الكاتب بصفته آلة بلا احتياطات روحية

*محمد العباس

هناك مسافة شاسعة ما بين القراء والمعجبين، والكاتب الجيد هو الذي يعقد ميثاقه مع القارئ، لا الذي يبحث عن المعجبين ويراكمهم خلفه، لأن القراءة تقوم على جهد المتلقي مقابل البنية النصية.

والقارىء بهذا المعنى جزء لا يتجزأ من عملية المثاقفة، وركيزة من ركائز تلقي النص وإعادة إنتاج النص وتدوير معانيه ودلالاته، بالنظر إلى ما يختزنه من خبرة ودراية وذائقة تؤهله للتفاعل مع مراداته وبُناه وسياقاته. أما المعجب فهو مجرد متفرج تحركه عواطفه وميوله ومزاجه المحكوم بالتعصب، أو الانسياق وراء نجومية كاتب قد يشكل ظاهرة في لحظة ما من اللحظات. وعلى هذا الأساس يتم تشييد النص، أي على مفهوم القارئ الضمني، فكلما كان القارئ شاهقاً جاء النص ثرياً ومتعالياً، وكلما لهث الكاتب وراء المعجبين تهابط نصه إلى هبائية اللانص.

الملاحظ أن نسبة غير قليلة من الكُتّاب لم تعد تأبه بوجود القارئ، حيث تنم ممارساتهم عن احتقار صريح للقراء، وهذا الصنف من الكُتّاب لا يتواصل بأي شكل من الأشكال مع قرائه، فهو على استعداد للانتقال من مناسبة ثقافية إلى أخرى لتوقيع كتابه والتقاط الصور التذكارية مع المعجبين، ولكنه لا يحتمل أن يحاوره أحد قرائه لدقائق حول مفهوم من المفاهيم الواردة في كتابه، ولديه من القدرة على رصد كل شاردة وواردة من معجبيه في مواقع التواصل الإجتماعي حول كفاءته الأدبية، حيث تزدحم صفحته بالمقالات المدائحية، ولكنه يتحول إلى كائن أعمى عندما يتعلق الأمر بمقالة أو حتى ملاحظة جادة تجادل كتاباً من كتبه، وكأنه يريد القول بأن أي مقاربة واعية لأعماله لا تلزمه ولا يملك الوقت ولا المزاج لمطالعتها.

هذا الكاتب الذي لا يحب قراءه لديه من التبريرات ما يكفي للاختباء من مواجهتهم، فوقته ثمين جداً ولا يريد إضاعته في التلاسن معهم، وهذا حقه. وانشغالاته الأدبية من الكثرة بحيث تمنعه من التواصل اليومي مع من قرأوا كتبه وتمنوا أن يطل عليهم في لحظة مكاشفة، وهذا عذر آخر يمكن تفهمه وتقبله. كذلك نصه خرج من رأسه ولم يعد مسؤولاً عن تفسيره، فهو في عهدة القراء، ولكل منهم الحق في تأويله حسب فهمه واجتهاده، وهو مبرر يمكن استيعابه والتنازل بالتالي عن فكرة استجوابه في مقاصده وخباياه، وأيضاً له العذر ألاّ يكون عنوانه أو هاتفه مشاعاً لئلا يزعجه القارئ المتطفل بأسئلة قد تربك خصوصيته وتنتهك عالمه الأسري.

كل تلك الأعذار مقبولة ومفهومة، وإذا تجاوزنا ما نلاحظة من رفاهية الوقت التي تطرأ فجأة عندما يتدافع المعجبون نحوه. وطراوة مزاجه بمجرد انقداح اسطوانة المديح حول براعته الكتابية، نتساءل بدهشة واستغراب: إذا كان هذا الكاتب المعلّب الذي يشبه بطل تشيخوف في رواية «إنسان في الصومعة» لا يمتلك أي فرصة للتواصل مع قرائه، فمتى وأين وكيف سيتعرف عليهم؟ ومتى سيكف عن مصادقة الناس الضروريين لتشييد عرشه الأدبي؟ وهل يمتلك ما هو أبعد وأعمق روحياً من بناء العلاقات المصلحية لتحقيق أهدافه الشخصية؟ وما هو السبيل إلى إقناعه بأن تربية قارئ نوعي واحد أهم وأجدى من جمع آلاف المعجبين؟ وهل يعي فعلاً أن الرشاوى المدائحية التي يتلقاها ويوزعها على معجبيه ليست من الأدب في شيء، وأنها أسرع وأمضى وسيلة لقتله أدبياً؟

قد لا يكون لدى كل الكُتّاب في الدوائر الأدبية الأكثر تعقيداً تلك المساحة للتفاعل مع قرائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل أن بعضهم لا يمتلكون حسابات تمكنهم من التواصل مع عالم القراء وتعليقاتهم لأسباب مختلفة، لكنهم يحضرون حفلات التوقيع والندوات والمحاضرات ليجيبوا على أسئلة القراء. وعندما يطلون على الشاشة في البرامج الثقافية يتحدثون مع قرائهم وعنهم باحترام. وكذلك يكتبون في مقالاتهم وكتبهم ما يؤكد تلك العلاقة الثقافية، القائمة على فهم منطلقات القراءة، بحيث يشكل ذلك التواصل على كل المستويات حقلاً أدبياً على درجة من الثراء والخصوبة، لأن الكاتب الذي يهاب جمهوره يفقد مصداقيته الأدبية، وتكون (أناه) ووجوده الاجتماعي، ووعيه بالعالم محل تساؤل.

إن الكاتب الذي لا يبدي أي إشارة لتطوير روابطه الروحية مع قرائه إنما يريد القول لهم بألاّ يراهنوا على الرصيد الروحي في كتاباته، وأنه مجرد آلة كاتبة بلا احتياطات أخلاقية أو جمالية، وأن ما يكتبه أقرب إلى النشاط الحاجياتي منه إلى الإبداع بمعناه التأثيري، وأن موقعهم منه مادي في المقام الأول، وأن الحاجز الشخصي الذي ابتناه بينه وبين قرائه لا يمكن تجاوزه مطلقاً، فهو لا يقبل المساءلة ولا الاستفهام ولا الاستجواب ولا النقد، وأنه يفضل العلاقة الريائية مع معجبيه على التواصل الحواري معهم. بمعنى أن كتابه ما هو إلا سلعة ملقاة في السوق، وأنه ليس على استعداد للتجادل مع أي شخص ينظر إليها من زاوية غير هذه.

إنه لا يحب قراءه، لأنه لا يميل إلى الأمور الجدية. فهي تتطلب منه جهداً روحياً وأخلاقياً وجمالياً. وفي المقابل يحب معجبيه لأنه يعشق العروض الميلودرامية، ولذلك يحيط نفسه بهالة من القدسية المزيفة. ويعيش رهابه الدائم من القارئ. لئلا تنكشف ضحالته الفكرية وعجزه الروحي. وهذا هو ما يفسر اقتصار صداقاته على حلقة ضيقة من الكُتّاب الذين يشبهونه في رهاباته واستعراضاته، الذين يغذون فيه نرجسيته، حيث يتوحد هذا الصنف من الكُتّاب في جبهة تبتكر تعريفها الخاص لمفهوم القارئ الذي يعني بالنسبة لهم مجموعة المعجبين المستعدين لاستقبال رشاوى المديح والصور والردود الناعمة وتعليقات الإشادة بالكفاءة الأدبية.

لا يبدو هذا الصنف من الكُتّاب معنياً لا بقارئ أمبرتو إيكو النموذجي المزود بمجسات الوعي الناقد، ولا بقارئ آيزر الضمني الجائل في النص بحثاً عن وجهات نظر متعددة، ولا بقارئ سولوتوف التخميني الباحث عن القراءة الجيدة في صميم الكتابة الجيدة، ولا بأي شكل من أشكال القراء القادرين على استجواب النص وتقليبه، بقدر ما هو معني بالبحث عن معجبين يستحسنون ما يكتب، وبالتالي فهو لا يعتبر النص منطقة مشتركة من الخبرات اللغوية واللالغوية بينه وبين قارئه، بل يضع نفسه في مرقى علوي ليملي على المعجبين نصه كفرض تلقيني، لأن نصه، من وجهة نظره، مكتمل البناء، بدون فراغات ولا ارتباكات ولا هفوات. كما أن فكرة القارئ المؤول لنصه لا تروق له لأنها قراءة تضعه على محك المساءلة والتأمل، ولذلك يميل إلى انتخاب القارئ المسكون بالتأويل الأحادي المباشر، الذي يعادل المعجب.

_________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *