«في انتظار غودو».. مسرح العبث في بعده السريالي

*عزت عمر

صموئيل بيكيت (1906 ـ 1989) كاتب وشاعر إيرلندي ولد في العاصمة دبلن، وبعد حصوله على بكالوريوس الآداب من كلية الترينتي، نال منحة دراسية في معهد الآداب العليا في فرنسا تعرّف خلالها على الأدب الفرنسي، أقام في فرنسا وأصبح مدرّساً للغة الإنجليزية في مدرسة المعلمين العليا.

بدأ بنشر نصوصه الإبداعية عام 1929، وكتب عن صديقه جيمس جويس وعن مارسيل بروست، ثمّ سرعان ما تتالت كتاباته ليشتهر شهرة كبيرة تعززت بجائزة نوبل عام 1969..

وأعماله المسرحية كثيرة، من أشهرها: «نهاية اللعبة» و«الأيام السعيدة».. بالإضافة إلى عمله الأوّل والأشهر «في انتظار غودو» الذي ترجم إلى نحو عشرين لغة وفق بعض المصادر. واتّسمت أعماله جميعها بأسلوبها المفارق للسائد لغة وفكراً، وقد صنّفها النقّاد ضمن موجة الحداثة الجديدة.

حكمة الجدات

في رواية «القمر لا يعرف» للروائي السويدي «نيكلس رودستروم» تقول الجدّة لحفيدها: إن حياة هؤلاء الذين ليس لديهم وقت لانتظار المصعد في خطر، وتعكس هذه العبارة حكمة الجدّات وخبراتهنّ الحياتية، فالانتظار باعث على القلق والتوتّر في حياتنا، وكم من المفاجآت والمتغيرات تحدث خلال زمن انتظارنا القصير أو المديد..

 

وتلك هي الفكرة الجوهرية التي انطلقت منها فلسفة الانتظار بعد أن دشّنها صموئيل بيكيت بمسرحيته «في انتظار غودو»، التي اعتبرت أهم مسرحية في القرن العشرين، والتي ما انفكّت تؤثّر في وجدان الذوات الابداعية المختلفة بما يمكن وصفها بـ«معطف صموئيل بيكيت».

1029433684

نصّ إشكالي

«في انتظار غودو» نصّ إشكالي ينفتح على تأويلات عديدة بسبب غموضه، ولذلك فإنه كان وما زال موضع نقاش الباحثين والنقّاد، فكلّ واحد من هؤلاء قرأه من زاوية رؤيته الخاصّة وتبعاً لثقافة الزمان الذي تمّت القراءة فيه، حيث تختلف التوجّهات الفكرية ما بين زمان الحرب الباردة مثلاً، عن زماننا المعولم، ولا بدّ من ذلك بالتأكيد..

وهكذا تختلف الرؤى في الكتابة، فهذا يحلل فكرة الانتظار وذاك يتناول الشخصيات والفضاء العدمي وفاعلية الرمز المتمثّل بالفلاة العارية والشجرة الجرداء.. ربّما آلاف الأبحاث والدراسات الأدبية والنفسية قدّمت عن النصّ وبلغات العالم كافة، ومازالت إلى يومنا هذا في المسرح والقصّة والرواية والسينما.

لا التباس

ليس ثمة التباس في النصّ. فهو بسيط وشخصياته كذلك، لكنه كما أشرنا إشكالي وقابل باستمرار للإسقاط والتأويل، ونظراً لأنه كتب في الحرب العالمية الثانية، ومناخاتها الفجائعية التي ضربت أوروبا والعالم وأفضت إلى انكسار حلم بناء مملكة الإنسان، مما أثّر في الوجدان الثقافي العام، فانطلقت من باريس دعوات التجديد في الأدب والفنّ والخلاص من تلك الأفكار المناصرة للأيديولوجيات المتحاربة، فانفتحت هوامش عدّة في الرواية والفن التشكيلي والمسرح وبزوغ فجر السريالية والعبثية ومسرح اللامعقول.

المسرحية

عبث أن تنتظر أحداً لا يأتي، لاسيّما وأنت لا تعرف مقاصده من هذا المجيء، هل سيأتي مخلّصاً أم كارثة أشبه بعاصفة هوجاء؟

نظنّ أن مجيء غودو أو عدمه ليس هو لبّ المشكلة، وإنما رمزية الانتظار بحدّ ذاتها باعتبارها مشكلة إنسانية كبرى، فكيف وبأية وسيلة سنمرر هذا الزمن الساكن ريثما يأتي الفرج؟ وربّما هذه الحال أشبه بانتظار «بنيلوبي» في أوديسة هوميروس، لقد انتظرته 20 عاماً وكانت تزجي وقتها بغزل الصوف نهاراً ونقضه ليلاً..

وتلك حال الشخصيتين الأساسيتين في المسرحية: «فلاديمير» و«استرجون»، في انتظارهما لغودو الذي وعد بالمجيء ولم يأت، وفي بداية الأحداث يلتقيان قرب شجرة جرداء قرب طريق ريفية، ويكشف الجوار أنهما متعارفان سابقاً:

فلاديمير: ظننتك رحلت إلى الأبد.

استرجون: وأنا كذلك.

فلاديمير: معاً من جديد في النهاية، علينا أن نحتفل.. أين نمت؟

استرجون: في حفرة.

فلاديمير: هل ضربوك؟

استرجون: ضربوني ولكن ليس كثيراً.

فلاديمير: إياهم كالمعتاد؟

استرجون: إياهم؟ لا أعرف. فلاديمير: عندما أفكّر كلّ هذه السنوات، أسأل نفسي ماذا يمكن أن يحلّ بك دوني… كان علينا أن نفكّر بذلك منذ الأزل، منذ العام 1900… يداً بيد كنا قفزنا من أعلى برج إيفل، ووصلنا قبل الجميع.

ويعكس هذا المجتزأ جانباً من معاناتهما حتّى إنهما كانا يفكّران في الانتحار من أعلى برج إيفل منذ زمن بعيد تعبيراً عن واقعهما القاسي، لكن الزمن امتدّ بهما وهما في الحال ذاتها من التعاسة والشقاء، وها هما ينتظران ومازال الأمل قائماً ذات سبت من السبوت الكثيرة التي مرّت..

وريثما يأتي عليهما أن يزجيا الوقت بجملة من الحكايات والثرثرات التي لا معنى لها، ولا سيّما بعد أن انضمّت إليهما شخصيات إضافية: لاكي، بوزو.. وجملة الحوارات بينهم عكست رؤية صموئيل بيكيت في مدى خواء هذه الحياة الإنسانية من المعنى.

654747401

سمة

نميل في هذا المقام إلى إضافة الشجرة الجرداء كشخصية وكرمز دال على العقم فضلاً عن الشخصيات المعذّبة والمضطهدة التي تنشد خلاصها، فهي بدورها أشبه بتلك الشجرة العقيمة لا تمارس فعلاً لكي تنجو، فهي منشغلة بانتظار المخلّص الغامض الذي قد يأتي أو لا يأتي، ومن هنا فإنّ التكرار سيشوب النصّ المسرحي إمعاناً في دلالة الخواء..

وتلك هي سمة مسرح العبث الأساسية، فليس ثمة قصّة متسلسلة، ولا أحداث مترابطة، وكأنّ الجميع رهن نفسه لشيطان الانتظار في حلقة مفرغة وزمن دائري يبدأ من الصباح إلى المساء، ثمّ يعاود الكرّة من جديد.. وهكذا لا سبيل للشخصيات سوى الانتظار، طالما أنها عجزت عن اختيار سبيل آخر، حتّى ولو كان انتحاراً من أعلى برج إيفل، إنه استسلام كلّي لضرورة الحياة على أمل الخلاص.

مسرح العبث في بعده السريالي يشير بطبيعة الحال إلى لا معقولية ذلك الزمن الذي تنتهي إليه الحروب، وما تتركه من آثار مدمّرة في النفوس. إنها طوفان يغرق الأرض ويبدد كلّ ما بنته البشرية من علوم وفنون وآداب.. طوفان من دم.

Ⅶمؤلف العمل صموئيل بيكيت حصد جائزة نوبل عام 1969

Ⅶمسرحية خالدة يمكن وصفها بـ«معطف بيكيت»

Ⅶ نصّ إشكالي ينفتح على تأويلات عدة بسبب غموضه

Ⅶ رمزية الانتظار بحدّ ذاتها مشكلة إنسانية كبرى

Ⅶ التكرار يشوب النصّ المسرحي إمعاناً في دلالة الخواء

«في انتظار غودو»..
_________
*البيان

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *