من أجل حبّة بندورة


*يوسف غيشان


خاص ( ثقافات )
لا أحد منا يترحّم على تلك الأيام ، ولا أحد يتمنى عودتها، ولا أحد يرغب في تذكرها، بمن فيهم جناب حضرتي، لكن تجاهلها غير ممكن عمليا، فقد صارت جرحا غائرا في الضمير الجمعي العربي ، نشعر بمكانه وبخشونة الندوب التي تركها في أرواحنا…لا احد- كما قلت – يترحّم على تلك الأيام ، لكن علينا ان نتذكرها دوما ،لعل ذلك يساعدنا – ولو قليلا- حتى لا نقع في ذات المطب التاريخي مرة أخرى.
أتحدث عن النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم، وعن لبنان تحديدا ، حيث كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها، وحيث صار القتل على الهوية ممارسة يومية عادية بين الطوائف المتحاربة . وقد ارتكب الجميع بحق بعضهم المجازر وتبادلوا تصفية بعضهم .
ولما صار حمل الهوية الشخصية ، في تلك المرحلة، يعني احتمال التصفية الجسدية على أحد الحواجز ، لم يعد أحد يحمل بطاقة الهوية ، وصار كل شخص يتقمص شخصية الطائفة أو الحزب المسيطر على الحاجز، والتي قد تتبدل يوميا عدة مرات.
لكن الوحش الكامن في دواخلنا ابتكر اساليب جهنمية للتعرف على الهوية الحقيقية للمار من الحاجز، فكان التنظيم المسيطر على الحاجز يحمل حبّة بندورة، ويسأل المار من عنده عن اسم هذه الثمرة .
– فإذا قال (بندورة) بفتح الباء والنون ، فهو لبناني .
– وأذا قال (بندورة) بتسكين النون فهو فلسطيني أو ممن يتعاون مع المنظمات الفلسطينية من الشعوب العربية .
وهكذا ، كان التسكين أو الفتح يكلّف الإنسان حياته، بكل بساطة.
ولم يخلو الأمر في الإتجاه الآخر من عملية الكشف عن عورة المار للتأكد أذا كان مختونا أم لا . أو ان يطلب العسكري المناوب على الحاجز من المار أن يتلو الفاتحة، أو (أبانا الذي في السموات) للتأكد من هويته الطائفية .
يا للعار يا للعار …..!!
فعلا أنها ذاكرة مثقلة بالأحزان ، لكنها – وللأسف الشديد- ليست مجرد ذاكرة ، فهي تعشش في أدمغتنا حتى الآن . صحيح أننا لم نعد نستعمل البندورة أو الكشف على العورة ، لكننا ما نزال نقتل على الهوية في معظم أرجاء الوطن العربي ، لآن في داخل كل واحد فينا – طائفي – من نوع ما – . قد يقمعه الوعي والثقافة ، أحيانا ، لكنه لا يلغي وجوده على الإطلاق ، وهو دوما بانتظار أول (فلّة حكم) حتى يعبر عن ذاته بقمع الآخر أو قتله .
كل واحد منا- في العالم العربي- يدرب نفسه على اكتشاف هوية الآخر دون أن يراها أو ان يريه حبة بندورة . وكل واحد منا يفتتح دائرة أحوال مدنية في ذاكرته ، ليستخدمها عند الحاجة.
كيف نتخلص من ذلك؟؟؟
هذه عملية صعبة ومعقدة وتحتاج إلى علاج نفسي جماعي ، لكن علينا أن نقتنع أولا أننا مرضى ، حتى نبدأ مرحلة العلاج، وشعارنا هو ذات شعار الثورة الطلابية في أوروبا في نهاية ستينيات القرن المنصرم. كان شعارهم يقول:
– فلنكن واقعيين ، ولنطلب المستحيل.
– ghishan@gmail.com
_____
*كاتب أردني

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *