المثقفون اليمنيون والعودة الى التشرنق والعدمية

*فتحي أبو النصر

ترى هل عجزت النخبة الثقافية اليمنية، عن التعبير عن المشروع الوطني اليمني، وعن حاجة البلد إلى المواطنة؟ فمعظم الخطابات في ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة في اليمن اليوم، لا تهمها فكرتي الوطن والمواطنة إلا ما ندر. فضلاً عن ذلك يتعاظم شر العصبية، حتى انه يتم استسهال التأليب والتحريض على مناطق وقطاعات مجتمعية بكاملها من دون أن يرف للمتعصبين أي جفن. بل وتكاد العصبية أن تتحكم بأسلوب التعاطي مع الحرب والسلام معاً. فتوصف مناطق الجنوب والوسط والغرب، السنيّة، بأنها “داعشية” من قبل الإعلام الانقلابي، كما توصف مناطق الشمال بأنها “حوثية” من قبل أنصار الشرعية، وفي الأمر تجنٍ كبير ونظرة قاصرة وعدم إنصاف، وأيضاً بلا سوية وطنية أو أخلاقية.

يرى الكاتب محمد عزان، أن “التعصب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحالة الشعور بالنقص وفقدان الثقة، فكلما شعر المتعصب بفقدان ذاته وانعدام الرؤية لديه اندفع أكثر فاكثر للتشبث بأي كيان ينتمي إليه ليحمي وجوده، وهذا ما يجعله منزعجاً من أي محاولة لتقييمه وإعادة النظر فيه، ويرد على مخالفه بطريقة هستيرية مُخيفة؛ لأن الكيان العصبوي قد صار بالنسبة إليه بديلا عن ذاته التي لم يعد لها معنى خارج ذلك الإطار الذي ينتمي إليه”.

ما بين عامي 2011-2016 تعرّت المستويات النفسية والمعرفية والوطنية للمثقف اليمني بشكل لا مثيل له، كما “تجلت أمراضنا الجمعية التي كانت مضمرة” بحسب عزان. وهكذا تكون الحصيلة: قتل، ذعر، خراب، حياة ضئيلة، كلفة بشرية واقتصادية، فائض من العنف، تبريرات متبادلة. وإذاً: كيف نهرب من ذاكرة الحرب وجنونها ومآسيها؟ وكيف سيكون السلام العادل والرادع والملزم؟

والحال أن شروط الواقع القاسية والمتخلفة والخاذلة، قد جعلت بعض المثقفين في حالة خصومة مع القيم التي كانوا ينادون بها، وأبرزها قيم الحداثة والتنوير والنقد. الشاعر والناقد محمد عبد الوهاب الشيباني، يرى من ناحيته أن “عملية التخريب الممنهج التي مارستها القوى التقليدية المحافظة المستبدة، الممسكة بمفاصل السلطة (القوة والثروة) للبنى الحيوية في المجتمع (التعليم والثقافة)، قادت وفي سنوات قليلة، إلى إحداث خلل بنيوي قاتل داخل مشروع التحديث الهش، الذي بشرت به تحولات عقد ستينيات القرن الماضي في اليمن، شمالا وجنوباً (ثورتي سبتمبر واكتوبر). فهذه القوى، كانت تعرف أن معادل موتها، يكمن في نهوض التعليم والثقافة الحرة المنتمية لروح العصر، لهذا عمدت إلى تخريب حواضن التعليم والثقافة ومستوعباتهما المغايرة، من مناهج التعليم وصولاً إلى المؤسسات الثقافية المفترض فيها النهوض بالدور الفاعل للتنوير”.

على أن جيل الثورة الشعبية السلمية التي انطلقت في العام 2011 هو من يدرك أهمية انبثاق حركة سلام يمنية فاعلة لا انفعالية على الأرض، وذات منطق وطني دؤوب، بينما غايتها تعميق وعي التعايش والتسامح، وفضح منطق انسداد الأفق واتساع الجهالة وخفة العقل والمكائد اللاوطنية المستشرية. والمعنى أن أشد ما تحتاجه اليمن الآن هو ثورة “وعي” شاملة ضد كل التشوهات الثقافية النابعة من فكر مذهبي ومناطقي منحرف. وفي حين أن مهيمنات الماضي تخنق الأحلام الوطنية الكبرى، فإن غضب الشباب الحالم غير الملوث تنمو وتيرته… من هنا يشدد الشاعر والناقد احمد السلامي، على أن هناك من “جندوا انفسهم مع (الزعيم) والقبيلة أو المذهب وكنا نحسبهم أكثر نضجاً وعقلانية”. برأيه فإن ذلك تعبيراً عن “هشاشة فكرية واستجابة لنداء الطائفة وتعويل على الطفرة المؤقتة وما يترتب عليها من مكتسبات متوقعة”. فهناك الجماعة الحوثية التي يعتبرها السلامي جماعة سلفية زيدية، وفي المقابل هناك سلفية موازية واندفاعات جهوية مضادة. و”المعطى النهائي هو انهيار المثقف وانسياقه مع هذا المعسكر أو ذاك”.

كذلك يعتقد الكاتب صلاح عبد الحميد، أن “عبثية خيانة المثقف، تتجلى حين يعجز أن يكون ضميراً حياً قادراً على استلهام روح عصره، لتأتي خياراته بعيدة كثيراً عن متطلبات المجتمع وحاجة الحياة”.

وبحسب الشاعر فارس العليي، فإن “كل شيء يتداعى الآن ويعمل الاعلام الطائفي والمناطقي ماقبل الوطني وماقبل الإنساني على تحريضنا للجنون والموت”. ويشرح العليي: “صار موت الضحية المعرف طائفياً ومناطقياً وسياسياً كمصطلح جديد يتخذ شكلاً لم يعرفه اليمنيون من قبل، بينما يفترض أن يكون السؤال عن الضحية كيف مات، أي عن الطريقة، إلا اننا اصبحنا نضيف له اسئلة كثيرة فنسأل عن الجهة التي ينتمي إليها الضحية والجغرافيا التي يعيش فيها، كما نضيف أسئلة اخرى تصبح أكثر إيلاماً للهوية الوطنية. ثم ما تلبث الأسئلة أن تنتهي، حتى نفقد الدهشة والألم والتأسف على الضحية، بل نسخر منها إذا شعرنا انها لا تنتمي الى القضية التي كنا نريده أن يموت في سبيلها، وكأننا موزعو الصكوك”.

لكن الروائي جمال حسن، يُشدد على أن “آفة اليمنيين، انهم عبر صراعهم ينتجون شكلاً عدمياً، معه تظل الحالة السياسية فارغة، وفي الفراغ يحل دائماً الطغيان. فنرى الجميع يدافع عن الطغيان لكن وفق شروطه المناسبة، أو لإن مصالحه الآنية منتج لهذا الإختلال العام. فالنخب المستلبة ايديولوجياً لفائدة أطراف، ترى في تنصيب طاغية يخصها، مصلحة ومنفعة. هذا النوع من التشرنق الذاتي خلقه التحيّز. وبما أن الحالة العامة تُعبّد الطريق لعديمي مواهب ورجال يفتقدون للكفاءات، وترفعهم عبر منصات ما، فهؤلاء لا يعوزهم الطموح، للمطالبة بما ليس لهم، وحين تصبح التفاهة محور انتاج مقدمة العرض، تصير المشاهد أكثر ضحالة”.

واقع الحال أن ثمة تجاذبات ومصالح ملوثة افرزت مشاريع ما قبل وطنية وكرستها. ولذلك يستطرد محمد عبد الوهاب الشيباني، بالقول: “غاب المشروع الثقافي العصري في المجتمع، وان ظهرت هنا وهناك محاولات فردية (لشعراء وكتاب  ومفكرين)، لملء هذا الفراغ، لكنها لم تستطع، بسبب تهميشها المتواصل، أن تشكل فعلاً مقاوما ومؤثراً للمد الاصولي، الذي بدأ التعبير عن ذاته، سياسياً وطائفياً، وبقوة في الفضاء العام للمجتمع”. إلا أن “تدمير الثقافة بالإفساد، وتفريغها من مضامين الحداثة والحرية، أفضى الى إفساد لدورة الحياة في المجتمع، بما فيها الحياة السياسية، ونخبها (احزابا وافرادا)، التي سرعت، بفعل فسادها، في تعاظم هذا الانقسام المميت في المجتمع، والذي لا يمكن ان نتجاوز تشظياته، إلا بنبذ الحرب وتجريمها بذات الكيفية النابذة للاستبداد والقهر، من خلال اصطفاف قوي في اطار مشروع وطني يعبر عن تعدد المجتمع، وحق الجميع في التعبير عن ذواتهم وحاجاتهم، بوصفهم مواطنين اولاً، من دون وصايا من السلطة القاهرة  للجماعة والطائفة والحزب والمنطقة.. وبالتأكيد ستتراجع الاستقطابات وستنتهي الحرب بكل اكلافها المُرة، وان بعد وقت، وسيعرف الجميع وعلى رأسهم (اهل الثقافة)، مكامن الخلل وجوهره، ولن يكون امامهم سوى التعاطي معه وبمسؤولية”.

أما الكاتب أيمن نبيل، فيرى أنه “على المستوى النفسي، لا قيمة حقيقية للتثقيف الذاتي إلا في شيئين اثنين: أنسنة الوعي وتجاوز العقد النفسية الجمعية، والحفاظ على الكبرياء”. وإذا “لم يقد التثقيف الذاتي لهذين الإنجازين، فلا قيمة أخلاقية له، وهذا لا يعني ألا قيمة مهنية أو إبداعية من وراءه. التثقيف الذاتي، بدون مردود أخلاقي ونفسي على الفرد، يجعل العقد والأمراض الجمعية تتعفن وتتخذ صورا أكثر قذارة ورخصا لأنها تُطعّمُ بالثقافة”.
_________
*المدن

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *