إضاءة


*محمد مراد أباظة


خاص ( ثقافات )
أنهيتُ رسم اللوحة بلمسة لون أخيرة، أعدت الفرشاة إلى مكانها، مؤكِّداً لنفسي أنها اكتملت، ومع ذلك وقفت قبالتها أفكر، لعل هناك تفصيلاً ما يستوجب المعالجة بالرسم أو اللون. وبعد تأمُّلها، من مختلف وجهات النظر وزواياه، وجدتها لا تحتمل أية إضافة أو تعديل، فمسحت بخرقة ما علق بأصابعي من ألوان، جلست، صببت كوباً من الشاي، رشفت رشفة طويلة، أشعلت لفافة ورحت أسحب منها أنفاساً متلاحقة نافثاً الدخان في فضاء الغرفة، متأملاً اللوحة بغبطة شحنتني بمزيد من الثقة بالنفس. 
كان موضوع اللوحة منظراً خلوياً يمثل بيتاً ريفياً، يتوسط مرجاً أخضر مزداناً بمساحات متناثرة من الزهور البرية تتلألأ كبحيرات تحت أشعة شمس غير مرئية. وخلف البيت توزعت أشجار مختلفة التكوينات تزداد كثافة كلما امتدت نحو عمق اللوحة بتدرجات الأخضر تتلاشى بأبعاد هوائية متتالية. وتعلو كلَّ ذلك سماء زرقاء صافية تزينها بضع غيمات بيضاء صغيرة تحلق فيها طيور مبسوطة الأجنحة.
نهضت أنوي مغادرة الغرفة، ألقيت نظرة أخيرة على اللوحة، وقبل أن استدير للخروج فاجأتني، بل فاجأت نفسي باكتشاف شيء ما غامض فيها، شيء جعل ثقتي تهتز، وغبطتي تتقلص، ومتعتي تغزوها كآبة صغيرة ما لبثت أن تضخّمت واستولت عليّ. كان ثمة برود يغلف اللوحة، برود من ذلك النوع الذي يرتديه وجه صبية جميلة فيجعله يبدو كوجه تمثال شمعي لاحياة فيه، وجه جميل الملامح، متقن الصنع، لكنه لا يحرِّك في المتأمل مشاعر تهزّه وتثير فيه التعاطف والرغبة في التواصل.
وبمزيد من من التأمل تحوّل ذلك البرود إلى ما يشبه العتمة الخفية التي جعلت اللوحة تبدو كئيبة وشبه ميتة، وأنا الذي أردتها تشعّ ضوءاً وتلألؤاً وحياةً متأثراً بأعمال الانطباعيين الذين كنت أعشق أعمالهم، إلا أن تأثري ذاك وعشقي لم يشفعا لي. لقد بدت اللوحة جثة هامدة باردة بالرغم من حرارة ألوانها. وأنا أتساءل عن السبب كنت أبحث عما يمكنني فعله كي أضفي عليها الحياة. 
جلست أحدق شارداً باللفافة التي تحترق في منفضةالسجائر، ملاحقاً، بعفوية، دخانها وهو يتلوّى صاعداً ليتلاشى شيئاً فشيئاً. وفجأة هتفت في داخلي: وجدتها، اللفافة، حركة الدخان، أنا في الغرفة، الحياة. وعلى الفور، ودون أن أعطي نفسي فرصةً للتراجع، أمسكت بالفرشاة، مزجت ألواناً محدَّدة، أسرعت فملأت زرقة السماء بغيوم داكنة طارداً الغيمات الصغيرة والطيور، وأطفأت الألوان الحارة بأخرى باردة، وحولتُ مساحات الزهور إلى أخرى عشبية يطغى عليها اخضرار مائل للزرقة، وجعلت لون البيت يتناسب والمناخ اللوني الجديد للعمل، وفي وقت قصير كانت قبالتي لوحة شتائية قاتمة، ثم.. رسمت مدخنة للبيت والدخان يتصاعد منها متلوّياً في الفضاء الشتائي ليتلاشى شيئاً فشيئاً. جلست أتأمل، فشعرت بالحياة تضج في البيت، وأحسست بقلوب تنبض بالحياة، قلوب بعثت الضوء في اللوحة.

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *