رأسُ السنة 2… نهار يوم الأحد


*وحيد ابوالجول


خاص ( ثقافات )
أيقظَهُ في الصباحِ الباكرِ صوتٌ يأتي من خارج غرفته ( الحياة لا تطاق ) كان صوت حنان المرأة التي تعمل لإعالة ولدين توأمين بسن العاشرة , كل صباح تتأفف ضجرة وهي تحمل قدميها إلى خارج المبنى لقضاء نوبتها الصباحية في مشفى صغير للولادة شمال المدينة , الجارة الحانقة التي تسكن بجوار غرفته والتي لا يفصله عنها سوى جدار من الطابوق الرخيص سماكة أثنتا عشر سنتيمتر , الجدار الذي يتسلل منه تأوهاتها ليلاً وعتابها لفراش فارغ من أي ملمس لرجل بعد موت زوجها بطلق ناري طائش ( الحياة لا تطاق … نعم حنان ) كان يحدث نفسه مع استفهام يلصقه وجه المرآة ( نعم هي لا تطاق ) ثم يرمي عن رأسه بعض الأفكار المتعفنة حاملا نظراته إلى الشارع بحثاً عن صدفة تضحكه أو سقوط كتلة كبيرة من السماء على الأرض , الشارع كما هو في الأمس , وغادة التي تكرر يومها في تفصيل ممل دون الوصول لمعنى معين من حياتها سوى النشوة التي تلاطف عينيها وهي تقرأ ما تكتبه من شعر بين الورود الصغيرة التي ترسمها بقلم احمر أعلى وأسفل الورق , تعثرت بسلك نحاسي متروك على الرصيف ( اللعنة ) قالت لنفسها بعد أن رفعت طرفاً من ثوبها الوردي ذو الأكمام الطويلة المطرزة بخيوط الحرير المزيف , نظرت وراءها , لم ينتبه أحد , هكذا ظنت وهي تزيح عن خديها حمرة الخجل والأتربة التي علقت بأذيال ثوبها , عبرت الشارع مهرولة , ثم اختفت وسط زحام الأعين , نظر الوقت المهمل على جدار غرفته , كانت السابعة صباحاً ,هو الوقت ذاته الذي يخرج فيه إلى المدينة والتسكع في أزقتها والجلوس ساعة في مقهى يرتاده عمال البناء والمتسولين ومن ينبذه النهار مبكراً , وجد نفسه خارج المدينة قرب شاطئ البحر , جلس على رمله الرطب , كان الوقت مساءً يقف بين حمرة الغسق وزرقة ماء البحر , تنفس رائحة الأمواج القادمة من عمق بعيد وأشرعة المراكب التي تتمايل مع تمايل أطراف المساء وأصوات الصيادين التي تلتصق بعيونهم وهم ينظرون إلى نجمة تحلق بجناحيها فوق رؤوسهم ( صيد وفير ) قال ليده التي تشير إلى الأفق , ذاك البياض الذي انحنى ليمر من أسفل غيمة كبيرة , في ذات الوقت الذي ترجع فيه حنان لغرفتها وأعداد العشاء وغسل الملابس واللعب مع ولديها اللذين اعتادوا على تمضية النهار بمشاهدة التلفاز والعبث بأدوات المكياج ورسم خطوط على وجهيهما لقتل الفراغ الذي تتركه حنان في غرفتها أثناء ساعات العمل , كان الهمس من أعاده ليقرأ قصة أخرى وقلبه لا يفارق رائحة جسد غادة الذي ينسجه خياله الخصب ورغبته أن يكون معها في واقع محسوس كتلك التأوهات التي تحمل حنان إلى سريره كلما رغبتْ في المضي إلى النجوم وبريقها البارد لتحظى بقليل من دفء أنفاسه , هو الوقت ذاته الذي تمر به المدينة على ذاكرة رجل عجوز يجلس وحيداً في غرفة ذات جدران وردية في دار العجزة ينتظر ابنته التي لم تزه منذ اعوام ( لها أولاد قصر ) يقول لعينيه التي تنتظر والليل الذي يجالسه , هو الوقت ذاته الذي تتفقد فيه غادة أحلامها وأمنيتها الوحيدة التي تحاذي غابة المانجو من طرف الجنوب والنهر الذي يحملها بخفة ليوم آخر وابتسامة تمر بها مطمئنة على العيون التي تحدق بخطواتها الرشيقة وفمها الذي تلعقه بلسانها كلما جفت شفتيه , هو الوقت ذاته الذي يتذكر فيه صفارات الإنذار التي تغلف سماء المدينة بالخوف من قصف الطائرات حين كان طالبا في الصف الخامس اعدادي وأول مراهقة لاطفها حاملاً شعوره باللذة ولهاثه خارج غطائه وخوفه من شدة سطوع ضوء المصباح إلى عتمة قريبة من غرفة نومه , كان هو الوقت ذاته الذي تتسلل فيه حنان إلى قلبه لتسكر نبضاته المتسارعة وتمنحه شعورا رائع , هذا ما كانت تعتقد بعد كل مشاغبة على سريره المعدني وبأنها أنثى مدللة لما تسمع من كلمات من رجل حالم , الرجل الذي يمنحها الحب ويراقص لهفتها وسط تناقضات الحياة المعقدة بعيداً عن المشقة التي ترافق نهارها المتخم بالضجر , ابتسمت وهي تنظر قلبه الطيب عن قرب , لوحت له بأطراف أصابع اليد وهي تتخطى رغبتها في تكرار ممارسة الحب إلى ليلة الغد , الليلة التي تراها الآن مختلفة تماما بما فيها من أحاجي ودفء .
ــ إنك أكثر نشاطاً من ذي قبل .
ابتسمَ وهو يمسح جبينه .
ــ ربما قليلاً .
ــ كأني في حلم .
ــ كثيراً ما أكون قريباً منه .
ابتسمتْ .
ــ شكراً على ما منحتني من شعور . 
ــ أشكرك أيضاً حنان .
غادرته وعلى ملامح وجهها علامات الرضى والإرتياح مخلفة وراءها صمت بضع ساعات وانتظاراً يسكن الرأس وقصصاً تحيط بجسده المنهك وعينان تقتفيان أثر المطر حيث غادة تحاول تجاوز الخوف وهي تعلق بضع نجمات في سقف غرفتها وتشعل الشموع وتعد الحلوى مسرورة بذكرى ميلادها الثلاثين بين نظرات أمها المسنة وأختها المصابة بجنف العمود الفقري , دفع بروحه في منتصف الطريق الذي تمر به كل صباح عند السلك النحاسي الذي تعثرت به آخر مرة وقبل أن تختفي وسط زحام الأعين , جلس هناك حتى أنتصاف الظهيرة يراقب وجوه النساء وهي تمر من أمامه مفتعلاً ضجة حوله ليثير الإنتباه بقميص وردي ونظارات طبية كما هي تحب أن يكون فارس أحلامها دون النظر لطول أو قصر قامته ولون بشرة الوجه , هذا ما قرأه وهو يتقمص روحها التي أحاط بها النهار والساعة التي يعتقد بأنها مناسبة للمضي إليها كل يوم أحد , لسنتين يحاول أن يسبق تعثرها واحمرار خديها , كل يوم أحد يقتفي أثره الذي يختفي عند المساء .

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *