بين ضربة شمس و قبل زحمة الصيف.. مشوار عمر

*سناء عبد العزيز

خاص ( ثقافات )

شاءت الأقدار السعيدة أن ينشأ محمد خان في منزل مجاور لدار سينما مكشوفة، فكان في وسعه أن يرى من مكانه أحد مقاعد تلك السينما ويتابع شريط الصوت عدة مرات على مدار الأيام التالية بعد أن يشاهده في اليوم الأول ، كما كانت تلك البذرة الأولى التي لم يدركها خان نفسه في حينها وهو يتابع بشغف تلك الأفلام من نافذته، حيث انحسر حلمه منذ الطفولة في دراسة الهندسة المعمارية ولم يكن يلوح في خاطره أن يصبح ذات يومٍ من أهم مخرجي السينما الواقعية عبر مشوار حافل بالمصادفات التي أسهمت في هذا التحول الجذري في حياة خان وفي تاريخ السينما المصرية وفي وعي المشاهد العادي.

وجاءت المصادفة الثانية، في عام 1956 سافر خان إلى انجلترا ليحقق حلم الطفولة ويدرس الهندسة المعمارية كما أراد، غير منتبها لتلك البذرة الأولى التي ظلت تنمو داخله في صمت وتؤدة ، بيد أن الصدفة وحدها هي التي حولت طريقه حين التقى بشاب سويسري يدرس السينما فتحول من فوره والتحق بمعهد السينما هناك في لندن، وكأن حاسته دلته أخيرا على طريقه.

501

تلك الصدفة العجيبة التي لولاها ما كنا لنستمتع بتلك الرهافة والعذوبة المفرطة والسلاسة في التناول في الحريف وخرج ولم يعد وزوجة رجل مهم وضربة شمس والغرقانة وبنات وسط البلد وفي شقة مصر الجديدة وغيرها وغيرها من أفلام يغلفها طابع الزمن الجميل رغم قربها.

لم يشك أحدنا ولو لوهلة أن مخرج تلك الأعمال مواطن مصري مائة في المائة وكيف لنا وقد التقط نبض الشارع المصري بمنتهى الرهافة والوضوح، ليتكشف لنا فيما بعد وعن طريق الصدفة أن خان صاحب الوجه المراوغ ابن لأب باكستاني  وأم مصرية ، فنعيد التأمل في وجهه بحثا عن جذور غير مصرية للمرة الأولى، كما نكتشف أن خان ظل يعاني طيلة حياته ليحصل على الجنسية المصرية، وقد كان.

في عام 2014 تحقق أخيرا حلم خان وحصل بالفعل على الجنسية المصرية بقرار رئاسي تأخر كثيرا من الرئيس عدلي منصور ويظهر لنا مدى شغفه بمصريته ورغبته العارمة في حصوله عليها في حديثه لبي بي سي:

“أصعب لحظة أواجهها هي تقديم جواز السفر البريطاني في مطار القاهرة. فساعتها يسألني موظف المطار عن جنسيتي فلا أدري ماذا أقول وأظل أستنكر بداخلي هذا السؤال، فأنا مصري وُلدت وتربيت في شوارع القاهرة وأحيائها الشعبية.”

هكذا كان يحس داخله بأنه ليس إلا مواطنًا مصريًا ومن الصعب عليه أن يكون غير ذلك!

ولا شك أن المشاهد العادي قد أدرك منذ أعماله الأولى المذاق المختلف والمألوف، حيث حفلت أفلامه بأحلام عادية لشخوص تبدو بسيطة في البداية، غاية في البساطة والخفوت وكأنها مجرد ظلال تتحرك لا تستطيع الامساك باللحظة الراهنة والقبض عليها لبعض الوقت حيث تجرها التفاصيل جرا فلا يتسنى لها سوى المرور علي الحياة مر الكرام، حتى تتكشف عن شخصية مفعمة بالحياة منهكة من البحث عن حقيقتها وكأن ثمة رسالة ما توجه حركتها على الأرض.

في موعد على العشاء، وفي خرج ولم يعد وفي أحلام هند وكاميليا وفي شقة مصر الجديدة تكررت تلك الارتباكات الصغيرة لشخوصٍ يحملون روحًا مغايرة ووجعًا انسانيا. شخوص غير متوائمة، تعيش فوق الحياة غير أنها لا تستطيع فك اشتباكاتها فقدماها عالقة في مكان ما وفي زمان ما. شخوص يحدوها صراع دائم بين ما تصبو اليه من ناحية والذي لا يخرج عن كل ما هو آدمي وجميل ولازم وضروري ولا سبيل إلى العيش بدونه وبين ما هو مطروح على أرض الواقع تلك التي مُدت تحت أقدامها سلفا ولا سبيل إلى الفكاك منها.

2016_7_26_16_57_29_794

يقول خان عن شخصياته:

“إن شخصياتي نبيلة وتريد تحطيم القيود التي تكبلها في حياتها اليومية.. حتى الموظف الذي أصوره في أفلامي موظف ثائر على وضعه ويسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها”

عبر مشواره الفني خرج خان بمنتهى الجرأة عن النمطية والقوالب الجاهزة، واتسمت أعماله الفريدة بوضوح في الرؤية والبعد عن الصوت العالي والضجيج، رغم تلك الرغبة العارمة في الصراخ في محاولات شخوصه الأبدية في سبيل الحرية والرغبة في الحلم.

رحل الجميل تاركا لنا رصيدا فريدا وخالدا ما بقيت الحياة، حيث انطوت تلك الأعمال الخالدة ما بين ضربة شمس و فتاة المصنع على مشوار عمر!
_______
*أديبة مصرية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *