بريسكوت إبن الزنا»، وجه طفلة حائرة، ترى العالم من حولها ينقلب رأسا على عقب. تدور كاميرة كراولي حول كل الأشياء بحركة مجنونة وعصابية، كاشفة ان الحشود والحراس والرايات المعلقة على الطريقة النازية والوجوه والسماء والبنايات لم يعد لها روح أو مغزى. الكلّ باطل وخبيث ومبتذل. فما سيحدث أكبر من وحي، انها قيامة عصرية تحدث مع خروج الديكتاتور(الممثل روبرت باتنسن في دورين مختلفين) من سيارته مزهواً ببزّته العسكرية، حالقاً شعر رأسه وبشاربين كثّين ستالينيّين، معلناً عن ولادة قاهر جديد، تعرفنا على جذره لكننا لن «نتمكن» من قطع نّسله الى الأبد. حينما تسوّد شاشة كوربيت، وتخرس موسيقى ووالكر المربكة، تظهر شارة صغيرة تحمل وجه غول بنابين حادين إشارة الى ان الطغاة خالدون، لأننا ببساطة «نصنّعهم»، ونقع في رهابهم (فوبياهم) كما في هواهم!.

______

*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *