حصان من خشب


* إبراهيم البوزنداكي


خاص ( ثقافات )
وقعت في الفخ من جديد، و كأن القدر لا يريد لها أن تختبر شيئا اسمه الاستقرار أو تعيش شيئا اسمه السعادة. رأت الأمور بفوضوية بالغة، ورغم ذلك فهي متماسكة و كأنها صنعت من الصلب، هادئة باردة كبحيرة من جليد. طردها المدير بغتة دون سابق إنذار. استماتتها في الدفاع عن موقفها أفقدتها الوظيفة من جديد. قال لها كلاما مؤثرا لو كانت أصغر بخمس سنوات لصدقته و لسقطت صريعة الكلمات المعسولة في أحضانه، لكن كل يوم يمر يأتيها بحنكة جديدة في مجابهة الرجال.كانت حياتها ذات وتيرة واحدة رتيبة مملة، من العمل إلى البيت، و أي بيت؟!
شقة من غرفتين اتفقت مع فتاة تعمل معلمة أن تشغلاها على أن يقتسما الإيجار، لكل واحدة منهما غرفة تنام فيها، و البهو الصغير مخصص للتلفاز و لتناول الوجبات التي تجتمعان عليها. الحقيقة أن الفتاة الأخرى و اسمها فاطمة كانت ملاكا إذا ما قورنت بها، لم تكن لديها أي مغامرات عاطفية، رزينة، لا تقبل معاكسات الشبان، لا تدخن ولا تشرب أي نوع من الخمور. صحيح أن لديها بعض العيوب و لكنها أفضل منها بمراحل، لذلك اختارتها كزميلة سكن. 
عملت في شركة لصنع السجاد كمساعدة للمدير، سكرتيرة تقوم بعمل ثلاثة أشخاص و كأنها آلي مبرمج لا ينفك يعمل حتى تنفد الطاقة من البطارية. كانت تعمل في بعض الأحيان عشر ساعات دون احتجاج و دون مطالبة للزيادة في الأجرة مدة تزيد على سنة كاملة. 
و توالت الأيام و بدأ المدير يقوم بحركات غير احترافية ولا علاقة لها بالعمل، شرع يستكشف أي نوع من النساء هي، لاطفها بالكلام أياما، وعندما لم تستجب و تجاهلت الأمر صعّد من الموقف و بدأ يسأل أسئلة محرجة مغرقة في الخصوصية الشيء الذي استفزها و أثار غضبها. لكن حاجتها الملحة للعمل و كونها لا تملك عائلة مقربة تلجأ إليها جعلاها تعتبر الأمر عرقلة في الطريق يجب تجاوزها فتجاوزتها. 
ثم توالت محاولات المدير الذي خرج تماما عن وقاره و استفتى شيطانه الذي أفتى بحيل إبليسية لمراودة الفتاة السكرتيرة، لكنها صمدت و دحرت كل تلك المحاولات حتى أن نبرة احترام تصاعدت من أعماقه تجاهها. لما يئس من المشاكسات التي لم تجد، علق لها جزرة لتتبعها حتى تقع. وعدها بالزواج و قال إن الأمور الجيدة غالبا ما تبدأ بداية سيئة، اعتذر لها أو تصنع ذلك و اشترى لها خاتما غالي الثمن ليبدو و كأنه فعلا مقبل و عازم و لديه النية حيال الزواج.. و استمرت في التمنع و الرفض، واستمر هو في أفعاله المتصابية حتى ذلك اليوم…
استنشقت الهواء بملء خيشومها و كأنها تتنفس لأول مرة هواء هذه المدينة التي قضت فيها سبعة أعوام كاملة و اتجهت تلقاء كرسي خشبي مثبت تحت شجرة برتقال مر. جلست و للحظات تخشبت و جمدت و كأنها قطعة من المقعد و غابت تستعرض صور الماضي الذي يأبى إلا أن يحيل لحظاتها إلى هموم لا تتلاشى بل تتتالى منغصة مراحل حياتها.
في ذلك اليوم دخل المدير غاضبا و شدد في كونه غير موجود لكل من يطلبه، سواء شخصيا أو عبر التلفون. نفذت الأمر و هي موقنة أن مزاجه متكدر و أنه يمر بصباحية عقيمة. لم تدخل عليه بل فضلت أن تبقى في مكتبها دون أن تتدخل بأمور المدير. 
و هي منهمكة في العمل اتصل عبر التلفون الداخلي، كلمها أن تأتي إليه فورا.
عندما دخلت رأت وجهه و قد علاه احمرار من فرط الغضب. 
أسمعها تأنيبا كثيرا من كونها لا تقوم بعملها كما يجب، و أسقط على إثر ذلك ملفا على المكتب قائلا:
– عملك مليء بالأخطاء الحسابية الخطرة، أنظري بنفسك لتشهدي مدى لامبالاتك القاتلة.
نهض على إثر ذلك و دار حول مكتبه، و هي غارقة في قراءة بيانات الملف لتعرف أين تكمن الأخطاء التي تحدث عنها.
كان هو قد وصل الآن إلى المقعد المجاور لمقعدها، ووقف ينتظر ماذا تقول، و عندما لم تقل شيئا جلس على المقعد الآخر و أرسل نظره يجوس في ملامحها و جيبها الأبيض العاري.
بغتة و دون مقدمات، وضع يده الغليظة على فخذها مزلجا إياها عليها ببطء حتى 
وصلت إلى ركبتها العارية. كانت فعلة صارخة منه. لذلك وقفت على قدميها و أغلقت الملف و صفعته به متناسية أنه المدير.
نهض مغضبا و حاول إحاطتها بذراعيه الاثنتين مقبلا إياها في عنقها و أجزاء من رقبتها، و هي طريقة قديمة معتمدة لإثارة الشهوة لدي النساء. كانت تلك الخطوة بمثابة إعلان الحرب، فلم يكن لديها إلا خياران؛ إما أن تستسلم كما تفعل أكثر السكرتيرات، أو تدفعه عنها و ترفض. 
لذلك و في غمرة الغضب الذي أحست به عقب قيامه بهذه الخطوة الغبية، دفعته بكل ما أوتيت من قوة ليقع على الكرسي خلفه، ثم خرجت بسرعة لا تلوي على شيء.
جلست وراء مكتبها و هي تدير هذا الأمر الطارئ في دماغها و تفكر كيف يمكنه أن يتصرف إزاء هذه الخشونة التي عاملته بها. فكرت في كل شيء إلا الأمر الذي قام به و هو طردها من الشركة.
بعد دقائق من المعركة بينهما خرج بعد أن لم شتات نفسه. خرج من باب مكتبه السميك المصمت المعد خصيصا لعزل الصوت الآتي من داخل المكتب شأن جميع أبواب مكاتب الشخصيات المهمة.
خرج يتبختر كالطاووس بصلعته المفلطحة، و ذقنه المتدلية و بطنه الأكرش، رسم على وجهه سيماء الغضب العارم التي أحالت وجهه إلى لوحة مجسدة للقبح الانساني.
قال و لعابه يتناثر من بين أشداقه كجمل يترنح من الهيجان المرضي و يرمي شقاشق من فمه الواسع. قال:
– لقد حذرتك مرارا ، قلت لك إن عملك دائما يكون مليئا بالأخطاء، و يحتاج مني إلى وقت مضاعف لمراجعته. هذا الجفاء و هذه السلوكيات الغبية، قلت لك إنها ستتسبب بطردك يوما ما. لكنك تماديت في غيك، و ها قد نفد صبري، اليوم ستجمعين أشيائك و تغربين من هنا. 
لما قال ذلك أحست أنها مجروحة جرحا موغرا و أنها ذلت. لم تستطع أن تتحكم بغضبها الكامن منذ سنوات فأطلقت لنفسها العنان. أسمعته جميع أنواع الشتائم التي حفظتها منذ الصغر و أرادت أن تصفعه لولا أنه أمسك يدها بقوة آلمتها. تراجعت إلى الوراء فأطلق يدها. هددته باللجوء إلى القضاء و رفع قضية تحرش ضده ناهيك عن الاستغلال المريع الذي مرت به، وذلك كله من أجل سلاسة العمل و تنظيمه.
قال ضمن ما قاله و هو غير مبال بالتهديد:
– أعلى ما في خيلك اركبيه، و لتعلمي أنك لست الأولى التي تقاضيني، اذهبي إلى الجحيم.
طردها من دون تعويض، حتى الشهر الأخير لم تستطع أن تستخلصه منه بعد المشادة التي وقعت بينهما. طرد تعسفي ينم عن روح الغدر التي تسري بين ضلوع المدير. كان سيطردها 
إن عاجلا أو آجلا لأنها تصده عن مبتغاه.
” الحيوان!! كيف أمكنه أن يطردني بهذه البساطة؟
خلت أنه لن يستطيع التخلي عني بعد المجهودات الجبارة التي قمت بها. كنت أقوم بكل شيء، حتى الأشياء التي تدخل في صميم عمله. لا يعمل أي شيء إلا الإمضاء. في آخر المطاف رماني كأنني نواة تمرة أكلها”
اغرورقت عيناها بالدموع، و كاد أن يغلبها البكاء لولا أنها تماسكت إذ تذكرت أنها خرجت من عنده مرفوعة الرأس بكرامتها و لم يستطع رغم عراقة تجربته أن يكسر مقاومتها.
ضحكت لما تذكرت كيف سقط على الكرسي ككيس كبير منتفخ و كيف أنها صفعته دون أن تبالي بما سيحصل بعدها.
تأملت المنظر من حولها، و تنبهت إلى أنها تجلس في ساحة السلام في قلب المدينة، حيث تضج بكل أنواع البشر، أخيارا و أشرارا، فقراء و أغنياء. رائحة سخام الباصات و الطاكسيات المتآكلة هي التي تطغى على كل الروائح و إن كان أنفها بين الآونة و الأخرى يشم رائحة شواء شهية تأتي من مطعم قريب.
المارون من الرجال يحدقون في تفاصيل جسدها و خصوصا في ساقيها العاريتين البيضاوين البضتين و ذراعيها الممتلئتين، و من أعين بعضهم تطل نظرة لم تعرف لها معنى، نظرة تشف عن كراهية و حقد. أما الآخرون فنظرة الاشتهاء لا تخفى و كأنهم جياع تتحلب أفواههم بمشاهدتهم لديك مشوي.
نهضت من مقعدها، سارت في طريق السينما و هي تعلم أنهم سيعرضون اليوم الفيلم الجديد لممثلها المفضل، الوسيم الأشقر صاحب أكبر عدد من المعجبات في البلد.
محلات في كل مكان و أصناف من المنتجات المحلية و الأجنبية. كانت تقف قدام فترينات محلات الملابس و الموضة المختلفة و تتحسر لكونها لا تملك المال لتقتني النوع الذي تريده و تحبه، فتكتفي بالمشاهدة و تمرير النظر من فستان إلى آخر حتى تدمع عيناها، فتستجمع شجاعتها و تستأنف المسير من جديد.
وصلت إلى مفترق طرق على جانبه الأيمن محطة بنزين و على الجانب الآخر مستنبت ينتهي بحائط أبيض طوله يزيد على عشرة أمتار. بمحاذاته كهل يعمل بهمة و نشاط ينقش قطعة خشب يإزميل حديدي مصقول، و أمامه تراصت تماثيل مختلفة الأشكال و الأحجام. أسد و حصان و قط و سلم و صناديق و حذاء. أشياء متقنة كلها من خشب بني براق. رفعت الحصان بأحد يديها و تأملته قليلا.
هذا الرجل الكهل فنان بحق، لقد صور الحصان من قطعة الخشب و كأنه حصان حقيقي لا ينقصه إلا نفحة الروح الإلهية ليشهق و يصهل. رفعته إلى أنفها و تشممت رائحة العرعار النفاذة. إنه تحفة رائعة و لكنها للأسف لا تملك إلا ثمن تذكرة السينما.
تأملت طريقة عمل الكهل، و تنبهت إلى أنه يعمل رافعا عينيه و كأنه لا يرى. تملكها الفضول فاقتربت و انحنت جهته مادة يدها اليمنى ملوحة بها لتتحقق إن كان مبصرا.
و كأنه أحس بما تفعله، قال لها بصوت رخيم يصلح أن يكون صاحبه مقرئا:
– نعم، أنا أعمى لا أرى.
استغربت ما قاله، و كيف كان بإمكانه أن يعرف إن كانت تمد يدها إن كان حقا لا يرى. و من جديد و كأنه يقرأ أفكارها نبس بكلمات أعادتها إلى الواقع:
– تعرفين، كل الناس يستغربون هذا الأمر و لكنهم لا يستغربون ما يستحق الاستغراب حقا. أأعجبك الحصان؟
و لم تتمالك نفسها لما سألها عن الحصان. تكون لديها شك من كون الرجل دجالا يدعي العمى، إذ كيف أمكنه أن يحدس ما هو التمثال الذي في يدها؟ لماذا لا يكون الأسد أو الفيل مثلا؟
كعادته انبرى يتحدث بأسلوبه الرخيم المطمئن، فدعاها إلى الجلوس إلى جانيه. كان هناك كرسي صغير من الخشب، دون مسند ظهر، لا يرتفع عن الأرض إلا بثلاث بوصات، و كأن صاحبه يضيق بالارتفاع ذرعا. قال لها بعد أن جلست :
– لقد فقدت بصري منذ عشر سنوات من تأثير مرض الضغط الدموي الذي قاتلته طويلا، و اكتسبت في هذه المدة حاسة أخرى تعينني على العيش. صحيح أن الإبصار نصف الحياة و هو نعمة لا تعادلها نعمة، لكني أحمد الله على نعمة الدين و العقل.
صمت بعد هذا القول، و انتظرت ما يفوه به بفارغ الصبر، تلهفت لتعرف ما هي الحاسة الجديدة التي اكتسبها و التي تمكنه من نقش هذه التحف الرائعة. 
و لتباين منظريهما، رمقتها العيون و تجلت فيها الدهشة المشوبة بالاستغراب. امرأة جميلة و أنيقة، عصرية الملابس و الطباع، تجلس بقرب كهل قد علته نشارة الخشب و تبدى على ملامحه الفقر و البؤس و قلة الحيلة و سوء التغذية. 
كان منظرا نشازا، و للمارين بعض الحق في دهشتهم و مغالاتهم في التحديق. 
و لأنها لا تحب أن تكون فرجة للأغيار نهضت من مكانها تريد أن تغادر. لكن صوت الكعب العالي فضحها للأعمى، فقال و كأنه يعرف حديث نفسها:
– إياك أن تبالي بما يقوله أو يظنه الآخرون، إنهم يحكمون علينا باستمرار أن نتبع ما يعتقدونه هو الصراط الذي لا عوج فيه. أتعرفين عندما لا يكون الإنسان منافقا و يتحرى الصدق في مجتمع اليوم يصير معزولا كالبومة. 
قدرت أن أفكار هذا الرجل ليست أفكار إنسان جاهل، تبدو كلماته حلوة المذاق كعصير الحكمة الذي يستسيغه كل الناس. عادت للجلوس و قد تذكرت بيتا شعريا قديما ، يقول فيه صاحبه: 
من راقب الناس مات غما و فاز باللذة الجسور
لماذا على الإنسان دوما أن يسيره الآخرون؟ يقولون لك إنك حر تفعل ما تشاء. تأكل ما تشاء و تلبس ما تشاء وقتما تشاء. ذلك هراء محض. وهم ينمو بعقول الأكثرين يظنون أنهم أحرار وهم في الحقيقة عبيد. جرب أن تخالف و تلبس لباسا قديما من أيام الهيبي مثلا، سيمجك 
المجتمع و ينظر إليك نظرته إلى المجانين. ثقافة الاختلاف مازالت في بلادنا بعيدة عن متناول الناس لأنهم لا يؤمنون بها. الوعي الجمعي و عقلية القطيع مازالت تتحكم في مجتمعاتنا. على كل، الإنسان مهما بالغ في ادعائه الحرية و مجّد بعض المظاهر التي تبدو و كأنها الحرية إلا أنه يصطدم دوما بالواقع و الطبيعة و المحيط و الأعراف و الدين. و مثال ذلك بعض الدول التي تزعم أنها بلاد الحرية فيتحكم فيها أصحاب رؤوس الأموال و النافذون على اختلاف أسباب نفوذهم ثم البنك الدولي و غيره من المنظمات ثم الدول الأخرى نفسها. الحاصل أن لا أحد يفعل ما يريد كما يريد إلا الله طبعا. بعض النسوة لو سئلن لم كل هذا التبرج لأجبن بكونهن حرات و أن من يذكرهن بالدين و أمره بالحجاب يهتك حريتهن الفردية، و هن في حقيقة الأمر إماء لغرائزهن يضعن الماكياج و يصرفن الأموال الطائلة على جمال الشكل، كل هذا ليعجبن الآخر. على هذا هن لا يفعلن ما يردن بل ما يطابق إعجاب الآخر و أحيانا ما يثير غبطته أو حسده.
نقرات الشيخ على الإزميل متباينة القوة، يصاحبها نوع من البطء المتعمد لكي تتمكن القدم الممسكة بقاعدة القطعة الخشبية من تدويرها إلى الجانب الآخر.
نفس التروي و الرويد يميز كلام الشيخ. كلمات تترقرق كالسلسبيل تداعب الروح ثم تتشابك معها في عناق حميم. قال لها بعد أن عادت للجلوس واستيقن أنه لمس بكلامه وترا حساسا في داخلها :
– أحاسيسنا تشغلنا ، لنقل يشغلنا بها الآخرون. إحساس الحب مثلا له علاقة وطيدة بالآخر، و إلا لما كان هناك حب. بل إحساس الإنسان بالفضل أو الفخر أو الغنى أو أي شيء له علاقة بالآخر. أنا أقول إن المجنون هو الوحيد بين البشر الذي يمكننا أن نصفه بالحر، فهو يفعل ما يريد وقتما يريد و كيفما يريد.
و انطلق من فمه شيء أشبه بضحكة سرعان ما انقلبت سعالا، تغلب عليه حتى وقع الإزميل من يده.
أشفقت عليه إذ رأته يلمس الأرض بيده بحثا عن الإزميل الساقط. عزت تلك الشفقة إلى الإنسانية الرافضة دوما للنقص الذي تحدثه الطبيعة القاسية ببني الإنسان ربما قهرا، لتدوس جانب القوة لديه، ليعود دوما إلى أمه راغبا في العطف و الحنان ناسيا أنه كان قبل تلك اللحظة يتبجح بكونه السيد الذي لا يسود غيره.
إليك مثال هذا الشيخ، انطفأت عيناه و خبا بريقها، لكنه ما يزال يجهد نفسه ليقول للآخرين أنه لريب الدهر لا يتضعضع و لا يلين . هو نفسه و من خلال فلسفته التي سمعتها قال إن للآخرين سطوة علينا، و كأنه يحاول أن يتخلص منها دون جدوى.
” يقول سارتر إن الجحيم هو الآخرون، و معه نصف الحق، أما النصف الآخر فقد فاته، لأنني و كما قال الشيخ نفسه من خلال كلماته البطيئة المرتعدة، أعتقد أن الآخرين هم جحيمنا و جنتنا في نفس الآن، لأن نفسية الإنسان معقدة لا تكتفي بشيء واحد قط. بل تريد الشيء و نقيضه، و أحيانا لا تدري ماذا تريد.
في بعض الأوقات أجد نفسي في مكان لا أدري ما الذي ساقني إليه؟ أبحث في دخيلة نفسي عن تلك الرغبة الغبية التي أخرجتني من غرفتي الدافئة إلى ذلك البرد فلا أجدها. أجد بدلا منها رغبة مغادرة ذلك المكان فورا، أوليس ذلك تناقضا؟”
أجفلت إذ نغزها بالإزميل في ركبتها. كادت تصرخ لولا عودة وعيها إلى عالم الواقع و تذكر ما يجري، سألها و هو يعود إلى نقش القطعة الخشبية التي بدأت تتشكل موحية للناظر إليها بأن هناك مخاضا:
– ما كل هذا الشرود؟ ألديك مشاكل؟ اعتبريني كأبيك و فضفضي معي في الحديث فربما أنفعك من حيث لا تدرين.. 
” هه.. هع.. يقول إنه سينفعني من حيث لا أدري، أتصدقون هذا ؟ شيخ تظافرت رزايا الزمن و بلاياه حتى لم تدع فيه غير هيكل ذاو ينقش أصناما ليتقوت منها.
يقول كلام من خبرته الحياة و كلام من لم يعش أي حياة، أي نفع هذا الذي يتحدث عنه؟”
و من جديد علمت أن بصيرة الشيخ تنفذ إلى أغوار نفسها إذ قال:
– ستقولين عني إنني معتوه، فكيف لكهل قست عليه الحياة يعيش من نقش الخشب أن يساعد امرأة مثقفة مثلي؟ لكني أقول إن الحكماء لا يحتقرون الصغير مهما صغر و لا يعظمون العظيم مهما عظم. لأن العظيم الذي يستحق التعظيم عادة ما يكون في صورة الصغير الذي يحتقره ضعاف الألباب، و قد سألتني آنفا عن الحاسة التي أكسبتني إياها الحياة بعدما فقدت بصري و سأجيبك الآن معلنا أنها نوع من الاستبصار. أحيانا لا أقر به و أتهم نفسي بالجنون، لكنه ينتصر في كل مرة. فأنت مثلا لما توقفت هفت روحك إلى الحصان دون غيره، ذلك أنك حبيسة نفسك ترغبين في الانطلاق فلا يسمح لك الواقع و أغلال الجسد و أشواك المجتمع.
وانتفضت إذ تبدّى لها الشيخ حقا في صورة المستبصر كما كانت تتخيله، إذ عادة ما يكون العميان ذوي بصيرة نافذة يلقون بكلماتهم التي تبهر المبصرين دون أن يبدو عليهم أثر للتأثر. إذ ذاك تذكرت أنها أطالت الجلوس و نسيت أمر الفيلم. نظرت في ساعتها المذهبة فأدركت أن الفيلم لابد و أن يكون قد بدأ و أن الكهل بحالوميته اللامتناهية عكس على نفسها شيئا من أوهامه، و إلا فلم لا تجد الرغبة في مفارقة المكان؟ 
مرة أخرى نظرت إلى الحصان نظرة الراغب المحب، أحست أن آصرة عجيبة تربط بينهما. صحيح أنها رأت الأحصنة و سباقات الفروسية و أعجبت بالحصان إلا أن هذا لا يفسر هذه الرغبة القوية في امتلاك هذا الحصان الخشبي.
تكلم الشيخ بعد صمت طويل احترمته هي و لم تقاطعه، قال لها:
– ما دمت لا تملكين غير ثمن التذكرة، و لكونك امرأة غير عادية بالنظر لافتتانك بالحصان و تنازلك للجلوس معي سويعة من الزمان، سأعقد معك صفقة.
صمت ليلتقط أنفاسه بعد هذه الكلمات و انتظرت هي بصبر متوجس رامية بصرها إلى قطعة الخشب بين يديه التي تحولت إلى شكل بشري من غير يدين.
بدأت كلماته بالانبثاق من فمه بغتة كما كان ديدنه، انتبهت لتعلم أنها فوتت بعض الكلام، لكنها أدركت ما جعلها تفهم، قال ما معناه:
– ما رأيك أن تأخذي الحصان مقابل أن تصفي لي هذا المكان الذي ارتدته منذ سنوات دون أن أعرف كيف هو.
ليست بالمهمة العسيرة وصف هذا المكان، إذ ليس بالمكان الملهم الذي تتفتق به مواهب الشعراء أو الكتاب عن فن أو أدب. هو مكان، في الحقيقة، مقيت مقبض للصدر ليس فيه أي شيء يستحق أن يوصف.
لتلك الأسباب انبرت تسرد أوصاف المكان و كأنها مكتوبة على ورقة أمامها أو كأنها وصفة طبخ تعالج طبيخا عصريا لا مذاق له و لا طعم. انتهت بقولها:
– خلفك يوجد جدار أبيض رسمت عليه لوحة طبيعية على بعد ثلاثة أمتار إلى اليمين من موقعك. اللوحة تمثل شلالا ينحدر ماؤه الشديد الزرقة دون أن ينتهي إلى سطح اصطدام. من قراءتي أقول إن الرسام كان مبتدئا أو متعجلا. على الرصيف أمامك و على بعد مترين عمود كهرباء مصنوع من معدن مطلي بلون أزرق فاتح و…
استوقفها بإشارة من يده و كأنه لم يستسغ هذا الوصف الفارغ فشعرت أنها انتصرت لما قال:
– حسن يمكنك أن تأخذي الحصان.
تلك النبرة المتغيرة من صوته، رباه لماذا؟ أين الكلمات التي تسيل رقة و أين البطء المتعثر؟ أين ذلك الحزن الغاشم الجاثم فوقها؟
قال ذلك من غير إحساس و صمت. أخذت الحصان بين يديها من جديد و شعرت أنها لا تستحقه ما دام الشيخ غير راض عن ذلك الوصف.
لكنه بدد ذلك الشعور عندما قال وكما هي عادته معقبا على حديث نفسها التي لا تدري كيف يعلمه:
– لا عليك، خذي الحصان و استمتعي بحياتك و تذكري دوما أن الحياة دقيقة أو دقيقتان لو عشناها في نكد و في اكتئاب و لم نستشعر الجمال و الحكمة من العيش لكنا مبددين لوقتنا مبذرين.
تمنت لو كانت شاعرة لتضفي على المكان ذلك الجمال من خلال وصف رائق بديع، لكن للأسف كانت لديها تلك اللهجة التقريرية التي تترنح الكلمات بموجبها لتسقط صرعى في مسامع المتلقي.
نهضت متثاقلة و رنت إليه بنظرة مودعة قبل أن تغادره. رأت وجها مسحه الزمن حتى صار لا يرى منه إلا الحزن و كأنها لم تجد وصفا يليق به أبدع مما قاله المتنبي:
أجد الحزن فيك حفظا و عقلا و أراه في الخلق ذعرا و جهلا
و صوته، هذا الصوت المنساب الذي شرع الآن يناديها و هي سائرة في الطريق على نحو سريع تريد لحاق الفيلم حتى و لو تأخرت، فقط لتتمتع برؤية البطل في تقمصه الجديد.
لم تجد مندوحة من التوقف عن هذا السباق المحموم و العودة إلى الكهل منساقة وراء صدى ذلك الصوت الذي تسكت معه كل الأصوات.
تشكلت رابطة ما بين هذا الشيخ و بين تلك النفس التي قال عنها هو إنها مكبلة، تريد فكاكا من ذلك القيد فلا تستطيع. أقبلت إليه مستفسرة عما يريد بأرفق لهجة.
أعطاها ورقة، ورقة صغيرة اصفرت، عليها نكت سوداء شأن ورق أصابته الرطوبة. قال لها:
– إن كنت بحاجة إلى عمل، في يوم من الأيام، فخذي هذا الكاغد معك.
استغربت هذا الكلام العجيب، و لكنها شكرته و انصرفت، و انطلقت تسابق الزمن علها تدرك لقطة من لقطات بطلها المفضل، و في نفسها تكونت منافسة شرسة لذلك البطل عمادها الشيخ ناحت الحصان الذي تتأبطه.

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *