يحيى القيسي في لعبة السرد المفتوح

يحيى القيسي في لعبة السرد المفتوح

*نبيل سليمان

يختم الكاتب الأردني يحيى القيسي روايته «الفردوس المحرم» بإشارة وتوضيح يبدآن بإعلانه أنه فوجئ في خريف 2015 برواية منشورة في بيروت، عنوانها «الفردوس المحرم»، لا تحمل منه غير اسمه. وهو ينفي أي علاقة له بها، ويعلل ذلك بأنها هذيانات واستحضارات من بعض ما قرأه في كتاب «الأسرار والأنوار»، ولكي لا يتكرر للقيسي ما وقع له بسبب روايته السابقة «أبناء السماء» يؤكد أن الأمر كله محض خيال، كما أخبره طبيبه النفسي إثر موجة اكتئاب. وقد زوده الطبيب بتقرير يثبت عدم مسؤوليته عن كل ما يقول.

بهذه «اللعبة» الفنية يغلق الكاتب روايته التي سترى فيها القراءة غير لعبة فنية، مثل سيرة الرواية، وتداخل الرواية الأولى بالثانية، وسيرة الكاتب، وتداخل سيرته بسيرة النص، وكذلك لعب المخيلة في العجائبي الصوفي والعلمي.

في قلق الاصطلاح النقدي في لغتنا، يشتبك العجيب بالغريب والسحري بالخارق، لينتج بديلاً للفانتاستيك، وقد تضاعف وتجدد اشتغال ذلك في الرواية العربية، جرّاء الحفر في التراث السردي، وجراء الفعل الصوفي في الرواية، مما أبدع فيه جمال الغيطاني وإدوارد الخراط بخاصة، وتابعه آخرون منهم سليم مطر ورجاء عالم وعبد الإله بن عرفة. وإذا كان الأخير قد جعل وكده في التأرخة الروائية لأعلام المتصوفة (ابن عربي – ابن الخطيب – الغزالي – الششتري…)، فقد سار القيسي في درب آخر يتقاطع مع دروب من ذكرت للتو، ويضيف بخاصة اشتباك المعرفة والأخيولة العلميتين بالمعرفة الصوفية وبالحالة والأخيولة الصوفيتين. فمن العلمي في الرواية أن الشخصية الروائية جمال مهووس بدورات التنمية البشرية والبرمجة العصبية عند المعلمة الروحانية الأميركية باتي، ومن ذلك دورة تنشيط الحامض الأميني للإنسان. وباتي تحكي حكايتها في ولوج العالم الأثيري، وفي التواصل مع أرواح سامية للأجداد الذين يعيشون في البعد السادس. وهنا تطول الوقفة السردية وتثقل كيما تقدم فكرة الأبعاد والأكوان المتوازية، فنحن نعيش في البعد الثالث حيث الزمان محكوم بالمكان، والمنتهى هو البعد العاشر حيث تغرق الأرواح في النور الكلي.

في رأس ما تنهض عليه «الفردوس المحرم» تأتي الرسائل الإلكترونية الغامضة التي يتلقاها الكاتب ويجزئها فتتجزأ المسرودات، وتُقدم الأفكار والأحداث والسيرة الشخصية وسيرة الكتابة، جرعة فجرعة بالتناوب في ما بينها، ومع أجزاء الرسائل الإلكترونية.

من الجرعات العلمية الرسالة التي ينقل المرسل فيها عن العالم الروسي فيدروف، نظرية العين الثالثة التي كانت لأجدادنا، في الخلف، والمنوط بها الحدس أو الحاسة السادسة، والتي ضمرت مع انحطاطنا، أما أجدادنا فمنهم من عاش آلاف السنين في حالة «سوماني» أي النوم الطويل، وهو غير الموت. وثمة جرعة نظرية إدموند هالي عن الأرض المجوفة، والتي تبشر بالإنسان الفائق وبما في أعماقنا: مدينة الحكمة والسلام، أي شامبالا أو الفردوس المفقود، وهنا نبلغ عنوان الرواية. ففي رسالة إلكترونية يتبين أن الفردوس صار محرماً على البشر إلى أن يرتقوا بأنفسهم، ويتخلصوا من الجانب الظلماني المزروع فيهم أساساً.

حقائق وعجائب

في رسالة أخرى من قارئ إلى الكاتب، يؤكد المرسل أن كل ما قاله يحيى القيسي في روايته السابقة «أبناء السماء» من عجائب، قد يكون حقائق وليس أخيولات، فالواقع أشد غرابة من كل خيال. وتذكّر الرسالة الكاتبَ بأحمد الحسيني الذي يدعي أنه من شخصيات هذه الرواية. وكان القيسي قد كتب أن أحواله انقلبت عندما كتب «أبناء السماء» فجاءت مثل مغناطيس هائل جذب إليه الغث والسمين والمحب والكاره، ومن هؤلاء امرأة استعانت به بعدما قرأت الرواية، فبين لها أن كتابه يعتمد على الخيال ولا أساس له من الصحة، وكتب أنها تحتاج إلى طبيب نفسي، وليس إلى «صائد حكايات» مثل الكاتب الذي ينفي أن يكون عليماً بحيل الخيمياء. وقد جرت عليه «أبناء السماء» النعت بالشعوذة، بل الجنون، وقيل إنه حالم. كما طاردته فتاة ليعلمها فنون السحر، وكيف تطير في الهواء وتسير على الماء. وسيتكرر له مثل ذلك مع صديقه المجذوب في وادي شعيب.

يتعجب الكاتب من تحول شخصيات «أبناء السماء» إلى لحم ودم، والكل يدعي وصلاً بها، وهي تطارده. وقد كتب له أحمد الحسيني عن اكتشاف مدينة سرية ذات حضارة متقدمة في جبال الهمالايا، هي مدينة شامبالا التي تعني بالسنسكريتية مدينة السلام والسكينة. وفي استعادة الكاتب لجلسة ناقشت «أبناء السماء» يسلق النقاد: مغمور يقرر أن الخرافات هي ما يحكم في بلادنا، وليس الواقعية السحرية، وآخر يسأل الكاتب عن هربه إلى الخيال وتركه لمشاكل مجتمعه. حتى مقدمة الجلسة التي لا تخفي إعجابها بالرواية، تصف أفكارها بالشعوذة. والأهم أنه في نهاية الجلسة ينقل لاجئٌ سوري من حلب، إلى القيسي دعوة الشيخ نور الدين الحلبي الذي تحدث عنه في «أبناء السماء»، فهو لاجئ في عمان بعدما دمّر القصف زاويته في حلب. وليس هذا سوى لمحة من فعل الحاضر – الراهن الساخن في «الفردوس المحرم»، وحيث يكون للاجئين السوريين إلى الأردن نصيب، ويتصل بأمرهم ما تسرد الرواية الرؤوس المفخخة بالإرهاب، وعن جيوش الظلام الظاهرة والخفية التي تدمر دولاً عربية، وعن الأمم المتكالبة على التقسيم إلى دويلات، وعن تفشي الطائفية والعنصرية والإقليمية والجهوية والمذهبية وغياب التسامح وانتشار القتل والنهب والذبح اليومي، وتراجع الأخلاق. وفي تخييل الرواية أن مملكة المستحوذين الظلاميين مركزها في قاع مثلث برمودا، وأولاء يشعلون الحروب، ويخططون لاستعباد البشر، وينشرون فيروسات الأمراض، حتى بلغوا التحكم بالطبيعة: «المؤامرة كبيرة والناس نيام». لكن هذا السرد يبشر بانقلاب السحر على الساحر، لتكون للناس الطاقة الحرة المجانية، ولتعمّ قيم الأخلاق، ويغدو العالم أكبر بهاءً.

من اللحظات الهامة في رواية «الفردوس المحرم» لحظة أمل التي ستروي للكاتب بعد قراءتها لروايته السابقة أن أفكاره الغريبة وشطحاته الروحية قد ملأتها هي بشروخ هائلة. وقد اصطحبته إلى محاضرة المعلم الهندي شنكار صاحب مركز فن الحياة ذي الفروع العديدة، ومنه فرع عمّان. وقد ابتعدت أمل عن الكاتب إلى السعودية لتحميه ممن تتصل بهم في العالم الآخر وهم يريدونه معهم، لكن القيسي لا يريد.

تتناوب في «الفردوس المحرم» لحظة أمل العاشقة مع لحظة الدفائن، ومع لحظة الرسائل الإلكترونية التي رأينا. أما الدفائن المرصودة فتمضي بالسرد إلى شخصيتي جمال وأبو صالح. فللأول المهووس بالنساء، مغامراته مع عصابات البحث عن التحف القديمة، وهو يفيض بحديث الرصد الذين يحرسون بوابات الكهف، حيث قضى أياماً مع جنرال إسرائيلي وباحثة في التصوف وآخرون يبحثون عن قبور سرية. أما أبو صالح فهو أيضاً من الباحثين عن الكنوز الدفينة. ومعه يتواصل خيط المغامرة في الرواية التي تحتشد بالمتناصات من «الفتوحات المكية» لابن عربي، ومن الحاتمي الأندلسي، ومن مذكرات الأدميرال بيرد عن الأرض المجوفة..

يكتب يحيى القيسي والرواية تقترب من منتهاها عن اضطراره للعمل في إمارة الفجيرة، متخففاً من لعنة رواية «أبناء السماء» لكن صديقه محمد الذي يصدق هذه الرواية يعيده إلى حاله في عمان. وهكذا تبلغ السيرية ذروتها، كما تبلغ الصوفية ذروتها في الطيف الذي جاء الكاتب مرة آمراً «يا يحيى خذ الكاتب بقوة»، وهنا تتدفق أخيولات الجحيم والجنة الشهيرة في الدين الشعبي (تذكرة القرطبي مثلاً) إلى أن يرى الكاتب يده تمسك كتاباً يحمل اسمه، وعنوانه: «كتاب الأسرار والأنوار» فأخذ يقرأ فيه، فوجد عجباً، وهكذا يختم القيسي مساهمته المميزة في الرواية السيرية والصوفية، وبخاصة في نشاط التخييل وفي التعبير اللغوي البديع.

___

*الحياة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *