مطر وقناع الفيلسوف

*د.أحمد عمر

منذ أن ظهرت في تاريخ الكتابة تقنية القناع، عندما ارتدى أفلاطون قناع أستاذه سقراط في محاوراته، وراح يتحدث إلى الناس، وينشر أفكاره الخاصة من خلاله، اختلط  الأمر على الكثيرين، وتساءلوا عن جدوى الكتابة المقنعة؟ وما القاسم المشترك بين الكاتب وصاحب القناع، حتى شغف بارتداء وجهه، والحديث للناس من خلاله؟ وهل القناع هنا آلية للتخفي أم لظهور وتكريس حضور فكر ووجه الكاتب من خلال وجه وفكر غيره ؟

وأيهما أكثر تعبيرا عن حقيقة الإنسان وفكره، وجهه الحقيقي أم القناع الذي يرتديه، ليتحدث من  خلاله؟ أم أن العلاقة جدالية بين المتحدث وصاحب القناع؛ فالأول يتأثر بالثاني، وينفعل بفكره وحياته، فيستحضر وجهه، ويعيد تكريس حضوره، ليظهر هو بدوره من خلاله؟

وشاعرنا الراحل محمد عفيفي مطر « 1935: 2010» أبرز أبناء جيله، وأعمقهم فلسفة، فهو شاعر فيلسوف، شغف بالفلسفة ودرسها، وقام بتدريسها في المدارس الثانوية لأكثر من عشرين عاما. ومن بين كل المراحل التاريخية للفلسفة، كان له ولع خاص بالفلسفة اليونانية، وشخصياتها، وقضاياها، وبالروح اليونانية، التي أبدعت تلك الفلسفة، وهي الروح التي جسدت فتوة وجسارة وأصالة الإنسان، عندما يتحرر من كل القيود، ويصنع حياته، ووجوده الخاص، وفكره، على غير نموذج سابق.
مطر-الفيلسوف-590x273

وبالتالي، فليس غريبًا أن نرى محمد عفيفي مطر، وهو في بداية العقد الثالث من عمره، وبعد أن درس الفلسفة، فأرهقت ذهنه بتاريخها وإشكالياتها، وأرهقت روحه بعذابات البحث عن معنى الحياة، وقيمة وغاية الوجود، أن يتقنع، ويتحدث إلى العالم من خلال وجه الفيلسوف اليوناني أمبذوقليس، الذي يعد واحدًا من أكثر فلاسفة اليونان، تفردًا، وجسارة، وأصالة، في فكره وخياراته، ونهاية حياته.

لكن من أمبذوقليس، وما أهم جوانب فلسفته، وحياته، التي شغف بها محمد عفيفي مطر، في تلك المرحلة من حياته، حتى قرر أن يرتدي قناعه ويتحدث  من خلاله، ويتأثر به لآخر حياته؟

أمبذوقليس، هو فيلسوف يوناني عاش بالتقريب في الفترة من «490 :435 ق.م»، وكغيره من فلاسفة اليونان في تلك المرحلة، شُغل بمشكلة البحث في أصل العالم، ومشكلة الكون والفساد، فقال إن الأصل هو عناصر أربعة، هي: الماء والنار والهواء والتراب. ثم أضاف إليها عنصرين محركين، هما: التنافر أو الكراهية، والعشق أو المحبة، أولاهما يفرق الأشياء، والثاني يجمعهما. وبهذا يكون مجموع  العناصر عنده ستة عناصر.

كما أعتقد بالأصل الإلهي للنفس الإنسانية، وأن النفوس إلهية، ولكنها سقطت إلى الأرض بفعل خطيئة ما، لكن يمكنها بعد التكفير عن ذنبها، بممارسة بعض طقوس التأمل والطهارة، أن تبلغ الخلاص، وتعود للحياة مع الآلهة.

أما عن أبرز جوانب حياته، فتكمن في ادعائه أنه قد صار إلها،  ويُقال انه خرج ذات يوم على الناس ليقول لهم:” أيها الناس! إني أتجول الآن بينكم كإله خالد، ولست بعد الآن بشراً!”  كما يُروى عنه أنه ألقى بنفسه في بركان “أتنا“ ليثبت للناس قدراته الخارقة، فيتأكد لهم أنه قد صار من الآلهة المخلدين، فابتلعته حمم البركان، وقذفت للمحيطين بفوهته  بحذائه أو خُفه.

هذا هو وجه وفكر أمبذوقليس، وبعض سيرة حياته.  ويبقى السؤال هنا: كيف حضر أمبذوقليس في شعر محمد عفيفي مطر، وما دلالة ذلك الحضور؟

يمكن القول، إن أمبذوقليس حضر بفكره  واسمه  في شعر محمد عفيفي مطر، في ديوانه «ملامح من الوجه الأمبذوقليسي» الصادر عام 1969، الذي بدأه بذكر شواهد مقتبسة من فلسفة أمبذوقليس ، ثم استحضر فكره وروحه وخياراته، في قصيدة « صوت الخيبة» المكتوبة عام 1966. وقصيدة « أترك لكم» المكتوبة أيضا في ذات العام.

كما حضر أمبذوقليس لاحقًا، بنظريته عن العناصر الأربعة في ديوان محمد عفيفي مطر «رباعية الفرح» الصادر عن دار رياض الريس عام 1990، والذي تكون من أربع قصائد طويلة، تتناول كل واحدة منها، أصلا من أصول الحياة، التي تكلم عنها أمبذوقليس في نظريته عن العناصر الأربعة، وهي الماء والنار والهواء والتراب.

وسوف أكتفي هنا، برصد حضور أمبذوقليس وفكره، في الديوان الذي حمل اسمه، فأكد تأثر محمد عفيفي مطر به، وانفعاله بفكره، وتجربته، وجعل نفسه، بشكل أو باخر، نظيرًا ومعادلًا حديثًا له في الفكر والعيش والوجود.

فنراه في قصيدة صوت الخيبة، فيلسوفًا متشائمًا، يكاد يصرغ بغياب المعنى وعبثة الوجود، فيقول: “ دخلت غابة الكون وغابة الفساد / فعدت دونما عينين/  دخلت غابة الحروف والفواصل المزيفة/ فعدت في يدي جمجمتي المجوفة… الخ“.

وهذه القصيدة بالكامل تجسيد لحصاد الخيبة، ومرارة المعرفة، وقسوة اكتشاف مفارقة الوجود، وتناقضات الواقع، وفراغ الكلمات، والجوع الذي يسكن القرى والمدن، ليصبح لسان حال شاعرنا الفيلسوف في نهاية القصيدة: “ لقد ولدت ميتا / ونفخت في صورتي الفصول / وغسلت ملامحي بالجوع والحقول / فجئتكم لكي أقول / أو أموت لو ظللت صامتا”.

أما قصيدة «أترك لكم» فتُجسد الحضور الأكثر بروزا  لفلسفة وسيرة وخيارات ونهاية أمبذوقليس، وحتى لخُفه الذي القاه في وجه البشرية، بعد أن قفز إلى النار، يقول: “ أترك لكم خُفي على الرمالِ/  خلاصة المقالِ/ علامة على حوار الكون والفساد/ وشارة من جوهرية الحب الذي يوصل/ والكراهة التي تفصل/  والفجاءة التي تسوقها الدهشة بارتحالي … أترك في العبور/ خُفي بين ظلمة العصور / علامة على فجاءة ارتحالي/  في الأرض نحو النور”.

ويمكن القول في النهاية، ان ملامح الوجه الأمبذوقليسي، لم تغادر محمد عفيفي مطر، منذ أن قرأ عن الرجل ، وعرف أزمته الوجودية، وفلسفته وخياراته، وكيف انهى حياته، وربما بدافع من تأثره به، قد اختار لنفسه حياة العزلة والتقشف، والصدق في القول والفعل ونظم الشعر، والدخول في حوار لا متناه مع الذات والعالم، والبحث عن معنى مميز وأصيل للحياة والوجود، فجاءت حياته فريدة في أصالتها، ووثيقة الصلة بطين هذه الأرض، وجاءت نصوصه الشعرية عميقة متخمة بالتأملات الفلسفية، وقد صنع هذا البعد الفلسفي الواضح في شعره، تميزه في التجربة الإبداعية في مصر والعالم العربي، وجعل شعره قابلًا لما لا نهاية له من القراءات والتأويلات، بتعاقب السنين والأجيال.

______
*القاهرة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *