أيام تونسية


*مريم حيدري


حظ سعيد أن يرافقك إلى مكان تريد التعرف إليه شخص يكون ابن المكان ويعرفه، والحظ الأسعد أن يكون هذا الشخص ضليعا في التاريخ والجغرافيا معا، وتلك كانت هدية تونسية أن رافقني حسام الدين شاشية ذلك النهار الجميل في اكتشاف “المدينة العتيقة” وهو الاسم الذي يطلق على القسم الأقدم من مدينة تونس العاصمة. وحسام الدين شاشية هو باحث وأستاذ جامعي في التاريخ، كما أنه حاصل على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة من مركز ارتياد الآفاق (2014-2015) في قسمي تحقيق المخطوطات وقسم الدراسات عن كتابه “السفارديم والمورسكيون، رحلة التهجير والتوطن في بلاد المغرب”.

كان موعدنا صباح يوم ربيعي في “باب بحر”، و”باب بحر” أو باب البحر هو جدار مرتفع ذو قوس، وهو في الحقيقة ما تبقى من سور حجري سميك يعود بناؤه إلى القرن التاسع عشر ويقع اليوم بين المدينة الحديثة وتلك العتيقة، وأوضح حسام أنه بعد الاستعمار نقل الفرنسيون هذا الباب بضعة أمتار باتجاه المدينة العتيقة.
مدخل الحي، زقاق ضيق على جانبيه حوانيت ينتظر باعتها زبائن لا يأتون، فقد قل عدد السياح في تونس بشكل كبير في الفترة الأخيرة على إثر أحداث إرهابية لم يعرفها البلد وأهله من قبل.
يؤدي هذا الزقاق المسقوف إلى زقاق تغمره الشمس وجامع الزيتونة الشهير وبعد السير قليلا باتجاه اليمين يبدأ عالم آخر اسمه “نهج الباشا”، شارع طويل وضيق يضم بيوتا تعود إلى المئات من السنين وأبوابا في منتهى الجمال بألوانها الزرقاء والصفراء والبنية، وقد شرح لي حسام أن إطار كل باب والنقوش التي من حوله والتضاريس كانت تدل على الطبقة الاجتماعية لسكان هذه البيوت.
بيوت وقصور عدة في ذلك الحي حولت اليوم وبذوق رفيع إلى مراكز ثقافية، منها “دار الأصرم” وهو منزل تونسي جميل يعود إلى ما يقارب من مئتي عام وقد أصبح اليوم “مقر جمعية صيانة مدينة تونس”، يديره مهندسون معماريون مهتمون بصيانة وترميم المباني القديمة، أو بيت الشعر التونسي الذي أسسه في التسعينات الشاعر التونسي الفقيد محمد الصغير أولاد أحمد. ومن أجمل ما زرت كان بيتا قديما لصاحبته الشابة التي حدثني عنها حسام ولكنني لم ألتقها ذلك اليوم، فكانت هي الأخرى مسافرة.

 وقد حولت هذه السيدة صاحبة الذوق الرفيع هذا البيت القديم إلى فندق جميل، طوابقه ثلاثة وغرفه سبع. كل شيء في هذا البيت أو الفندق أو “دار بن قاسم” كما هو اسمه الآن أصيل وفاتن، باحته بقرميدها وشجرة المجنونة التي تبلغ سطح البيت وتلتف عليه بأزهارها الوردية، والجدار والمرايا والسجاد والأبسطة والمشغولات اليدوية التي وضعت في البيت والستائر البيضاء والغرف الخرافية كل هذا الجمال المتناسق يجعلك تشعر أنك في حلم ناعم وملون.
وبأحاديث عن الرحلة والمكان وعلاقة الإنسان به مع صديقي الباحث قطعنا الأزقة ورأيت أشياء كثيرة لا يسعها هذا المقال.
في نهاية المطاف خرجنا من الحي بالغين ساحة “القصبة” القريبة منه؛ الساحة الكبيرة والجميلة بامتزاج الكثير من الأبيض في الصخر مع بعض الأخضر في النباتات وتضم هذه الساحة العديد من الوزارات، وتحيط بها عمارات مهمة كمدرسة “الصادقية” ومستشفى “عزيزة عثمانة” القديم والكبير، وعلى جانب الساحة الأيمن من حيث خرجنا من المدينة العتيقة يقع مقر رئاسة الحكومة، وأوضح مرافقي أن كثيرا ما كان يحتشد الثوار هنا أمام مقر الرئاسة أيام الثورة التونسية.
عُدنا مشيا على الأقدام إلى شارع الحرية في وسط المدينة. ودّعت حسام لأعود إلى بيت صديقتي، لكن الشمس كانت لم تزل في الأعلى ففضلت أن أجلس تحتها على رصيف مقهى في ركن الشارع لأشرب قهوة وأمامي شجيرات الخطمي المزهرة وقد عدت ولم أعرف تسميتها في تونس لسبب ذكرته من قبل وهو أن أحبتي في تونس لا يعرفون كثيرا أسماء النباتات. في تونس لا تهم الأسماء بقدر ما تهم متع الحياة!
__
*العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *