غراب أشرف فيّاض الذي قال كل شيء


*صلاح باديس


قرأت ديوان الشاعر أشرف فيّاض «التعليمات بالداخل» (دار الفارابي، بيروت، 2007) وفي نيّتي الكتابة عنه ليوم 28 يوليو، اليوم العالمي للتدوين عن هذا الشاعر الفلسطيني الذي يقضي سنته الثالثة بسجنٍ بالسعودية، في حكمٍ تحوّل من الإعدام إلى ثماني سنوات و800 جلدة. 
مع كل صفحة بقيتُ أسأل نفسي كيف يمكننا الكتابة عن عمل شاعر مسجون؟ كيف يمكننا أن نُقارب قصيدته، ونحن لا نكتُب عنها لوحدها، بل عنهُ أيضاً حتى لا يُنسى وحتى لا يبقى وحيداً وعارياً أمامهم. مضيت في القراءة حتى الصفحة 145، وهنا وجدتُ الإجابة. الشاعر (حراً كان أو سجيناً أو ميتاً) ينتفض ويُبرز نفسه، يُعطيك بداية الخيط لتتبعه. قصيدة: غُرابٌ.. يطير على عكازين، المُمتدّة على عشر صفحات، قالت كل شيء، هي التي تقع في منتصف صفحات الديوان الـ 288، بدَت كقلبٍ للديوان.
ما يميّز القصيدة أيضاً ويجعلها محورية هو تجربتها اللّغوية. الملاحظ في الديوان ككل أنّ اللغة التي يكتب بها أشرف لُغة لاجئة مثله. تصير صافية تراثية مثل في قصيدة «أذكار للشوق» وتجنح حتى لغة المدوّنات والإيميلات (نحن في السعودية، وفي سنة 2007 !) في قصائد أخرى قصيرة، وقد تستعير تراكيباً قرآنية ودينية مثلما يتجلى الأمر بصورة أوضح في قصيدة «في فضل النفط على الدم». لكن في قصيدة «الغُراب» نجد أشرف يكتب بكل هذا، وبلغة تقريرية تبدأ القصيدة: «الريش الأسود/ لا يتفق مع التقليعات السائدة الآن».
التراكيب القرآنية عند أشرف فيّاض ليست تقليداً للنّص المقدّس فقط، الاستعارات والصور والعبارات القرآنية كلّها مُكعبات بناء فوق كلمة الغُربة التي لا تظهر بشكلٍ مباشر في قصائد الديوان، اللّاجئ الذي يُشير لوطنه على غلاف الكتاب، بصورة صندوق خشبي مطوّي على شكل علم، يفكّك غربته ويعيد تركيبها باللّغة. لغة المقدّس التي تعيد بلاد الغُربة واللجوء تلك تدويرها واستهلاكها وتصديرها للعالم، بل وجعلها تجارة رابحة إلى جانب النفط. ثم ما هي أفضل استعارة ممكنة لشاعر ولاجئ في بيئة مماثلة، أحسن من الغُراب؟
كل هاته العناصر (وأكثر) تصير في قصيدة «الغُراب»: الله على العرش. بكل ما يحمله هذا السطر/ اللّازمة من دلالات دينية وسُلطوية، لازمة تتكرّر مثل ترتيلة، سقفٌ مُطبقٌ على الغُراب مسلوب الطيران. «الله على العرش/…/ وأنتَ هنا» ، «الله على العرش/ وأنتَ على عُكازين»… الـ هنا عند الشاعر، ليست أكثر من الأرض (والأرض سجن الطيرْ) التي نفاه الله إليها عقاباً له «على حومتك فوق الجثث المعطّرة»… لكنها أيضاً الحلم بالطيران، وكما يوجد اليقين القادم من علٍ: «الله… على العرش/ يسلب منك الطيران لكي لا تختلس النظر/ إلى أسطح مدن لا تألف حومتك» يوجد أيضاً الشك القادم من أفواه النّاس: «يقال بأنك تملك أملاً في الطيران»، أفواه النّاس نفسها التي كان الله: «… يلقي بجناحيكَ/ إلى أفواه النّاس/ لكي يسِموك بطيرتهم». هنا تُحكم العُقدة، وتكتمِلُ استعارة التطيّر، وكل ما يجلب ذلك من نفي وسجن وعزل…
الطيرةُ هي نفسها التي تُغذي الحلم بالطيران، نفس الأساطير التي أسقَطت الغُراب يُمكنها أن تكسِر اليقين بالشك، يُمكنها أن تجعلهُ يطير وحتى يُعيد لآلهة النّحس هيبتها المفقودة. الغرابُ يعرف أن نعيبهُ محسوب على قائمة المفقودات لدى قائمة الليل، كما يقول الشاعر، ولذلك أيضاً على الغُراب تثبيتُ سواده في ظلمة اللّيل حتى لا يضلّ الطريق. القصيدة ليست قصيدة إرتفاع، بين مستويين، الله على عرشه فوق والغرب المترنّح على عكازيه تحت، بقدر ما هي قصيدة تعلّم الدروس، قصيدة ما بعد السقطة.. إرادة ما قرّرت أن الريش الأسود لا يتفّق مع التقليعات السائدة ومع المزاج العام والعقلية المفروضة على الخلق، وعلى الغراب أن يدفع ثمن ذلك.
في الأخير أودّ أن أشير إلى أنّ اللجوء بقدر ما يُعقّد من وضع الكتابة، لكنّه ليس مشكلتها الوحيدة عند أشرف، هنالك سقطة وهنالك عزلٌ لأن الغراب «غراب»، لأن ريشه أسود ولأنّه مُختلف، مختلف أينما حلّ وأينما حوّم.. لكن الجميل في هذه القصيدة النبؤة هو أنّه ورغم سقوطه مثل «قطعة فحم مبتلة» إلاّ أن فعل الكتابة واعٍ بهذا كلّه، والشاعر-الغُراب يحضّر نفسه للطيران مرّة أخرى.. «وأنت.. كما.. أنت.. كما/ كنت/ كما ترغب../ فوق الأسلاك.. تبحث عن شؤم/ تنقلُ عدواه (…) كي تصلح عكازيك/ وتمضي…» ومن خلال كتابته (والكتابة عنها) يبقى اسم أشرف فيّاض مُبتلاً في أفواه النّاس، كما يقول المثل الفرعوني، ولا يُنسى.
ينشر النص تزامناً مع اليوم العالمي للتدوين عن الشاعر أشرف فيّاض
شاعر ومترجم جزائري.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *