التراث الصوفي والأسطورة

*لطفية الدليمي

يمثل التصوف – وتوأمه : العرفان – القمة المشرقة في رأسمالنا المعرفي التراثي الحافل بالنزعات الأصولية المتطرفة أو التلفيقية والمثقل بالتأويلات الفقهية التي تعمل على مصادرة العقل ، وتوفّر كتابات المعتزلة وأقطابها الأكابر مايمكن توصيفه بِـ (خارطة طريق) للنزوعات العقلانية وسط بيئة تسيّدتها الأصولية وافتقدت المرونة التي تديم شعلة التساؤل الفلسفي ومايتطلبه بالضرورة من نزعة شكوكية لاتتقبل اليقينيات الراسخة وترفض الحقائق المطلقة ، وعلى الصعيد الشخصي أرى أن (مقابسات) التوحيدي و ( رسائل أخوان الصفا ) والنصوص الصوفية التي كتبها أعاظم المتصوفة ستبقى نبعاً ثرياً للعقول المتعطشة إلى المعرفة والتواقة للرؤى والكشوفات الفلسفية والذهنية ، ولن يخفت وهج هذه الكتابات بل سيتعاظم في قادمات الأيام .

أما الأسطورة فلها أهميتها في تعزيز المخيلة . فقد كانت الأسطورة – وكل مايتعلق بها، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورة ملزمة للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسايكولوجية ؛ الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدودية قواه ووجوده الفيزيائي والتفكير بأمداء أبعد من توفير متطلبات أمنه الجسدي وحاجاته البيولوجية الأولية .

لطفية الدليمي

أرى ،ومعي آخرون، أن تاريخ أرضنا العراقية العميق الموغل في عمق الزمان يصلح أن يكون ركيزة البقاء لهويتنا وعلينا دراسته وتعريف أجيالنا بالملاحم والأساطير التي ابتدعها الرواة والمدونون الأوائل قبل ظهور ملاحم وأساطير الحضارات الاخرى، بل ينبغي تدريسها في المدارس بدءاً من المستوى الابتدائي وحتى الدراسة الجامعية ، وقد استفادت شعوب اخرى من ملحمة كلكامش وتناولتها في فنون الأوبرا والمسرح والمؤلفات الموسيقية وأنجز فنانون عالميون من جنسيات مختلفة أفلام كارتون موجهة للصغار لتعريفهم بهذه الملحمة التي ناقشت معضلة الوجود والموت والحياة بينما يجهلها أبناؤنا. وفي اليونان المعاصرة كتب الروائي العظيم (نيكوس كازانتزاكي) كتباً منهجية للمدارس وعمل على تبسيط نصوص الملاحم الإغريقية وتدوينها بلغة معاصرة لتلائم الأطفال في هذه المرحلة . ولاتزال الأوديسة والإلياذة اللتان ترجمهما كازانتزاكي الى اللغة اليونانية المعاصرة تدرَّسان في المراحل التعليمية كلها. لقد أمست الرواية اليوم الوريث الشرعي للأسطورة لقدرتها على توفير المحفزات التي تديم شعلة التخييل البشري وتدفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد ،كما ساعدتنا الرواية على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا .

وأحسب أن توظيف التراث التنويري – وبخاصة في جوانبه التصوفية والعرفانية – ، يمثل موقفا مهما بعيدا عن جدل ثنائية التراث والمعاصرة ، وللأسف نجد في المشهد الثقافي بعض فهمٍ قاصرٍ لتوظيف التراث الصوفي في النصوص والروايات المعاصرة بطريقة مقحمة أقرب للنزعة التزيينية دونما تمثّل حقيقي للكشوفات العرفانية عملياً وحياتياً على الصعيد الشخصي للكاتب.

أن توظيف معلومة علمية أو أي لون معرفي وجعله عنصراً فاعلاً في العدّة المفاهيمية للكاتب ( الروائي بخاصة ) أمر لا ضير فيه متى ما حاز ذلك اللون المعرفي طاقة خلاقة لإدامة شعلة التوهج الفكري ومغالبة انكفاء الروح البشرية وتجاوز محدوديات الزمان والمكان والبيئة ، ويمكن الاستشهاد في هذا الصدد بنصوص الرومي التي صارت تعدّ جزءاً أصيلاً من الكلاسيكيات العالمية ، ويصح الأمر ذاته على أعمال ابن عربي والنصوص المشرقية من أمثال (باغافادغيتا ) الهندية مع ملاحظة أن النصوص الصوفية والعرفانية هي نصوص لازمنية تتجاوز المحدوديات المحلية وتنزع نحو ملامسة تخوم المطلق والسامي والجميل في هذا الكون ؛ وعلى هذا سيكون من الخطل إهمالها أو اعتبارها نوعاً من حلول مؤقتة لمعضلاتنا المعاصرة.

________

*المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *