الحداثة من منظور إشكالي



*عصام شرتح


خاص ( ثقافات )
إن الحداثة سؤال مفتوح لا يغلق بابه ،ولا تقفل دارته، ذلك:”أن الناظر في تحديد الحداثة يجد أن الحداثة،من حيث هي شكل سيال بلا مضمون مقرر، أو معطى سلفاً،بشكل مؤكد، إنما هي نهضت على رؤية للأمور جمالية، أو(استاطيقية)،شأنها الاحتفاء بالإبداع، والابتكار، والتجديد”(1).
وبهذا المنظور، يرى الباحث عبد الله العروي أن الحداثة هي جوهر الفن،وهي إفراز من إفرازات الفن،بل هي روح الفن ذاته، إذ يقول:” إن اكتشاف الفن ما كان نتيجة لحركة الحداثة،وإنما هو التحديث نفسه،بل كان هو الحداثة ذاتها، أوليس( التحديث) تجريباً،والتجريب هو روح الفن؟! هو ذا سر الحداثة”(2).
ووفق هذا الرأي، ووحدة المنظور،يرى العروي أن” معنى الحداثة ملتئم من مياسم(النسبية)،و(الإبداعية) والشكلية،والتجديدية،وإذا ما هي اجتمعت تحققت،وما نقص منها نقص من الحداثة”(3).
وبما أن الحداثة تظل دائماً وأبداً مشروعاً دائمَ التجدد والعطاء،فإن المشتغلين- في حقل الحداثة- لم يخرجوا منه بشيء،نظراً إلى تعدد الرؤى،واختلاف المعايير، وتناقض الأحكام،والمنظورات الموجهة إليه- كل حسب وعيه- ودرجة حساسيته،وإدراكه للإفرازات الإبداعية، بمنظار رؤيوي حداثوي متجدد يواكب حجم التطورات الهائلة في عالمنا الأدبي المعاصر،وفي المجمل، يمكن القول: إن مصطلح الحداثة بمفهوماته المواربة والمتناقضة ظل مغرياً بآفاقه، ومفرزاته الرؤيوية للسواد الأعظم من مفكرينا ومبدعينا،نظراً إلى حجم القضايا المطروحة في هذا المجال،سواء أكان اختلافاً، أم ائتلافاً حول الكثير من الآفاق، والرؤى، التي اقترنت بهذا المصطلح،وظلت رهينة ذاتها إلى الآن،ومن هذا المنظور سنحاول جاهدين مناقشة معظم الآراء الواردة حول هذا المفهوم،والخلوص منها برؤى منطقية؛ تواكب سيرورة المنظورات الحداثوية المعاصرة في فكرنا الأدبي المعاصر،وفق الكثير من القضايا الإشكالية التي تم طرحها، ومناقشتها،وهي على النحو التالي:
أولاً- إشكالية(الشكل/ والمضمون): 
ما من شك في أن للشكل أهميته؛ كما للمضمون قيمته، وأهميته كذلك،ولا يمكن،وفق هذا المنظور، فصل الشكل عن المضمون،والمضمون عن الشكل،لأنهما متلاحمان معاً كقطعة الورقة الواحدة،فكما لا يمكن فصل الدال عن المدلول؛فكذلك لا يمكن فصل الشكل عن المضمون،فكلاهما بحاجة إلى الآخر، ولا قيمة لأحدهما بمعزل عن الآخر،بل كل منهما يتمم الآخر؛وبهذا المقترب يقول أدونيس:”لا تكمن خصوصية العمل الشعري في(مضموناته)، أو في(أفكاره)،وإنما تكمن في بنية تعبيره،وطريقة هذا التعبير دون أن يكون هناك أي انفصال بين طريقة التعبير، أو بنيته،وبين ما يسمى ب(المضمون) فهماً بدئياً وحده،والكلام على أحدهما باستقلال عن الآخر،تجريدي؛ إذ ليس هناك(شكل في المجرد)، وليس هناك مضمون مستقل عن بنية التعبير؛فالمضمون شعرياً،هو الشكل،والشكل هو المضمون، وعلى هذا المستوى تبطل اللغة في الشعر أن تكون مجرد أداة،أو وسيلة،وتبطل كذلك أن تكون غاية بذاتها”(4).
وتأسيساً على هذا المنظور، ارتأت بشرى البستاني الرأي ذاته بأنه” لا انفصام بين الشكل والمضمون،لأن النص لا يكون نصاً إلا بتحقيق المضمون شكلاً؛ والمضمون لن يتحقق إلا بالتشكل،والتشكل لن يكون شكلاً فنياً إلا بوجود مضمون ينبض داخله، ويحركه”(5).
وبتقديرنا: إن إشكالية الحداثة- في مجملها العام- تكمن في هذا الجدل القائم بين المفاهيم، بحيث نلحظ ثمة اختلافاً، ورجرجة حول الكثير من القضايا والمؤثرات الحداثية، فهاهو الناقد ( أدونيس) بعد إقراره السابق نلحظه يولي الشكل الشعري أهمية عظمى، إذ يقول:”الشكل الشعري هو أولاً،كيفية وجود،أي بناء فني؛وهو ثانياً،كيفية تعبير، أي طريقة. إن الشعر الجديد بوصفه كشفاً ورؤيا،غامض،متردد لا منطقي؛ولهذا،لا بد له من العلو على الشروط الشكلية؛ لأنه بحاجة إلى مزيد من الحرية، مزيد من السر والنبوءة؛ فالشكل يمحي أمام القصد، أو الهدف. ومع ذلك،فإن تحديد شعر جديد خاص بنا،نحن في هذا العصر؛ لا يبحث عنه جوهرياً في فوضى الشكل،ولا في التخلي المتزايد عن شروط البيت،بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد، وكشف”(6).
وبهذا التصور الأدونيسي يتأكد لنا حقيقة مؤداها: أن حداثوية الشكل تتحدد بالمستوى الفني الواعي الذي يرتقي إليه الشكل في العمل الفني عموماً،والشعري خصوصاً،وبمقدار استثارة هذا الشكل للمنتج الشعري تتحدد درجة فاعلية الشكل من ناحية القصدية، والوعي الفني عبر الابتكارات الأسلوبية في إبراز جودة النص، وفاعليته الشعرية؛ولهذا،فالشكل الجديد – من المنظور الأدونيسي- كشف ورؤيا،وتجذير فني لهذه الرؤية؛ عبر الجسد اللغوي الفذ،وهذا- من شأنه- أن يرفع خصوصية الطاقة الإبداعية للنص الشعري،ودرجة فنيته،ووفق هذا المقتضى يعود أدونيس ليؤكد أن” الشكل ليس مجرد(وزن)؛ وإنما هو نوع من البناء،لهذا، يبقى كل بناء قابلاً للتغير والتجدد. ولا تنبع الموسيقا في الشعر الجديد من تناغم أجزاء خارجية، وأقيسة شكلية، بل تنبع من تناغم داخلي حركي هو أكثر من أن يكون مجرد قياس. وراء التناغم الشكلي الحسابي تناغم حركي- داخلي هو سر الموسيقى في الشعر”(7).
والحداثة ليست مقصورة على حرية الشكل؛ وجمالية المضمون؛ إنما هي تفاعل بينهما لتحقيق جمالية البناء، وسحر المعنى؛ومن أجل هذا؛ فإن الحداثة ليست وزناً،وإنما هي طريقة تشكيل وخصوصية بناء؛ولهذا،تتغاير الأنساق اللغوية، باختلاف الإيقاعات الداخلية؛وهذا ما يجعل من موسيقى الشعر مختلفة، متنوعة، بتنوع الإيقاعات الداخلية التي تنعكس على الإيقاعات الخارجية من وزن، وقافية، وتناغم صوتي؛ولهذا كان أدونيس محقاً فيما ذهب إليه من أن”القصيدة الحداثية لن تسكن في أي شكل ثابت،وهي جاهدة أبداً من الهرب من كل أنواع الاحتباس في أوزان، وإيقاعات محددة؛ بحيث يتاح لها أن تكشف بشكل أشمل عن الإحساس بتموج العالم،والإنسان الذي لا يدرك إدراكاً كلياً، ونهائياً”(8). 
وتأسيساً على هذا، يدرك أدونيس أن الحداثة ليست في الشكل الجمالي، أو المضمون الجمالي فحسب،وإنما في الخلق الإبداعي، والرؤية المتجددة للعالم والوجود، ولهذا؛ ففكرة الجمال ليست هي المقياس الوحيد على حداثة الشكل وجماليته؛وهذا ما أشار إليه قائلاً:”لم يعد الشكل مجرد حمال للجمال؛ ففكرة الجمال بمعناها القديم فكرة مائتة. إن للفاعلية الشعرية غايات تتجاوز مثل هذا الجمال. من هنا، لا يمكن أن يكون الشكل خالداً وفقاً لحتمية معينة، ولو صح العكس لأصبح الشعر شكلاً من أشكال العلم، وهذا مناقض لحقيقة الشعرية،ولجوهر الشعر”(9).
ولهذا، فإن الحداثة- من منظور أدونيس- تتعدى الشكل إلى المضمون،ولا يخلد الشكل كحيز إبداعي إلا وفقاً لما تقتضيه الرؤيا كجوهر،وليس كمضمون فقط،ومن أجل هذا يرى أدونيس بأنه:” ليس لهيكل القصيدة الجديدة واقعية جمالية إلا في حياة القصيدة- في حضورها وحدة وكلاً. لذلك، يجب أن تكون القصيدة شيئاً تاماً تتداخل،وتتقاطع،بحيث أن كل جزء منها يأخذ معناه من الشكل. للقصيدة،بهذا المعنى، نوع من الغائية الداخلية؛ إن النظر إلى الشكل بحد ذاته، أي الشكلية قتل للأثر الفني؛ فإذا كان علم جمال المضمون- بحد ذاته- يقتل القصيدة، إذ يعريها من الشكل فإن علم جمال الشكل – بحد ذاته- يقتلها هو كذلك، إذ يردها إلى مجرد هيكل”(10).
إن أبرز ما نلحظه من التوجهات الأدونيسية: أن الشكل والمضمون تحقق إبداعي تكاملي بينهما؛ فإن اضمحل أحدهما وتلاشت قيمة الآخر؛ فالقصيدة لا تحيا بشكلها فحسب،ولا بمعناها، ومضمونها فقط؛وإنما في هذا التفاعل الخلاق بينهما؛وبهذا التصور الأدونيسي؛ لا يمكن فصل الشكل عن المضمون إطلاقاً؛ لأن لكل منهما أثره الخاص، وتأثيره المباشر على فاعلية الآخر، في تحقيق لبنة النص الإبداعي الحقيقية؛ ومن أجل هذا،لا تسكن القصيدة- بمنظوره- في أي شكل ثابت أو محدد، لأنها متغايرة،مختلفة،منزلقة من شكل لآخر، وتبعاً لهذا، ظهرت بعض المفاهيم المغلوطة لدى الكثير من نقاد الحداثة حول حداثوية الشكل،ظناً منهم أن الجمالية هي ثوب الحداثة الذي لا تحيد عنه؛وهذا التصور، رفضه أدونيس بوصفه مفهوماً تقليدياً سائداً ومائتاً لا قيمة له في ظل التفتقات الإبداعية، والتوهجات الرؤيوية في العالم المعاصر؛ فليست الحداثة جسداً لغوياً يتمظهر في قالب جمالي فتان؛ وإنما هي رؤيا خلاقة،بمضمون رؤيوي متوهج؛ وعلى هذا الأساس،تتحدد جمالية الشكل اللغوي – وفق المنظور الأدونيسي- تبعاً لجمالية المضمون،وخصوبة الرؤيا،وانفتاحها وثرائها الدلالي؛ وتتحدد- كذلك- جمالية المضمون، تبعاً لجمالية الشكل؛والخرق الأسلوبي في تخريجه جمالياً- بتفاعل فني- لا غنى لأحدهما عن الآخر، في تعضيد جمالية النص،وتأكيد شعريته؛ ولذا ؛ فإن ما هو جمالي سيترك أثره الجمالي على المضمون لا محالة،وهنا، يطالعنا الناقد علي جعفر العلاق بمقولة صائبة ودقيقة:” ربما يكون الشكل خطوة أولى يتم فيها التحول بالأحاسيس الداخلية من وضعها الأولي؛ أي من حالة الفوضى،والتجريد،والتشتت إلى وضع مغاير،تتخذ فيه شكلاً،وترتدي هيئة لفظية، أو كياناً تعبيرياً ملموساً يمكن تحسسه أو فرزه. والتحدث عنه موضوعياً. غير أن البناء يقع فيما وراء ذلك كله؛ إنه السيطرة على عناصر الشكل في القصيدة،وترتيبها في شبكة فاعلة مترابطة”(11).
وبهذا المنزع الرؤيوي الفذ؛ يرى العلاق أن الشكل هو الخطوة الأولى لتمثيل المضمون،ثم يأتي البناء تالياً، وبمقدار تحكم المبدع في أدواته ووسائله الإبداعية بقدر ما يرتقي الشكل ،وترتقي سوية الإبداع؛ومن هذا المنظور العلاقي؛فإن حداثوية الشكل تتمثل في التجاذب الجمالي بين الشكل أو الجسد النصي للرؤيا،وبين النشاط الإيحائي للمضمون،وبقدر تفعيل الشكل للمضمون،والمضمون للشكل يتفاعل المنتج الشعري،وتزداد درجه سنامه الشعري؛ وهذا يدلنا على أن المنتج الشعري المثير هو الذي يحقق درجته القصوى من التناغم، والانسجام، والتلاحم المتين بينهما؛ولهذا، يرى العلاق أن” الشكل لا يستمد وجوده إلا من عناصر مادية، تشكل المستوى المحسوس للنص، كلماته،صوره، إيقاعاته،صياغته اللغوية، إنه يمارس نشاطه في الطبقات المادية،ولا أقول الخارجية للنص،بعيداً عن قراره العميق النائي، وبذلك ،فهو يختلف عن البناء الذي هو هندسة داخلية شديدة التخفي تربط بين وحدات النص الشعري، وأنسجته، وتضعها جميعاً في اتجاه تتنامى فيه حتى نهاية القصيدة. إنه ثانياً، جهد تنظيمي يخطط لعناصر النص اتجاهها،وطريقة حركتها، ومستوى التفاعل بينها للوصول بها إلى أقصى تركيب ممكن”(12).
وبهذا التصور العلاقي؛ فإن الشكل ليس إطاراً خارجياً عبثياً في تكوين عناصره المادية المحسوسة،وإنما عنصر تأسيسي بارز، وجهد تنظيمي واع للعناصر اللغوية الداخلة في حيز التركيب؛ مما يجعله ذا خصوصية مميزة،يتبع كل نص لغوي على حدة؛ولهذا،يفصح الشكل عن هندسة بنائية تشكيلية محكمة للعناصر اللغوية المؤسسة التي ينبني عليها الشكل بمظهر ما وأسلوب جمالي مخصوص؛وهنا، يميز العلاق بين الشكل بوصفه عملاً جزئياً،وبين البناء بوصفه نشاطاً تنظيمياً كلياً،قائلاً:” إذا كان الشكل يمثل خطوة أولى في الجهد الشعري غالباً فإنه جزئي في معظم الأحيان؛ فهو قد يظل تجسيدات مبعثرة، أو متجاورة،وكيانات لفظية تتكئ على بعضها البعض،لكنها لا ترقى إلى شمولية البناء؛ لأن البناء تنظيمي شامل يضع وحدات الشكل وعناصره في سياق من الحركة المترابطة، أي إنه ينتقل بكل عنصر من العزلة، إلى العلاقة،ومن التجاور إلى الاندغام”(13).
ولهذا، فإن الشكل لا يتخذ مظهره الجمالي، إلا حين يتأسس على شمولية البناء، أو درجة الوعي الشمولي في الرصف، والبناء،ولا تظهر هذه الجمالية- في المنظور العلاقي- إلا حين تندغم العلاقات،وتتفاعل الكتل اللفظية في بناء جمالي متناغم، يقول العلاق:” في الوقت الذي يفصح فيه الشكل عن نفسه على المستوى المادي للنص، فإن البناء لا يتوقف عند هذا الحد،بل يتجاوزه إلى إنجاز ما يدعوه(رينيه ويليك) الشكل الداخلي للنص،وهذا الشكل الذي يحتضن الاتجاهات (السايكولوجية) و(الفلسفية)،وقد جمعت حول مركز واحد مفترض، أي أن البناء نشاط ينظم بخفاء ممتع، عناصر النص، وحركته الداخلية معاً،جسد النص وما يتفجر منه من حيوية روحية وجمالية”(14).
وبما أن الشكل الشعري- بالمنظور العلاقي- هو الذي يستمد أهميته من مظهره المؤثر،فإن حيوية مضمونه تتأسس على شعرية البناء،وعناصره الفنية المؤثرة بما تفرزه من جماليات على مستوى الأسلوب،وبمقدار مطواعية الشكل للمضمون جمالياً، بمقدار ما يستحوذ الشكل على مظهره الجمالي؛ومن أجل هذا،يستحوذ الشكل على أهميته القصوى في المنظور العلاقي؛ لأنه المظهر الفني الذي تتبدى فيه شعرية النص،وبهذا المنزع الرؤيوي يذهب العلاق إلى القول:”إن النص الشعري شكل قبل أي شيء آخر؛ ونحن حين نستقبل النص؛ فإننا لا نؤخذ، في المرحلة الأولى للتلقي إلا بشكله أولاً، أي أن الخضة الأولى التي تعترينا لا تنبعث في الغالب إلا من شكل النص، أو عناصره الشكلية المحسوسة( الحسية)، أما بناء النص فإن اكتشافه مهمة يصعب على المتلقي الأول انجازها دائماً؛ ولذلك، فإن كل قراءة لاحقة تظل اقتراباً من بنية النص واختراقاً لظلمته البهيجة”(15). 
ووفق هذا المنوال، فإن ما يهزنا دائماً- في بداية التلقي- جاذبية الشكل، ومظهره المحسوس، ومن ثم تأتي طريقة البناء؛وهذه تأتي في مرحلة تالية؛ وتأسيساً على هذا؛ فإن قيمة الشكل- في المنظور العلاقي- تتحدد جمالياً بمقدار فاعلية الشكل في احتوائه المعنى، وفاعلية المعنى في احتواء الشكل؛ وبهذا المعنى، تتحقق فاعلية كل منهما؛ وتتأكد عظمة الآخر عبر التلاحم والتفاعل التام بينهما؛ولذا؛ فالشكل لا قيمة له إن لم يبعث النشوة و اللذة الجمالية في المضمون الشعري،ولا يرتقي المضمون جمالياً إ”لا بالمظهر الجمالي الأخاذ الذي يتخذه الشكل؛ وهذا ما قرره العلاق قائلاً:”إن ما تبعثه القصيدة فينا من نشوة، أو قوة، أو أسىً لا يترشح إلا عن مستواها الشكلي أولاً،ومن خلال هذا الشكل بتفاصيله، ومكوناته،تنجح القصيدة في إشاعة مناخها الجمالي والفكري في كيان المتلقي وتستدرجه بعد ذلك إلى فضائها الداخلي، وشباكها الخادعة، أي إلى أبهة البناء الشعري وبهائه الساطع”(16).
وهذا يعني- بالمنظور العلاقي- أن الشكل جزء من شعرية القصيدة؛ بل هو الجزء الأهم، ولا يمكن للقصيدة أن تحقق عنصر تأثيرها وجاذبيتها بمعزل عن جوهرها ومضمونها الجمالي من جهة، وشكلها الفني ومظهرها الأسلوبي المبتكر من جهة ثانية؛ وهذا ما صرح به العلاق في أثناء تقييمه لقيمة الشكل في قصائده الشعرية الأولى،ومدى انعكاسه على المضمون،قائلاً:” لم يكن الشكل، بالنسبة لي،قالباً أو إناءً جاهزاً،لقد حاولت أن يكون لقصائدي شكل خاص بها، في اللغة،والصورة، في الإيقاع، وترويض الوزن، في الإفادة من النثر،وفي إضمار التفاصيل،والنفور من كل صياغة صارت مباحة لكل قبيلة عابرة”(17).
وهذا دليل وعي الشاعر بأن الشكل الشعري في القصيدة ليس إناءً جاهزاً، أو قالباً فنياً محضاً،وهذا ما وعاه في صياغته الشعرية، خاصة فيما يتعلق باللغة والصورة، قائلاً:” كانت قصائدي، في مجموعتي الأولى(لاشيء يحدث لا أحد يجيء عام 1973) لغة مشحونة بذاتها،ومكتفية إلى حد بعيد،برنينها الداخلي،وكنت أؤمن،ومازال أننا حين نقرأ قصيدة ما فإننا نجتاز إليها لغتها أولاً،وحين نصل بعد ذلك إلى التفاصيل الداخلية فإننا لا نصل إلا ونحن مبللون برذاذ اللغة، ومكسوون بفضائها الغائم”(18).
ومن هذا المنظور، جاء احتفاء العلاق باللغة، والصورة احتفاءً بالمظهر الجمالي الجذاب؛ بوصفهما مكمن اللذة في تحريك الشكل الشعري؛ فالجمال- في هذا المنظور العلاقي- لا يعني التمظهر اللغوي الجذاب للشكل اللغوي الشعري فحسب،وإنما يعني تحقيق المتعة واللذة في هذا الشكل عبر الصورة الحية، واللغة المراوغة المبتكرة التي تبتعث الصورة الدهشة بقالب جمالي فعال؛ وبما أن الشكل هو المثير الجمالي المحرك للصورة،والباعث لنشاطها الإيحائي فإن اللغة في مراوغتها هذه تحقق المتعة في تلقيها النصي؛ومن هنا،جاءت عناية العلاق باللغة نتيجة وعي بالخلق الشعري الأخاذ، وإيذاناً بعنايته الفائقة بالشكل،واستثارة مغرياته الجمالية الخصبة كلها؛ وبهذا،يؤكد أن عنايته في تشعير اللغة نابعاً عن تشعيره للشكل اللغوي في إيقاعيه البصري واللغوي في آن؛ إذ يقول:”كانت اللغة والصورة،في مجموعتي الأولى ،هاجسين دائمين يثيران فيَّ إحساساً طاغياً بالإيقاع،ولذة المجاز،وبراءة اللغة، كنت أعلي من شأن الصورة الشعرية،ولغة القصيدة بصورة متطرفة،وكنت أمعن في التعويل عليهما،شكلاً شعرياً،حتى بدا لي،في أحيان كثيرة، أنني أبالغ في تشذيب تلك القصائد ونزع ما يعلق بها من زيادات، أو أورام لفظية،حتى تغدو القصيدة ذاتها لغة لا تشير إلا إليها؛ولا تلامس إلا جسدها الممعن في شفافيته، وحزنه، وطرافته، ومن هذا المنطلق،كانت معظم قصائدي،في تلك المجموعة قصائد مناخات، وأجواء، وحالات،كانت لغة لا تفضي إلا إلى اللغة غالباً،كانت نوعاً من اللعب الممتع البريء. وكنت أجد نفسي- باستمرار- مفتوناً بالشكل،ومستسلماً لإغرائه الكاسح”(19). 
وعلى هذا الأساس؛ جاءت عناية العلاق بالشكل مبنية على هاجس شعوري بأن الشكل هو المظهر الجذاب في تلقي القصيدة؛ولذا، كانت عنايته بالشكل مبنية على رغبة في التواصل مع الآخر؛وما افتنانه بالشكل إلا نتيجة رغبة جامحة لديه في تحقيق أعلى درجات الإثارة،رغبة في تحقيق التلقي الجمالي الأمثل لقصائده؛ لهذا، نعمد إلى تشذيب قصائده من الزوائد، والأورام اللفظية- على حد تعبيره- التي سرعان ما تثقل كواهلها،وتقتل مظاهر جمالياتها الفنية؛ يقول العلاق:” لم أكن آنذاك معنياً ببناء القصيدة عناية واضحة، أي أن ترتيب وحدات النص، وتنظيم حركاتها لم يكونا من هواجسي الملحة في تلك المرحلة،لذلك، كنت أنظر دائماً إلى قصائدي المبكرة تلك على أنها مخلوقات شديدة البراءة، تلهو على شاطئ الشكل حرة رشيقة مبللة. ومع هذا الهوس بالشكل قد انكسر في مجموعاتي اللاحقة إلى حد ما،فإنني أصبحت متيقناً أننا على طريق اللغة والصورة،و بهما معاً يمكن أن ننتصر على انكسارنا،وصدئنا،ويأسنا الإنساني”(20).
وبهذا التصور؛ فالإبداع الشعري- في المنظور العلاقي- لا يعني الانقياد لأحدهما على حساب الآخر، فالهوس- بالشكل على حساب المضمون- سرعان ما ينعكس على جوهر القصيدة- مخلفاً آثاره السلبية على فاعلية تلقيها، وبما أن الفن الشعري- كطبيعة أي فن ممتع- لا ينفصل فيه المظهر عن الجوهر في تحقيق ثنائيته الإبداعية المتكاملة،فإن الانجراف وراء أي منهما سينعكس على طبيعة الفن، وربما يخرجه من دائرته الحقيقية،ولهذا يرى العلاق أنه” حين ننغمر في لغة قصيدة ما،وصورها المنهمرة فإننا نبدو وكأننا نلتقي فجأة بحلم ضائع أو طفولة غادرناها مرغمين،كأننا نلتقي أنفسنا من جديد أطفالاً مفتونين بالمطر، ونكهة الأرض المحروثة تواً”(21).
بكل تأكيد، إن ما أدلى به العلاق- ليس تدليلاً على فهمه الدقيق لهذه الإشكالية فحسب، وإنما على وعيه بخصوصية الفن الشعري الحقيقي الذي لا يمكن التفريط بأي منهما،بحجة الارتقاء بالآخر؛ لأن الشكل والمعنى( المضمون) عنصران متلاحمان في عملية البناء الشعري؛ولا غنى لأحدهما عن الآخر في هذا الجانب،ومن هذا المنطلق، اختلف الكثير من نقادنا ومبدعينا حول هذه الإشكالية الرابطة بين الشكل والمعنى، وبسبب هذا الخلاف اختلفت منظوراتهم للحداثة شكلاً ومعنىً، فمنهم من عد الحداثة شكلاً- بالدرجة الأولى- ومنهم من عد الحداثة مضموناً ينعكس مصدر جاذبيته على الشكل،يقول الشاعر عبد الكريم الناعم فيما يفيدنا في هذا الخصوص:” أظن لو أن أحداً حاول تعريف الحداثة الشعرية فسيجد نفسه موزعاً بين مفاهيم المضامين،والشكل،والبنية،والصورة،والدرامية، وهذه آفاق ليست مقتصرة على شعر مرحلة محددة، بل يمكن أن تشمل كل ما قيل من أشعار،وهذا يخرجنا من حدود زمنية الحداثة، إلى إطلاقية لا متناهية في الشعر؛ وأظن أيضاً أن تعريف الحداثة الشعرية حين نعري ملامح شكلية وبنيوية فسوف تأخذنا،بشكل ما، إلى تعريف الشعر الذي لم يستطع حتى الآن تعريفه أحد ذلك التعريف الجامع المانع؛ لأن ما يكون على تماس مع ما هو روحي يستعصى على التعريف، بهذا المعنى فأنا أنظر إلى الشعر الذي يهزني ويأخذني إلى أمدائه التي يختارها هو،ولا فرق عندي في الشكل؛فالشكل مظهر تلك الروح،ومجلاها،فبضعة أبيات للمجنون مثلاً تأخذني كما تأخذني قصيدة رائعة لأدونيس، أو محمود درويش، أما الشعراء الذين يستحقون هذه المقولة، فهم كل الشعراء الذين استطاعوا أن يحركوا في أعماقنا ما يجعلنا نتذوق تلك المجاني،وقد يكون هذا في قصيدة واحدة، أو مجموعة قصائد شعرية، أو أكثر، أما الشكل بعامة فهو التشكيل المعبر، والحد الفاصل بين ما هو داخل في النص الشعري هو كالحد الفاصل بين الجسد والروح،فكم من روح جميلة آسرة حشرت في شكل غير جميل،وكم من روح نافرة ومنفرة حشرت في شكل جميل،وكلا الاثنين يشكو من القادح الذي يبهظه”(22).
وبهذا التصور الشاعري المرهف يصل الناعم إلى ذروة الإدراك بأن الحداثة مضمون جمالي في قالب جمالي، أو بمعنى أدق: مضمون دافق حيوية وخصوبة وتوهجاً روحياً؛ وشكلاً مبتكراً ألقاً وجاذبية، وأبنية أسلوبية مبتكرة بتمظهراتها الفنية،ولهذا، يرى الناعم أن الحداثة ليست في الخروج على الشكل العمودي؛وإنما في الأفق الجمالي الذي يمنح الشكل ديناميته، وحراكه، ومنبع ثقله الجمالي،وهذا ما صرح به قائلاً:” ثمة شعراء يكتبون قصائدهم على نظام العمود،فالشكل بمظهره شكل عمودي،لكن الصياغة، والتراكيب، والصور، والبنية بملامحها تضعك أمام أفق جديد، ولم يعق الشكل(النظام) أن يبتدئ الجمال في ذلك الإيهاب.. من هنا يستطيع القول إن ما كتبه بدوي الجبل وعمر أبو ريشة، والأخطل الصغير، ووصفي قرنفلي، وعشرات الشعراء العرب المجيدين.. من يستطيع القول: إن ما كتبوه ليس شعراً بمقاييس الحداثة والحداثيين”(23).
ووفق هذا المقتضى الرؤيوي، والمنظور الدقيق يؤكد الناعم اختلافه عن رؤى الكثير من شعراء الحداثة، ونقادها حول مفهوم الحداثة،سواء أكان ذلك بالشكل أم بالمضمون، إذ يقول:” أنا أختلف مع الآخرين في أن الحداثة جوهر،فهي عندي،بمفهومها السائد لا ترقى لمرتبة الجوهرية،بل هي ابنة الأزمنة في حراكها،وفي تغيراتها، أما ما هو جوهري فهو الإبداع،وجوهرية الحداثة حين تتحقق تكون في الإبداع،وفي آفاقه،لا في حدي الحداثة والقدامة الزمنيين” (24).
وتأسيساً على هذا الوعي،فإن الناعم ينظر إلى الشكل من منظار تفاعله مع المضمون؛فالشكل إن لم يتضمن ارتقاء في المضمون جمالياً، وألقاً شعورياً، وتوهجاً روحياً فإنه يغدو مجرد قالب جامد لا حراك به، وهذا يعني أن الشكل الجمالي المثير هو الذي يقتضي أو يستدعي المضمون الجمالي الذي يحفز النص،ويرفع درجة خصوصيته الإبداعية؛شريطة أن يمتلك المبدع رؤية جديدة مبتكرة وإحساساً جمالياً في تشكيل الرؤية، وما أدلى به الناعم لجد دقيق في إصابة المغزى الجوهري من مفهوم الحداثة والتنظير لها؛فالحداثة ليست شكلاً جمالياً في مضمون جمالي بقدر ما هي خلق وإبداع وتخصيب أسلوبي في إثارة المقتضى الجمالي؛وما أكد عليه الناعم يضعنا أمام نقطتين بارزتين ومهمتين: الأولى أن الحداثة روح، وإحساس جمالي ورقي بهذا الإحساس في قالب جمالي متميز؛ والثانية أن الجمال الروحي أو الجمال الجوهري في بنية المضمون،وهذا الجمال لن يتحقق – في مقتضاه الأكمل- إلا بالاقتضاء الجمالي المرافق لبنية الشكل؛وبغير هذين العاملين لن تتحقق حداثوية الشكل،وحداثوية المضمون،وبالتأكيد، لن تتحقق- وفق هذه الحالة- حداثة النص الشعري وشاعريته الحقة.
وعلى هذا الأساس،وقف الكم الغفير من شعراء الحداثة ونقادها على هذه المسألة بمزيد من التحفز بين من يدعي الحداثة بالشكل،ومن يدعيها بالمضمون،فهاهو الشاعر الفلسطيني المبدع صالح هواري يرى أن معاناة الحداثة تنبثق من مضمونها لا من الشكل الأسلوبي الذي تتخذه قائلاً”أما معاناة الحداثة فتنبثق من المضمون لا الشكل؛ ذلك أن بناء القصيدة الحداثية أصبحت مداميكه الفنية معروفة على الساحة الأدبية،ويفترض في قارئ الشعر الحداثي قبل أن ينوي الولوج إلى دواخله أن يقف على بابه أولاً،ومعه مفاتيح تختلف.. وقليلون أولئك القراء الذين يقدمون على قراءة الشعر الحداثي؛ لأن ذلك يتطلب منهم فيضاً غامراً من الوعي، والثقافة،والنظرة الثاقبة على سبر غور النص؛ ذلك أن الحداثة رؤية استشرافية للحياة لا تتحقق إلا عبر لغة شعرية ساحرة، تتألف فيها الأصوات، والنغمات في فضاء من الإيماء، والكشف”(25).
وبهذا المفتاح المعرفي يصلنا الهواري إلى جوهر رؤيته للحداثة التي هي- بمفهومه- رؤية متجددة للوجود، والخلق، والإنسان،والشاعر إن لم يملك أفقاً واسعاً، ووعياً منفتحاً على الدوام لن يكون شاعراً حداثياً على الإطلاق،وبهذا المنظار الرؤيوي المفتوح يضعنا الهواري على جادة الصواب في تفهم معنى الحداثة، ووظيفتها في الفكر الأدبي المعاصر،قائلاً:” الحداثة هي رؤيا جديدة للحياة والإنسان في آن معاً.. وهي المغامرة الذاهبة في عذوبة الاكتشاف عن طريق الوعي اللاواعي،القادر على هدم العلاقات النمطية بين الأشياء،وإقامة غيرها على أسس ثورية جامحة ترفض كل ما هو نمطي”(26). 
إن الهواري في سياق هذه الوضعية يضعنا على محك الحداثة، بإطلاقها، وانفتاحها،وعمومها، وشمولية حركتها، ولهذا،نجده يؤسس لها، إذ يجعلها ترتكز على أسس ومنطلقات تنبع منها، إذ يقول:” تقوم الحداثة على الثقة في قدرة الأسس الحديثة على هدم النمطيات،وإعادة هيكلتها بشكل متطور،ودفع حركتها بديناميكية تسعى إلى التغيير،ورفض المألوف. ولا ترتبط الحداثة بشكل فني محدد،ولا بشكل إيقاعي معين، وهذا يقودنا إلى أن الحداثة تكمن في الخلق، والإبداع، والمضمون لا بالشكل. ولا يمكن تحديد بوصلة المغامرة في خوضها؛ لأنها مجهولة النتيجة، فيمكن أن تشير إلى عالم الدهشة والذهول، أو أن تقود إلى الفشل والذبول”(27).
وبما أن الحداثة- حسب الهواري- تنبع من المضمون،ولا ترتبط بالشكل فحسب؛ فإن ما يبعث مقوماتها العصرية، وثورتها الإبداعية توهج الرؤيا،وحساسية المنظور؛ولهذا يرى أن” الذين يكتبون الشعر الحداثي بمقوماته العصرية المتكئة على الرؤية،والتكثيف، والإيغال في اللاوعي لإحداث هزة طاغية في كيان النص؛هم النخبة من الشعراء الذين يقدمون نصوصهم الحداثية إلى النخبة من القراء؛ وهنا، تتعانق النخبتان معاً على خشبة النص، أما النخبة القاصرة عن مواكبة الشعر الحداثي فتبقى على قارعة هذه النصوص دون أن تمتلك القدرة على اقتحامها لضعف أسلحتهم الفنية الهجومية”(28).
ومن هذا المنطلق؛ فإن عدم قدرة النص على مواكبة الحداثة مفهوماً ورؤية،تنظيراً وتطبيقاً؛ جعلهم بمنأى عن تلقي هذا النمط من الشعر في عالمنا الأدبي المعاصر، ولهذا،فإن الشكل لا قيمة له في ظل مضمون هش، ورؤية ضحلة،هذا ما أراد الشاعر صالح الهواري إيصاله لنا،قائلاً:” أن كثيراً من النصوص المبنية على إيقاعات بحور الفراهيدي تمتلك من الحداثة مالا تمتلكه قصائد عدة تدعي الحداثة؛ ذلك أن جذور الحداثة تكمن في شرارات المعاني التي تشيع التوتر في النص،وليست في البناء الشكلي،وإيقاعاته الخارجية المتمثلة في حركة الروي والقافية”(29).
وبهذا التصور؛يبدو لنا أن مفهوم الحداثة-من منظور صالح الهواري- يكمن في حدود الانفتاح الدلالي، وتخصيب المضمون الإيحائي، أو المقتضى الجمالي،وليس بالشكل الفني، ومبتكراته فحسب،وشعرية النص ومكمن حداثويته لا تنبع من شكله على الإطلاق؛وإنما من مضمونه؛ فكم من النصوص الإبداعية قد تألقت، وسمت لا بشكلها اللغوي المثير فحسب؛وإنما بمضمونها المبتكر ورؤيتها الإبداعية الفنية الجديدة،وحيازتها على كم هائل من المثيرات التشكيلية، واللغوية، والإيقاعية، والصوتية؛وليس من الإيقاعات النابعة من هذا الشكل أو ذاك، فليست ثورة الحداثة ثورة إيقاعية، أو عروضية، أو شكلية؛ وإنما هي ثورة لغوية، ومضمون إيحائي، متوهج فنياً ورؤيوياً؛ولهذا،فإن ولادة قصيدة شاعرية في ألقها، ونبضها الجمالي، أياً كان شكلها، أو أسلوبها لهي الحداثة بعينها؛ وبهذا المقترب الرؤيوي يقول الناقد والشاعر السوري نزار بريك هنيدي:” ربما كانت تجربة ولادة القصيدة الجديدة من أكثر التجارب إثارة، وغرابة، بالنسبة للشاعر،فهي ذات طبيعة خاصة لا يمكن أن يدركها إلا من كان كابدها فعلاً،وأول ملامح هذه الخصوصية تتمثل في أن القصيدة ليست بنت اللحظة التي تولد فيها،كما أنها ليست استجابة لرغبة مباشرة من الشاعر، أو تلبية لغرض أو قصد معين سلفاً. بل هي أشبه بلحظة انهمار المطر؛ بعد أن تكون السحب قد تكاثفت في السماء متجاوزة رحلتها الطويلة، التي بدأت من تبخر الماء، وصعوده، وتجمعه في شروط مناخية مؤاتية،ثم انطلاق شرارة البرق التي تؤذن بالهطول، أو الولادة،ولذلك،فإن هذه اللحظة لا يمكن أن تكون عابرة يزول تأثيرها فور انقضائها،لأن مجمل الظروف والأجواء التي ساهمت في حدوثها تكون قد فعلت فعلها التغييري في نفس الشاعر، قبل فعل الكتابة نفسه، وإن كان فعل الكتابة نفسه سيؤدي أيضاً إلى نشوء علاقات جديدة، وإيحاءات متعددة ستعمل على إضافة عناصر جديدة تفعل فعلها أيضاً في ذهن الشاعر،وتتغلغل إلى أعماقه لتنزرع فيها. ومن ثم فإن، لحظة القصيدة ستكون من وجهة نظر الشاعر على الأقل، أكثر اللحظات أصالة، وديمومة،وربما كان الشاعر الأعظم هو من يتمكن من نقل هذا الإحساس بالأصالة، والديمومة إلى المتلقي، أو القارئ بكل الزخم الذي عايشه هو نفسه في لحظة الكتابة”(30).
والحقيقة التي أراد الهنيدي تأكيدها، والتنبيه إليها أن كتابة القصيدة – بحد ذاتها- مشروع حداثوي منفتح،لأن كتابتها تخضع لمرجعيات عديدة، واحتدامات مكثفة، ومحفزات شعورية جمة تعتصر كيان الشاعر،وتؤزه لحظة المخاض الشعري، ليقوم بفعل الكتابة هذه،وهذا الفعل لا يعي الشكل، بقدر ما يعي المضمون،وما الشكل إلا الطينة المطواع لمحفزات المضمون، وبواعثه الشعورية،وبهذا الإحساس والمنظور لا يغدو الشكل جزءاً من المضمون فحسب، أو جزءاً منفصلاً عن المضمون كذلك،وإنما يبدو الشكل والمضمون متلاحمين، ليغدو الشكل فن الإحساس والشعور والترجمة المقصدية عن المضمون، ويغدو المضمون مقتضى الشكل ومظهره العجائبي الجذاب؛ووفق هذا المنحى يرى الكثير من علماء الجمال أن جمال المضمون يعود إلى جمال الشكل،وجمال الشكل يعود إلى جمال المضمون،وأفضل ما يجسد جمال الشكل، جمال اللغة ومظهرها الفني العجيب،وبهذا الخصوص يقول عالم الجمال(كلوديل):” إن الشعر يرتبط باللغة،وهدفه اللذة التي نحصل عليها والتي تعتبر اللغة أداتها”(31).
وتأسيساً على هذا،نرى أنه” حين تكون مادة الموسيقي هي النغمات تكون مادة الشعر هي الألفاظ،وبتعبير أدق: يعمل الموسيقي بنغمات تتقدم إليه في حالة طليقة يستطيع تركيبها فيما بينها دون تحديد،في حين يعمل الشاعر بنغمات موضوعة في إطار الألفاظ، ومحدودة بهذه الألفاظ،وهكذا، فإننا- في أغلب الأحيان- لا نمتدح هارمونية أبيات الشعر إلا حين نعجز عن تحديد جاذبيتها العجيبة”(32).
وما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه: أن جمالية القصيدة- من منظار الكثير من شعراء الحداثة وعلماء الجمال- يعود إلى تلاحم الشكل الجمالي الأخاذ، والمضمون الجوهري الذي يستثير الغريزة،ويلهب الشعور، ويحقق متانة النص، وحصانته جمالياً.
ويرى الشاعر الدكتور نذير العظمة أن الحداثة ليست شكلاً فحسب،وإنما هي رؤيا تنبثق من هذا الشكل أو ذاك ،تبعاً لخصوصية الأداة، وطبيعة التجربة ومرجعياتها؛وهذا ما أشار إليه قائلاً:” الحداثة تجربة عاطفية،فكرية، اجتماعية،ثقافية،سياسية، تنبثق منها رؤيا شعرية، لذلك، يمكن تقسيم التيارات الإبداعية إلى تيار سلفي، وفي هذا التيار يتسيد النمط الموروثي فيه، والتيار التحديثي،والتيار الحداثي؛ فإذن نحن بين تيارات ثلاث: تقليد،وتحديث،وإبداع، التحديث يعطي اليد العليا للنمط الغربي، أما النمط السلفي فيعطي اليد العليا للموروث من الفكر والمفاهيم التراثية القديمة. في حين أن الأنماط الحداثية فهي الولادة الجديدة التي يطمح إليها جيل الرواد من خلال استيعاب تراثهم، والتراث الإنساني، والانبثاق برؤية جديدة من خلال هذا الاستيعاب”(33).
وبهذا الوعي الممنهج يقسم العظمة التيارات الإبداعية ليقف على التيار الحداثوي؛ وفي المجمل: إن ما أراده العظمة-بوصفه شاعراً وناقداً مرموقاً من جهابذة جيل الرواد نقداً وشعراً- أن يبين الفرق في المصطلح بين الحداثة والتحديث هذا من جهة، ومن جهة ثانية أن يدلل على أن الحداثة عصارة مفرزات معرفية، ورؤيوية، وفكرية، ونفسية، واجتماعية،وهي ما تشكل الركيزة الإبداعية للشاعر الحداثي؛ فالحداثة، إذاً، في المنظور الرؤيوي – لدى العظمة- هي رؤيا جوهرية للحياة، والخلق والكون،وهذه الرؤية ليست حكراً على شاعر قديم أو معاصر؛فكل ما ينضج بالإبداع يملك رؤيا، وهذه الرؤيا هي جوهر الحداثة ومعدنها الأصيل؛وهذا ما صرح به قائلاً:( الرؤيا ليست حكراً على شعراء الرواد والحداثة،وإنما الرؤيا ممكنة لأغلب الشعراء في معظم العصور،لنأخذ على سبيل المثال: طرفة أو لبيد، أو امرؤ القيس.. شعراء المعلقات مثلاً: قامت معلقاتهم على تجربة حياتية ورؤيا… بهذا المعنى فإن الحداثة ليست حكراً على عصر واحد،وإنما يمكن أن نكتشفها في كل العصور؛وهي جوهر الشعر. من لم يضف على موروثه الشعري يعيش عالة على الذاكرة،ومن لم تستبعده الذاكرة يقفز على النهضة”(34).
والحال أن العظمة أراد أن يضعنا على صلب الحقيقة في منظوراته الدقيقة للحداثة،مؤكداً أن الحداثة(حداثة الشكل)، لا تتحقق جمالياً بمعزل عن حداثة المضمون؛ فالشكل ليس مقياساً على الحداثة إن لم يأخذ الشاعر في منظوره حداثة الرؤيا،وخصوبة المضمون، ولهذا، يرى العظمة أن الحداثة سيرورة دائبة من التجدد، والعطاء، والإمكانات، وهي متاحة في جميع الأجناس الأدبية والأشكال الشعرية؛وهذا ما دلل عليه في قوله:” الحداثة ممكنة ومتاحة في الأشكال الشعرية كلها دون استثناء، العمود الحديث، إذا جاز التعبير، وقصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، والقصيدة النثرية أو الشعر المنثور. والقصيدة المدورة التي اكتشفتها بشهادة معاصري عام 1958 بقصيدة(عشر شموع) التي تدور حول الموت والتقليد والخروج منهما إلى الرؤيا والحلم بالإنسان الذي ينهض من رماد القدم.. أقول: أنا مبدع نماذج في القصيدة، والمسرحية للبحث النقدي في كل هذه الأجناس خرجت بنماذج جديدة بفعل معاناتي النفسية وهضمي للموروث الفكري والفني اختصاصاً ودراسة”(35).
وسبب ربط العظمة بين الحداثة والتحديث مرده الفرق الواضح بينهما،من حيث الفرع والأصل؛ فالحداثة تمثل الأصل أو الجوهر الحداثي في كل شيء، في حين أن التحديث يمثل التطوير؛ووفق هذا المنظور،فالحداثة ممكنة في جميع الأشكال في منظور العظمة، في حين أن التحديث يبقى في نطاق النوع،وهذا نطاقه محدود وضيق، وتبعاً لهذا قرن العظمة الحداثة بالإبداع؛ سواء أكان ذلك في ابتداع الشكل الجمالي الجديد، أم الرؤيا الخلاقة التي تحلق بالنص، وتسمو به فنياً. فالحداثة، إذاً، وفق هذا الرأي ليست قاصرة على الشكل، وابتداع الأساليب المباغتة بقدر ما هي حداثة في تبئير الرؤيا،وتحريك مخزونها الابداعي.
وهنا،لابد من إدراك حقيقة جد مهمة في الحداثة،وهي أن ما يحقق جمالية القصيدة ورقيها حداثوياً لا يقتصر على مجرد تطوير الأدوات، والوسائل، والطرائق التشكيلية في القصيدة؛وإنما في المستوى الفني الذي ترقى إليه جمالياً عبر التكثيف الدلالي،وعمق الرؤيا، وجسارة المدلول، وبكارة الطرح،ودرجته البلاغية؛ وبتقديرنا: إن الشاعر العظيم هو الذي يرقى بقصيدته أسلوباً، وطريقة بناء، وتشكيل؛ولذا فإن أغلب نقاد الحداثة وشعرائها وقفوا على مسألة الشكل وابتداع أساليب تشكيلية بصرية على بياض الصفحة الشعرية بأشكال ما أنزل الله بها من سلطان ؛ظناً منهم أن الحداثة هي تنوع أشكالن وأبنية كاليغرافية موزعة بشكل عشوائي على الصفحة الشعرية؛وهذا ما حرفهم عن جادة الصواب في فهمهم للحداثة رؤيةن وطريقة تعبير؛ولهذا رأى الناقد السوري المبدع خليل موسى أن الحداثة حداثات؛ إذ يقول:” الحداثة بنت الصناعات الثقيلة في أوروبا،وهي بنت العقل؛ولكنها ليست مدرسة، أو مذهباً أدبياً،وإنما هي حركة تاريخية جاءت لتنهي عصور المذاهب الأدبية التي هيمنت على أوروبا زمناً ليس قصيراً.. هي بنت الذاتية والشخصانية، والحرية؛ والحداثة حداثات؛ففي فرنسا مثلاً حداثات، بقدر شعراء الحداثة،فثمة خصائص فردية لكل شاعر على حدة،وقواسم مشتركة تجمع هؤلاء الشعراء إلى أعضاء جمعية الحداثة إذا جاز التعبير… الحداثة بتعريف موجز مختصر:عصر النص،وانتهاءً سلطة المؤلف الملهم؛ فالنص –أولاً وأخيراً- صناعة فائقة التصور في الحداثة،ولذلك كان بودلير أول من أطلق هذه التسمية(الحداثةModernite )شيء،والتحديث(Modernisation )شيء آخر؛ أما الحديث(Modern)؛ فهو كل عصر، فأبو تمام شاعر حديث،ولكنه ليس حداثياً بالضرورة،لأنه ليس من عصر الحداثة”(36).
وبهذا الرصد المعرفي الذي تتبعه الموسى في تمييزه بين المصطلحات يضعنا على منظور رؤيوي جديد،وهي أن الحداثة- في أساسها- حركة مذهبية طغت في عصر النهضة؛وحاولت النهوض في الأشكال، وطرائق التعبير،فوقعت في سلك ادعاءات محتدمة، وفوضى في الرؤى والمفاهيم،مما انعكس عليها سلباً وفوضى وعدم دقة حتى ضمن المفهوم الواحد والمصطلح ذاته، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن كل ادعاءات الحداثة والحداثيين حول تطوير الشكل أو المنظر الفني للقصيدة الشعرية قد اعتمدت التشكيل الهندسي المعماري،ظناً أن الحداثة شكل؛ وبهذا الخلل الرؤيوي فقدت القصيدة الحداثية ثوب شرعيتها وخلودها كفن إبداعي جديد؛ فالشكل بلا قرين رؤيا وفعالية مضمون لا قيمة له في ظل التطورات المعاصرة؛ولهذا، فإن الموسى قد أعلن صراحة أن ما يستحق أن يحمل لواء الحداثة النص الإبداعي وحده في كل زمان ومكان؛ وهذا ما صرح به قائلاً:”إن الشاعر الذي يستحق أن يحمل لواء الحداثة هو النص وحده… كل مقولة غير ذلك تبعدنا عن الحداثة إلى زمن مظلم ظالم… للمتنبي العظيم عدد قليل من القصائد أهلته في الدخول في بوابة الخالدين،وفي ديوانه كم كبير من القصائد تحتاج إلى إعدام،خليل مطران كان في مرحلته الأولى مؤهلاً لأن يكون شاعر العرب،ثم تراجع إلى الحضيض لمجاملاته التي لا توصف.. السياب شاعر العربية الأكبر في العصر الحديث بدأ بدايات متواضعة جداً.. بدايات أدونيس(دليلة)(قالت الأرض) مخجلة،وهي تشير إلى متدرب لا يعرف مداخيل القصيدة، ربما كان نزار قباني وخليل حاوي الوحيدين بين شعراء العربية الذين بدؤوا بدايات لافتة للنظر”(37).
وبهذا الوصف،نؤكد حقيقة واحدة هي أن الحداثة- من منظور أغلب النقاد- تكمن في حداثوية الشكل الفني، والأسلوب التشكيلي المبتكر؛ولذا؛فإن الأسلوب الشاعري المبتكر هو الذي يراوغ القارئ من خلال التشكيل الهندسي الذي يشد القارئ إلى حداثوية اللغة، ومنظورها الجمالي المؤثر؛واللازم عن هذا المدلول القول: إن ميزان الحداثة وفق إشكالية (الشكل/ والمضمون) مازالت تشكل إلى الآن جدلاً واحتداماً بين الكثير من النقاد والمبدعين،حول مؤيد للشكل،ومؤيد للمضمون؛ووفق هذه المنظورات لم يستقر رأي واحد،ولم يتحدد المفهوم بشكله الكامل والنهائي إلى الآن. وعلى هذا نخلص إلى النتائج التالية:
1- إن أغلب الشعراء والنقاد لم يأخذوا بعين الاعتبار الرؤية الجوهرية المحفزة للشكل الشعري؛ فالنص لا يثيرنا بشكله بقدر ما يثيرنا برؤيته الوهاجة؛ والرؤية التي نقصدها هنا،كل ما يبرز قيمة النص جمالياً،سواء أكانت مرتبطة بالشكل أم بالمحتوى.
2- إن الكثير من شعراء الحداثة قد أخفقوا في الكشف عن القيمة المثلى للمحتوى، أو الموضوع الجمالي الذي يفجر الرؤيا،وينمي توهجها التخييلي؛ فالجمالية- في الحداثة الشعرية- لا تكمن في الشكل البصري فحسب؛ وإنما بالموضوع الجمالي، والخبرة الجمالية في بلورة الموضوع وإكسابه طابعه الفني الإبداعي الخاص.
3- يحتاج الشكل إلى المضمون كحاجة المضمون إلى الشكل، ولا قيمة لأي منهما بمعزل عن خصوبة وحيوية الآخر؛،ولذلك فإن محك الرؤية الحداثوية للحداثة الشعرية إزاء العمل الفني، أو الأدبي لا تتأطر في مفهوم محدد، أو منظور مقنن،لنؤكد مجدداً: أن قيمة العمل الأدبي وإثبات أحقيته الإبداعية في حقل الحداثة لا تتحدد بالشكل، ولا بالمحتوى،وإنما في القيمة الكلية التي يحققها بطاقاته الرؤيوية، والأسلوبية مجتمعة؛وهذا يعني أن الشكل لا يستحوذ على قيمته الجمالية المؤثرة دون حراك دلالي ابتعاثي ينهض بالفكرة وجسدها اللغوي الفني،لتحريك الذائقة الإبداعية، وتفعيل المنظور الرؤيوي لفاعلية كل من الشكل والمحتوى، في إثبات جمالية النص ومصدر حداثويته، وهذا ما ينبغي على نقادنا وشعرائنا أخذه بعين الاعتبار في أثناء تشكيلهما للنص الشعري والحكم عليه فنياً وجمالياً. 
ثانياً- إشكالية(المحسوس/ المجرد):
ظلت إشكالية العلاقة بين(الحسي/ المجرد) من أكثر القضايا جدلاً في مفهوم الكثير من نقاد الحداثة وشعرائها ممن راموا طرح هذا المصطلح،ومناقشته وفق ما يسمى( جدل الثنائيات)؛وانقسموا فريقين؛ فمنهم من طالب القصيدة بالصور الحسية، بوصفها الأقدر -من منظورهم- على تقريب الأشياء من المتلقي ليتحثثها، ويتأثر بها؛ بحجة أن المتلقي يتفاعل دائماً مع الصورة التي تقترب من مداركه،وتلامس أحاسيسه؛وأبرز دعاة هذا المذهب من الغرب(ريتشاردز)؛ ومن العرب: أدونيس،والعلاق، وأبرز المقولات الدالة على هذا التوجه مقولة(ريتشاردز) الشهيرة:”إن الصورة هي كل شيء تقوى على رؤيته، أو سماعه،أو لمسه، أو تذوقه”(38).
والصورة لا تحقق وظيفتها الغائية أو الفنية إلا حين تلامس الحواس؛ وتدرك بأي منها؛ ولهذا، شدد (ريتشاردز) على أهمية الصورة المحسوسة في إيصال مغزاها، وتقريب معناها، ومنبتها الجمالي من الصورة المجردة؛ إذ يقول:” يجب ألا تعتمد القصيدة في إيصال مغزاها على الأسلوب المجرد، بل عليها بدلاً من ذلك الاعتماد على الصور الحسية”(39).
ولهذا، يرى(ريتشاردز) أن مكمن نجاح الصورة يتوقف على ملامستها للقارئ، وقربها من إدراكه،بل لا يعوَّل نجاح الصورة إلا على مصدر حسيتها، وإدراكها المباشر؛ إذ يقول:” الصور الناجحة هي التي تأتي من تحويل المعاني المجردة إلى هيئات وأشكال تنتقل بالحواس”(40).
ويصل (ريتشاردز) إلى نتيجة بغاية الأهمية،وهي أن حداثوية المحسوس والمجرد تتبدى في هيكية النص،وبكارته الأسلوبية؛وبما أن اتجاهات الحداثة متنوعة،من تجسيد إلى تجريد، ومن سرد إلى وصف، ومن غنائي إلى درامي،ومن واقعي إلى خيالي، أو العكس، فإن المنظورات الحداثوية متغايرة كذلك،تبعاً للذات المبدعة،ومدى تمثيلها للموقف الشعري لغة، وأسلوباً، وأداة، يقول ريتشاردز:” إن ما يسعى إليه أي خطاب هو أن يجعلنا نستوعب ونفهم،وأن نمتلك إحساساً مدركاً بأي شيء يمكن أن يكون هو المعنى،وقد لا يكون- بالضرورة- شيئاً ملموساً،ولكن عندما نقول: إحساس مدرك فينبغي أن نفهم أن هذا ليس أي إحساس – بالضرورة- كالذي يقدمه الإدراك الحسي،ولكن قد يكون شعوراً أو فكراً. المهم في هذا أننا يجب أن نستوعب حقاً وندرك تماماً الشيء أياً كان”(41).
ووفق هذا المنظور،ينقلنا(ريتشاردز) إلى ما هو أعمق من منظوره الحسي/ المجرد؛ إلى منظور الجمع بين المتناقضات، فالحسي لا يبرز إلا إزاء وضعه أمام المجرد،ولا تقوى بلاغة الحسي إلا بقرينة المجرد،يقول( ريتشاردز):” إن غاية ما يطمح إليه الشعر هو أن يجمع بين شيئين متباعدين في خصائصهما، وصفاتهما إلى أبعد حد، أو أن يجمع بينهما بأي طريقة كانت على نحو فجائي،ومثير للدهشة”(42).
ويرى (ريتشاردز) أن التفاعل الجمالي الخلاق في الصورة الاستعارية لا يتم إلا بالجمع بين النقيضين؛ ويرى أن المطابقة بين( الحامل/ والمحمول) في المساق الاستعاري يفقد الاستعارة جاذبيتها ومكمن غرابتها، ودهشتها قائلاً:- إن الحديث عن المطابقة، أو الاندماج الذي تحققه الاستعارة غالباً ما يكون مضللاً وضاراً. وبشكل عام، فإن الاستعارات التي يكون فيها التباين ولاختلاف بين الحامل والمحمول بالغ التأثير،كما هي الحال في التشابهات قليلة جداً… غير أن التحوير المتميز الذي يصيب المحمول،ويحققه الحامل، إنما هو في الغالب متأتٍ بفعل الاختلافات أكثر من التشابهات”(43).
وبهذا،لا تحقق الصورة فنيتها-من منظور (ريتشاردز)- إلا حين تؤكد تفاعلها في الإطارين المجرد والمحسوس؛وتأسيساً على هذا التفاعل الخلاق، تتأكد أهمية الصورة،وتخلق تجسيدها الفني،وهذا ما ذهب إليه (ريتشاردز) قائلاً :” إن الحامل ليس مجرد زخرف للمحمول،وما كان له أن يتغير بواسطته،وإنما تعاون كل من الحامل والمحمول يعطي معنىً ذا قوى متعددة،ولا يمكن أن ينسب إلى أي منهما منفصلين”(44).
وهذا الطرح الحداثوي في العلاقة التفاعلية بين كلا الطرفين( الحامل- والمحمول) يزيد أواصر الصورة، ويؤكد عمق الاستعارة؛ وهكذا، تأتي أهمية أطروحات(ريتشاردز) الحداثوية في تجذير نظريته التفاعلية في مؤلفه المهم:( فلسفة البلاغة): بين( المحسوس/ والمجرد)،مولياً( الاستعارة) أهمية قصوى بمنظور مغاير لما هو سائد في النظريات البلاغية القديمة،وبمنظوره:( يقتضي عمل الحامل والمحمول وتفاعلهما وجود معانٍ ذات قوى متعددة؛ تشكل الاستعارة وتكونها،لذلك، يلح على اجتماع هذين الطرفين من دون فصل أحدهما عن الآخر،لإقامة علاقات متعددة، ومخصوصة قد تكون مباشرة،وقد تكون غير مباشرة. ويشترط(ريتشاردز) في تحليل الموقف المشترك بين طرفي الاستعارة عدم الانحصار في العلاقة التقليدية المألوفة لدى جل البلاغيين، والمتمثلة في علاقة المشابهة. إنه يناقش العلاقات المفترضة بين طرفي الاستعارة،ولا يراهن على علاقة وحيدة خاصة؛ أن مفهوم الاستعارة- لديه- ينفتح على تعدد المعاني،ويأخذ بعين الاعتبار الجوانب السياقية والشعورية المكونة للقول الشعري”(45).
وبذلك، جاءت رؤيته للعلاقة بين ثنائية:( المحسوس/ المجرد)؛وفق نظريته التفاعلية القائمة على بنية التفاعل بين( الحامل/ والمحمول) صائبة في الوصول إلى رؤية جديدة لمقتضى العلاقة بين( اللفظ/ والمعنى)،و( الفصاحة/ والبلاغة)،و(المجرد/ المحسوس)،و( الواقع/ الخيال)؛ وهذه القضايا التي طرحها فتحت أذهان ناقدينا ومبدعينا إلى حقائق كثيرة مهمة من ضمنها:
1- التأكيد على ضرورة التفاعل بين طرفي الصورة،لتحقيق إثارتها،ووقعها الجمالي.
2- التأكيد على النظرة الشمولية للعمل الفني، أي على الوحدة الكلية للفن؛ بمعنى: أنه لا قيمة للمحسوس بغياب المجرد، أو بمنأى عنه، ولا قيمة للمجرد بغياب المحسوس، أو النأي عنه، لأن الفن- ومن ضمنه الشعر- عبارة عن أجزاء حية تحركها روح واحدة؛ هذه الأجزاء الحية هي الكلمة، والقوافي، والصور، أما الروح فهي الحياة التي تظهرها هذه الأجزاء الحية عندما تعمل مع بعضها بعضاً. إنه من المستحيل تماماً أن نحدد من الذي يأتي أولاً في هذه العملية التكاملية،الأجزاء الحية أم الروح”(46).
3- أكد ريتشاردز الفرضية الجوهرية القائلة:”إن الأشكال عندما ترتبط بالقيم يتطور الجانب غير الحسي؛ وتصبح هناك معانٍ ضمنية غير مرئية يعبر عنها شكل ما في ثقافة ما، في حين أن الشكل نفسه قد لا يعكس المعنى نفسه في ثقافة أخرى؛ومن خلال المعاني ذات المستويات المختلفة(قوية- متوسطة- ضعيفة- تتشكل الهويات بمستوياتها المختلفة”(47).
4- أكد (ريتشاردز) على مسألة( التعدد الدلالي) التي تولدها الاستعارات بتفاعلها على مستويي( المحسوس/ المجرد)، إذ “تملك الاستعارة- حسب ريتشاردز- إمكان ضم عدد من التجارب والمعاني والسياقات المتعددة،بطريقة لا تتضافر بنفس الثراء في أنماط بلاغية أخرى؛إنه يعطي لها القوة،ويجعلها غير قادرة على الإيجاز؛وعلى تقديم عديد من المعاني بالقليل من الألفاظ”(48).
وخلص (ريتشاردز) إلى مقولة مهمة تمثل ركيزة فهمه ووعيه للاستعارة المتفاعلة التي تخلق موازاتها بين( المحسوس/ المجرد) ،وتخلق جوهر الاستعارة، ومكمن ثقلها قائلاً:(إن العناصر اللازمة لاكتمال التجربة لا تكون دائماً موجودة على نحو طبيعي؛ولذلك، فإن الاستعارة تحقق الفرصة لإدخال هذه العناصر خلسة”(49).
وبتقديرنا: إن الأثر الذي خلفته نظريته( الحامل/ والمحمول) في الاستعارة كان له أبلغ الأثر في انعكاس هذه الجدلية على الصورة الاستعارية، فيما يخص إشكالية العلاقة بين( المحسوس/ المجرد)؛وتطورت هذه الرؤية- لديه- حتى صارت الاستعارة الممر للوصول إلى أرقى المعاني والمجازات؛ إذ يقول:” الاستعارة هي الوسيلة اللغوية العظمى التي يجمع الذهن بواسطتها في الشعر أشياء مختلفات لم توحد بينها علاقة من قبل”(50).
والملاحظ أن الإفرازات المعرفية لنظريته البلاغية هذه قد كان لها أبلغ الأثر في توجه مبدعينا إلى الصور الحسية؛ فهاهو الشاعر السوري فؤاد كحل يؤكد ذلك قائلاً:”الصورة أساسية في بناء الشعر على أن تكون جزءاً من تكوين الصورة الكلية للقصيدة،والتي – بدورها- توحي بتصور شامل للحالة الإبداعية التي انبجست عنها القصيدة وإلا فقد تكون أقرب للمجانية. وأنا أميل إلى الصور الحسية،وأحاول الابتعاد عن الصور التجريدية الذهنية الباردة”(51).
إن تفضيل الشاعر فؤاد كحل الصورة الحسية على الصورة المجردة؛ ينطلق من فهمه وإدراكه العميق لحقيقة الإثارة والتأثير التي تخلقها الصور الحسية؛ فالصورة الحسية بوصفها الصورة القريبة من مدارك المتلقي، ومستوى حساسيته، لهي أشد التصاقاً، وقرباً من مشاعره، وأحاسيسه، وتفاعلاته الداخلية مع الصورة، لتلقيها جمالياً،وهذا يعطيها قوة، وثباتاً، ورسوخاً أكثر مما سواها خاصة الصور الذهنية المجردة؛وتبعاً لهذا، تتحدد- حسب الشاعر نذير العظمة- مهارة الشاعر ومقدرته على” أن يترجم اليومي إلى كوني، والعادي إلى شعري،والصدفة إلى مفاجأة”(52). وسرعان ما اتجه الكثير من شعرائنا إلى نشوة التلاعب بالصور الحسية،كالصورة البصرية،والصورة اللمسية، والصورة الفوتوغرافية، رغبة في تمثيل البعد الشعوري للصورة بواقعها الحسي- العياني المباشر، وانعكاسها الشعوري على درجة تفعيلها وتلقيها؛وهذا ما جعل القارئ ذائباً في الوجود المرئي للنص، حسب الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق، إذ يقول:” إن القارئ ذائب في الوجود المرئي للنص، مشتبك معه وغارق فيه. وهو حين يبتعد عن جسد النص فإنه يعاود الالتحام به من جديد؛وكأن ثمة غارات متتابعة تشن على النص، لمساءلة كيانه الحسي،وتفتيت وحداته، والتحليق بأبنيته، وفجواته وهوامشه”(53).
وبتقديرنا: إن أكثر شعراء الحداثة الذين سيطرت على قصائدهم الصورة الحسية على المجردة،لدرجة ميزته عما سواه من الشعراء ،شاعرنا السوري الكبير نزار قباني، الذي لم يدع لوناً استعارياً،ولا صورة حسية مرئية(شمية/ أو بصرية)(لمسية/أو ذوقية) إلا وجسدها بجمالية آسرة؛متحاشياً فيها عن الصور التقليدية المستهلكة،مؤكداً جسارة أدواته التصويرية، وخصوبة طاقتها الإيحائية.
ولعل توجه الكثير من شعرائنا ونقادنا إلى تغليبهم الصور الحسية على المجردة دفعهم إلى العناية بالشكل البصري لتوزيع الكلمات على بياض الصفحة الشعرية، برغبة نابعة من تجسيد الصورة بصرياً، وهندسياً بشكلها المتلاشي أو المفتت على الفضاء الكاليغرافي الذي تخطه على بياض الصفحة الشعرية؛وهذا ما أشار إليه أدونيس،قائلاً:” الأسهم… الحروف.. المفردة… هذه كلها امتدادات للكلمات، أو كلمات من نوع آخر، أو ترسيمات تعطي للكلمات بعض أبعادها الحسية حيناً،وتشير إلى مدلولات نفسية حيناً آخر؛ إلى مالا تقدر الكلمة أن تستوعبه أو تعكسه. وهذا ما يمكن أن يقال -أيضاً- عن الفراغات في الصفحة. حتى نسق الأسطر يلعب دوره في هذا المجال، كذلك… فإن لاستخدام بعض الحروف قيمة صوتية لا تتوافر في كلمة أو كلمتين. وفيها أيضاً استدعاء سحري،ومثير تولده خصائص الحروف؛ وفي هذا كله،ما يساعد على ترسيخ البنية الكتابية بالمعنى الحديث، مقابل البنية الشفوية للنص،وهي البنية الموروثة التي لا تزال بشكل عام سائدة”(54).
وهذا التوجه الذي لازم الكثير من النقاد والشعراء كان منزعه إطار فهمهم لجدلية العلاقة بين(المحسوس/ المجرد) في التشكيل الشعري على مستوى الاستعارات والتشبيهات؛ولهذا كان ميلهم إلى الاستعارة- لأنها تفاعل إيحائي أو تمثيلي بين المحسوس المجرد أكثر من ميلهم إلى التشبيه الذي يعتمد ركيزته إحدى الطرفين،يقول الناقد جابر عصفور في هذا الصدد:”إن النقد المعاصر أميل ما يكون إلى تفضيل الاستعارة على التشبيه،من حيث القيمة الفنية؛ وذلك لما يتحقق في الاستعارة من تفاعل، وتداخل في الدلالة على نحو لا يحدث بنفس الثراء في التشبيه،ولما يظهر من قدرة الاستعارة على إدخال عدد كبير من العناصر المتنوعة داخل نسيج التجربة الشعرية””(55). 
وعلى هذا الأساس،تستند رؤى الكثير من النقاد والشعراء إلى منظورات جدلية بالارتكاز على مبدأ التفاضل أو التفاعل بين( المحسوس/ والمجرد)و( الواقعي/ الخيالي)و(الغريب/ المألوف)،و(الدال/ والمدلول)و(الحامل/ والمحمول)لإيصال المعنى بمؤثرات استعارية تجسيدية فاعلة تؤكد درجة وعيهم،ومستوى فهمهم العميق للصورة التفاعلية التي تتجذر على رؤية حداثوية جدلية فاعلة، تلتقط من المؤثرات والرؤى ما يجعلها طاقة تخييلية فنية عالية تملك مستواها التفاعلي الإيحائي الأخاذ من المحايثة، والتجسيد، والتأطير الحسي البصري المركز. 
لكن ما يمكن أن نلحظه في هذه الإشكالية من ملحوظات نستطيع أن نوجزها فيما يلي:
1- إن تجذير العملية الإبداعية على ما هو محسوس دوماً، يفقدها جاذبية المردود الفني للصورة؛ بجعلها أي الصورة تتزيا في نمط واحد تقريباً؛وهذا ما يأسر الشاعر في أسلوب ممنهج أو مقنن خاص لا يتعداه،والعملية الإبداعية أكبر من أن تقاس أو تقعَّد في شكل ما، ورؤية محددة.
2- إن الشكل الجمالي الممتع هو الجسد الحداثوي للنص الإبداعي، سواء أكان النص شعراً أم نثراً؟!! فإن ما يمنح النص جسده الإبداعي المميز هو طريقة التعبير،وخصوصية الأداة في تمييز النص الشعري، عما سواه من الأجناس الأدبية، ولا يرقى المنتج الشعري،وتسمو شاعريته إلا بطريقة توليف المحسوسات والمجردات بقالب جمالي، تضيع فيه الحدود الفاصلة بين ما هو حسي وما هو مجرد،ليبدو ما هو مجرد جذراً صلباً للمحسوس،وما هو محسوس جذراً صلباً للمجرد، بإيقاع جمالي جذاب ومثير فنياً؛ ولذلك، فالمعادلة الإبداعية في كل نص شعري أصيل هي معادلة التفاعل، والتركيز، والتلاحم التضافري الدائم بين المحسوس والمجرد،وما اعتماد أحدهما دون الآخر إلا قتل لشعرية الآخر،ومكمن جاذبيته الفنية.
3- إن الآثار السلبية التي ولدها الاختلاف أو الاحتدام السجالي الحاد بين ما هو حسي،وما هو مجرد في التشكيل الشعري قد حجب مسارات الكثير من النقاد والمبدعين في كتاباتهم الإبداعية،الأمر الذي دفعهم للانجراف الكاسح وراء الشكل على حساب المضمون، أو المضمون على حساب الشكل، لدرجة تم تغليب الإيديولوجيات النصية على شكل الصورة،فأصبحت النصوص الشعرية مثلاً كتلة إيديولوجيات، ورؤى مشبعة بالاستطالات الرؤيوية التي لا طائل منها،ومن ثم أصبح الأدب منظومة قيم، وأيديولوجيات، تجر القارئ إلى متاهة الأنظمة ونواميسها الجافة الصارمة التي تقتل نبض الشعر، وروح الشعرية.
ثالثاً- إشكالية( الواقعي/ الخيالي):
تكاد تتفق معظم آراء النقاد والمبدعين على حقيقة راسخة مفادها: أن الأدب الواقعي هو أكثر قرباً للمتلقي وملامسة لدواخله من الأدب الخيالي؛ وفي الواقع أن هذا الاتفاق مشروط بمدى فهم النقاد والشعراء أنفسهم للأدب الواقعي؛ فالأدب الواقعي – من منظور الكثيرين- هو الذي يلتقط الواقع بتفاصيله الجزئية دون أن يتعداه إلى ما سواه؛ وهذا مكمن الخطأ والخلاف الحاد بيننا وبينهم؛ فالأدب الواقعي ليس الأدب التوثيقي، أو الأدب الفوتوغرافي الذي ينقل الصور،ويوثق الأحداث؛ إن هذا الأدب الذي ينقل الواقع بحيثياته، وتفاصيله الجزئية الصغيرة ليس أدباً على الإطلاق؛وإنما الأدب الواقعي هو الذي يملك حساسية الواقع،وينأى عنه،هو الأدب الذي يتجاوز برؤيته الواقع ويتعداه إلى ما سواه،سواء أكان ذلك في طريقة التعبير، أم في الرؤيا، وملامسة الأشياء،وهذا المنزع الحداثوي الفذ أول من نادى به أدونيس قائلاً:” لا يكون الشعر واقعياً حين يلتقط الواقع كما هو. كذلك لا يكون واقعياً بمجرد الالتقاط للواقع في حركته. ذلك أن حركة الشعر،من حيث أنه بداية،تتفجر وتنمو في الأبعد. كذلك الشأن في حركة الواقع؛ فهو في جوهره،تغير،وهي بذلك تتفجر،وتنمو في الأبعد.. الشعر يسير في هذا الأبعد أمام الواقع،كما هو.. أعني،في تغير،يرتبط عضوياً بهاجس المستقبل، أي بخلق المستقبل. والذين يطالبون الشاعر بأن يفهم الواقع بشكله المعطى المباشر؛ وأن يصدر في شعره عن هذا الفهم لا يريدون منه شعراً، وإنما يريدون منه صيغة كلامية- وسيلة؛ لها هيئة الشعر؛ يريدون عملياً تجميد الواقع لا تفجيره،يريدون الدخول في أنفاقه لا آفاقه”(56).
إن هذا الطرح الأدونيسي الدقيق في فهم المنظور الواقعي للشعر لدليل على أن الإبداع لا يقوم على إعلاء شأن الواقع كمادة خام، أو كصورة فوتوغرافية ساكنة،وإنما على تجسيد الواقع المتحرك بمنظار حيوي دافق، يمس الواقع،دون أن يلامسه،وهنا،وقف أدونيس على حقيقة مهمة مؤداها:” أن الشعر جزء لا يتجزأ من الواقع،لكنه لا يحيا به؛ بل بالصورة التي يكونها عنه. الشاعر يصهر الواقع في حساسيته و رؤياه.. يحوله إلى إيقاع.. يعيد كل شيء إلى فرادته الخاصة فيما يصل كل شيء بكل شيء”(57).
ووفق هذا المقتضى، فإن أدونيس يفهم طبيعة إحالية الشعر إلى الواقع؛ومن ثم كيفية خلق تميزه وفرادته؛ فالشعر لا يكون واقعياً حين يلتقط الواقع،ويمس قضاياه، بمنظومته الواقعية،وإنما هو الذي يتفرد عنه حتى وإن حايثه بشكل ما، أو جانب معين،وهنا يصلنا المنظور الأدونيسي إلى مفترق طرق بإحساس معرفي يملك مرجعيته قائلاً:” الشاعر يرى من الواقع بعده الداخلي لا الظاهري؛ وهكذا يجرده من تفككه وفوضاه بحيث يبدو كأنه لا يعود موجوداً إلا بداخله المضيء بإيقاعه، وشفافيته. الشاعر،بكلام آخر، يخلخل مظاهر الواقع،ويشيع فيه الحلم والخيال؛ لكي يولد منه واقعاً آخر؛ أكثر غنىً وإنسانية؛ وهو ،إذاً، لا ينفصل،بل يستحيل أن ينفصل عن الواقع،وإنما يرفض شكلاً من أشكاله”(58).
ويصل بنا( أدونيس)- وفق هذا المنظور- إلى مفهوم تأسيسي جوهري لما هو واقعي،وما هو غير واقعي، فيما يسمى ب( التفاعلية الواقعية) قائلاً:” الشاعر لا يتصل بالواقع كمادة، أو كتلة،بل بصورة يكونها عنه؛ ومن هذه الزاوية يصح القول: حتى الشعر(غير الواقعي) يستمد مادته أو بعضها من الواقع”(59).
وهنا، يشير أدونيس باقتضاب إلى شعرية الواقع، أو تشعير الواقع، وهو امتلاك الشاعر لحساسية رؤيوية عميقة، تسهم في تمثيل الواقع ومحايثته محايثة فاعلة ليس ككتلة،وإنما كصورة ملتقطة تمس الواقع، أو جزءاً منه؛وتبعاً لذلك، فالشاعر الواقعي،بمنظوره،” هو كيميائي الواقع،يصهره في بوتقة حساسيته ورؤياه… يحوله إلى إيقاع، مانحاً كل شيء فيه فرادة خاصة،يصل كل شيء بكل شيء،ويأتي واقع القصيدة أكثر بهاءً، وتناسقاً، وعمقاً، وديمومة من أصلها الواقعي، فالقصيدة لا تحاكي الواقع،وإنما تجانسه”(60).
وبهذا المنظور الدقيق يقربنا أدونيس من جادة الحقيقة والصواب؛ إذ يرى أن الواقع ليس في تصوير الأحداث،وتجسيد الأشياء بمنظارها الحقيقي، وإدراكها المباشر؛ وإنما في محايثة الواقع،ومسه مساً طفيفاً؛ تبعاً لمخيلته الشعرية التي تقارب الواقع، دون أن تجسده بعين الرؤية الحسية المباشرة؛ وما الواقع شعرياً في النص إلا الواقع الذي تفرضه مخيلة الشاعر، وتضفي عليه من لمساتها ما تضفي عليه سحراً جديداً،وحلة إبداعية جديدة؛ وبهذا الإدراك المعرفي يحيل أدونيس القارئ إلى حقيقة مهمة مؤداها”أن الكتابة الشعرية سواء حايثت الواقع، أو تجردت عنه لا تحقق ذاتها ووجودها بمنأى عن جوهر إبداعها الذي يربطها بشكل ما بأشكال الواقع المصاحب لإبداعها.. إذا كانت الكتابة الشعرية تغييراً أو تحويلاً للواقع فإن هذا يفترض أمرين: الأول هو أن هذه الكتابة ترفض الواقع السائد، أو بعبارة أكثر دقة،تنشأ رفضاً له. والثاني هو أن أشكال تعبيرها تتعارض،بالضرورة،مع الأشكال التعبيرية المطابقة له. ذلك أن رفض(محتوى الواقع) يقتضي رفضاً بشكله، أي لطرق إنتاجه”(61).
وتأكيداً على هذا المنظور؛ يرى أدونيس أن الشاعر لا يكون واقعياً بمجرد تصويره للواقع ومحايثته،وإنما بمقدار تحريكه لهذا الواقع،وجعله ينبض برؤية جديدة، وحساسية رؤيوية متجددة؛ فالواقع ليس شكلاً(فوتوغرافياً) أو مشهداً استاتيكياً، بل نبضاً، ورؤية، وحساسية إبداعية؛ فالشاعر الذي لا يملك هذه الحساسية ليس واقعياً،وإن مثَّل شعره الواقع بحذافيره وأبعاده المرئية؛ ولهذا؛ فإن” الكتابة الشعرية – وفق المنظور الأدونيسي- لا تصور الواقع،وإنما تفككه، أو تهدمه من أجل تحويله، ثورياً، فما تقوم به خصوصية العمل الشعري يسير في توازٍ، مع ما تقوم به خصوصية العمل السياسي،في توازٍ لا تبعية. وكما أن الممارسة السياسية لا تنهض إلا كانفصال عن الممارسات غير الثورية،فإن ممارسة الكتابة الشعرية الجديدة لاتنهض إلا كانفصال عن الممارسة التقليدية””(62).
ومجمل القول: إن أدونيس قد وضع تمييزه الواضح وميزانه الرؤيوي الدقيق في التفريق بين الكتابة الإبداعية الواقعية، بوصفها حالة متوهجة من العمق، والإيحاء، والكتابة التقليدية(الواقعية)، بوصفها حالة سكونية، مكرورة في التشكيل، والإيحاء؛ فالواقع في الكتابة التقليدية يكون ساكناً مائتاً لا محالة؛ في حين أن الواقع في الكتابة الإبداعية يكون حياً متحركاً يملك تعدديته، وثراءه الدلالي؛ ووفق هذا المنظور،لا يؤمن أدونيس بأنه ثمة حقائق ثابتة في عالم الواقع؛ إذ يقول:” بدئياً، لا تطابق بين ما نسميه الحقيقة،وما نسميه الواقع؛ الحقيقة التي يؤمن بها كل منا ليست إلا صورة جزئية من الواقع الذي لا نفاذ لصوره؛ إذاً عليَّ، إذا كنتُ واقعياً،وأؤمنُ حقاً بالواقع، أن أؤمن أن هناك حقائق أخرى تمثل صوراً أخرى منه”(63).
إن ما أراد أدونيس تأكيده أن الواقع يملك صوره المتغيرة؛ومن ثم يملك حقائقه المتغيرة كذلك؛ لأنه لا يستقر على حال،ولا ينطوي- وفق هذا المنظور- على حقائق ثابتة، وراسخة؛ ذلك أنه” في الواقع الواحد المشترك حقائق متعددة، وهذه الحقائق ليست مطلقة، وليست نهائية،وذلك أن علي، إذا كنت واقعياً، أن أؤمن بأن الواقع متحرك دائماً،وأن على الحقائق لكي تكون واقعية أن تكون هي أيضاً متحركة.. الواقع إذاً، تعددية حقائق حين لا نرى فيه إلا حقيقة واحدة نفرضها على الجميع بقوة ما أو بسلطة ما. فنحن لا نشوه الواقع والحقيقة وحدهما،وإنما نشوه كذلك الإنسان ذاته”(64).
ويرى أدونيس- في منظوره الدقيق- أن الشاعر هو الذي يكسب الواقع منظورات جديدة،ورؤى مغايرة لما ينطوي عليه من قرائن مشهدية مرئية بصرية؛ فالواقع الفوتوغرافي المرئي لا قيمة له كشكل أو كماهية حسية،ما يهب الواقع خصوصيته الإبداعية شعرية الرؤيا،وعمق المنظور؛ والتساؤلات التي يفجرها إحساسنا بالواقع،وتفاعلنا معه في حدود الإمكان، والتصور، والإحساس؛ وهكذا ؛”يدفعنا الشعر-وفق المنظور الأدونيسي- إلى التساؤلات، والتخيلات التي يولدها فينا إلى رفض كل ما يأسر الإنسان والواقع،يدفعنا إلى تجاوز حدودنا، إلى أن نفجر دائماً أشكال جديدة لرؤية الإنسان،ورؤية الواقع، وما يقوله الشعر؛وهو مكان دائم لسؤال يقود إلى مزيد من الأسئلة،تسمي مالا اسم له،لكنها لا تبلغ أبداً ما تتجه أو ما تشير إليه”(65).
واستناداً إلى ما تقدم،يمكن القول: إن المنظور الأدونيسي- وفق هذه الإشكالية- يتجه إلى تقرير جملة من المفرزات المعرفية نلخصها فيما يلي:
1- رفض أدونيس الواقع بمنظاره السكوني الجامد المحدود الذي يقيد حرية المبدع ،وحدود انفتاحه الرؤيوي.
2- رفض أدونيس الواقع السطحي المباشر الذي ألزمه به القارئ،بحجة أن التجريد عن الواقع يؤدي إلى غموض الرؤيا،وعدم تمثلها بشكلها الصحيح في النص الشعري؛ أي رفض أدونيس الواقع المقنن الذي فرض حدوده القارئ، وأطَّره بشكل مسبق؛وهذا يتنافى مع روح وعيه وإحساسه الإبداعي.
3- إن الواقع الذي ركز عليه أدونيس بميزانه النقدي هو الواقع المتحرك الذي يتغير وتتغير معه الرؤى والمنظورات؛ أي الواقع الشعري؛ ذلك الواقع المتحول(المتغير) الذي لا يركن،ويبقى في حركة دائبة وحراك مستمر؛ في حين رفض( أدونيس) الواقع السكوني الجامد(المتحجر) أي الواقع الفوتوغرافي، هذا الواقع الذي يجعل الفعل الإبداعي رهين نسج وتقليد فوتوغرافي أعمى لمشاهد الواقع وجزئياته الساكنة.
وبتقديرنا: إن الإفرازات الرؤيوية والمعرفية التي أدلى بها أدونيس أثرت المنظورات النقدية المعاصرة حول هذه الإشكالية،وفتقت الكثير من مغاليقها؛ونخلص إلى حقيقة مهمة مؤداها: أن الكثير من نقادنا لم يعوا حقيقة التفريق بين ما هو واقعي أو وقائعي؛ فالتخييل عنصر بارز في تشكيل ما هو واقعي،والواقعي عنصر بارز في إغناء ما هو تخييلي، أو متخيل، ولهذا، فإن الواقع الذي تشكله النصوص الإبداعية ليس بالضرورة أن يكون واقعاً مرئياً مباشراً وقاصراً عن حدوده الفيزيائية وأبعاده الميتافيزيقية،وإنما من الضرورة أن يكون واقعاً شعرياً نتحثث من خلاله رؤانا،ومعارفنا الوجودية؛ وهذا يعني أن غنى الفضاء النصي لأي نص إبداعي لا يكون بواقعية المنتج الفني أياً كان مستواه وخاصيته،وإنما في خصوبة الرؤى الشعرية في تجسيد الأمكنة، وتحريكها بفضاء تخييلي ممتع؛وكأنها من ملامسات الطبيعة أو الأمكنة الحية المرئية بمجساتها البصرية؛ولهذا لا غنى للواقعي عن المتخيل ولا غنى للمتخيل عن الواقعي في تكامل الرؤية الشعرية؛ ولهذا ، فإن غنى النص- من منظور سامي أدهم-“لا يكون في الامتلاء بالعقلانية، والتقريرية،بل في الفراغات اللامتناهية التي تمثل بؤء ماء عطش الناقد.. فالناقد لا يبحث عما هو بنيوي عقلاني مشيد في النص؛ لأن هذه البنى لا تستثمر ولا فائدة منها كالأبراج العالية، القلاع الصامدة،والقصور الأثرية. النص – في ديناميته- هو بحث في الكاوس،والناقد الفذ هو الذي يبحث في هذا الكوس،ويظهره من داخل النص،ويطلعنا على خصائصه وصفاته”(66).
فالبحث عما هو واقعي في النص- هو حجب مردود النص الفني؛ الواقعي في الفن هي مدى تجاوز هذا الفن لواقعه،وليس تجسيد هذا الواقع بسكونيته؛وثمة فرق واضح بين الإحساس بالواقع كحيز إبداعي لتشكيل نص شعري جمالي،وبين الواقع كإطار مكاني فيزيائي مقيس؛ فالفن ينأى أن يكون فناً إذا غدا آلة ناسخة؛وما أصالة الفن بواقعيته،وإنما بلمساته التي تضفي على الواقع طابعاً حياً؛ولهذا، انصبت رؤى الكثير من مبدعينا على تجاوز الواقع المادي إلى الواقع المثال، إلى الواقع المتخيل؛ فالواقع المتخيل هو الواقع الشعري الذي يتجاوز حدود المألوف إلى فضاء اللامألوف؛فما نراه في القصص الواقعية أو القصائد الواقعية ليس الواقع المرئي الذي نلمسه ونعيه،وإنما الواقع الذي يسكن في أعماق أعماقنا منذ الأزل؛ ولهذا؛ فإن الحداثة ليست في جدلية الشيء أو عصرنته،وإنما في جدلية منظوراتنا إلى الشيء، ومستوى إحساسنا الجمالي به، وبهذا المدلول المحايث يقول نذير العظمة:” الحداثة تنبع من الإنسان الحديث،ولا حداثة بلا إنسان حديث؛ولاسيما في هذه المنطقة”(67).
وما يقصده العظمة بالإنسان الحديث الإنسان الذي يتجاوز حدود محيطه وواقعه المعيش وعاداته وتقاليده البالية لينفتح على آفاق مستقبلية، يعي من خلالها الوجود وحقيقة الإبداع؛وهذا ما دفعه إلى تأكيد مقولته البارزة” أعذب الشعر ما اتصل بنبض الإنسان وقضاياه وآفاقه المستقبلية، وعلاقته بجذوره، وتجربته الإبداعية الإنسانية المستمدة من المعاناة الواقعية والثقافية”(68).
وتبعاً لهذا الإحساس، يرى العظمة أن الشعر الحقيقي هو الذي يستمد نسغه من المعاناة التي ترفدها معطيات الواقع؛ولا ينشأ الإبداع من فراغ، بل نتيجة معاناة، وقلق، وانفتاح رؤيوي واحتدام شعوري،يقول العظمة” الشاعر الحقيقي هو الذي ينطلق من نبض الحاضر،ومن جذوره،ويستوعب آفاق الماضي والمستقبل”(69).
وبمنظور العظمة فإن الشاعر المبدع الحداثي هو الذي يحدِّث الواقع،وينظر إليه بعين مستقبلية حداثوية متطورة، ومتجددة على الدوام؛وهذا يعني أن حداثوية الشعر تكمن في نظرته المتجددة، وآفاقه الرؤيوية المستقبلية؛وهذا ما ينطبق على حداثة الواقع، وآفاقه الرؤيوية الخصبة،وبهذا المقترب الرؤيوي تقول الشاعرة المبدعة بشرى البستاني في تعريفها للشعر الحقيقي:” الشعر الحقيقي هو الشعر الذي يستمد مرجعياته من منابع الحياة الأصيلة؛ومادامت الحياة بالغة الغنى والثراء فإن ما يعبر عنها من فنون حقة لابد أن يكون ناهضاً بمهماته التي قدر لها أن تكون من الخطورة بحيث تكتنز جوهر الحياة، ونبض إنسانها، وحيوية فعلها، ومعاناة ناسها ومجاهدة مضطديها،وهذا لن يكون إلا بصدق الفنان في معايشة كل ما من حوله”(70).
وهذا بالتأكيد يدلل على مسألة مهمة هي أن غنى الواقع لا يتحدد إلا بغنى المخيلة الإبداعية القادرة على تحديثه،والرقي به إلى ملامسة الواقع الفني،هذا الواقع هو الواقع الشعري الذي يرقى في العمل الفني الأصيل،وترقى حساسية إثارته، وإدراكه، وحراكه الفني؛ وبهذا المقترب نستطيع القول: إن حداثوية القصيدة لا تتحدد بواقعيتها أو تجريدها،ونأيها عن الواقع،وإنما تتحدد برشاقة الرؤيا،ومضاعفتها الإيحائية،عبر ملامسة الواقع الجمالي الذي يرقى به الشاعر،وترقى درجته في المنتج الفني،انفتاحاً، واكتنازاً رؤيوياً خصيباً؛ وهذا يقودنا إلى حقيقة مؤكدة مؤداها: أن النص الواقعي فنياً هو النص الذي يتجاوز حدود الواقع وأطره إلى واقع جمالي متخيل،يحايث الواقع حسياً،وينأى عنه روحياً أو إحساساً جمالياً؛ وبهذا المعنى نقول:إن النص الحداثوي لا يحقق ثمرته الإبداعية إلا بالمجاذبة النشطة التي نستدل من خلالها عن نشاط النص، ومردوده الفني، وتأثيره ومستثيراته النصية المستقاة من ماء النص، ورحيقه الإبداعي؛سواء أجسدَّ الواقع أو شاكله، أم نأى عنه وتجرد إلى ما هو خيالي؛ فالفن لا يكون فناً أصيلاً بمعزل عن خصوبة مردوده الإبداعي،ويناعة ثمرته المستقاة من الواقع،و تعدد ورافد ينابيعه الإبداعية على الدوام.
رابعاً- إشكالية( الغموض/ والوضوح):
ولعل أولى الملاحظات التي نوليها عنايتنا في حدود هذه الإشكالية هي الجدل الحاد الدائر بين الكم الغفير من نقادنا ومبدعينا حول هذه المسالة؟!! من خلال طرح التساؤلات التالية؟!
1- متى يكون الغموض من مقتضيات الكتابة الإبداعية ومتطلباتها التي لا تحيد عنها؟!! ومتى يكون الغموض بلسماً ناجعاً للنص؟!! ومتى يكون سماً قاتلاً لحيوية وإمتاع النص؟!!.
2- ومتى يكون الوضوح من مقتضيات النص،وضرورة ملحة من ضروراته الإبداعية؟ ومتى يكون خارج دائرة النص، وحيز شعريته؟.
إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تضعنا في صلب دائرة الاحتدام؛ فمنهم من طالب المبدع بأن تكون كتابته الإبداعية متخفية خلف جدار سميك من التلغيز،والغطاء السميك، والإبهام بحجة أن النص ينبغي ألا يفصح بكل شيء دفعة واحدة؛والوضوح يقتل الفن ويغتال حافز الإبداع؛ومنهم طالب المبدع بأن تكون كتابته الإبداعية واضحة تسطع بدلالاتها، ورؤاها، ومغزاها،لئلا تضلل القارئ،وتصرفه عن محكها الرؤيوي،ومركز تدفقها الإيحائي الدقيق، ومن ثم يفقد النص هدفه الإبداعي،وتضيع إثر ذلك مقصدية النص،وحدود انفتاحه على الشريحة العظمى من جمهرة المتلقين.وثمة طرف ثالث معتدل طالب المبدع بأن تكون كتابته الإبداعية ليست بالتلغيزية التي تصل حد الإبهام والإعجاز والتعقيد الرؤيوي أي حد الأحاجي والمعضلات المستعصية،وليست بالسطحية الساذجة التي تكون عرضة لكل من هبَّ ودب من القراء، الذين لا يملكون أدنى خبرة معرفية،ولا اطلاع واسع في كشف مسارب النص، ومنعرجاته الفنية.
والحق يقال: إن أكثر نقادنا ومبدعينا كانوا معتدلين في هذه المسألة،لدرجة أن العديد منهم ذهبوا إلى أن الحداثة ليست في الغموض التام المضلل المعمي،وليست في الوضوح التام والسذاجة الرؤيوية التي تصل حد البساطة والسذاجة الدلالية،وإنما بالغموض الشفيف الذي يمتلك حيزاً من الإمتاع والمتعة إثر إشعاع النص بمعانٍ ودلالات لا حصر لها تشف شيئاً فشيئاً، عن مساربها كلما تغور القارئ في ثناياها،وأمعن في تفاصيلها الجزئية،وأفضل ما يوضح لنا هذه المسألة بمنظارها الفني الدقيق الناقد أدونيس الذي يرى” أن الشاعر ليس شاعراً إلا بشرط أولي: يرى ما لا يراه غيره، أي يكتشف ويستبق. فهناك تفاوت طبيعي على المستوى الفني الداخلي،وعلى مستوى التعبير،بينه وبين القارئ،لكن هذا التفاوت لا يعني انغلاق كل منهما على الآخر، واستحالة التفاهم فيما بينهما،وإنما يعني عدم التطابق بينهما، فاختلافهما نوع من الائتلاف يقتضي القارئ أن يكون هو الآخر- خلاقاً شاعراً آخر.. إن من يحارب الشعر الحقيقي باسم الغموض مثلاً يحارب الأعماق، من أجل أن يبقى على السطح، ويحارب البحر من أجل أن يبقى في الساقية،ويحارب الغابة والرعد والمطر من أجل أن يبقى في الهواء”(71).
وبهذه العناية الفائقة التي أولاها أدونيس لهذه المسألة نراه يشدد على مسألة بغاية الأهمية،وهي أن الغموض المتعلق بخاصية الإبداع،فإذا جاء الإبداع في حلة غامضة فلا ضير في ذلك ما دام قد حقق سمته الإبداعية وخاصيته الشعرية؟!! فالمسألة – من منظور أدونيس- مسألة إبداع،وليست مسألة غموض، أو وضوح بالمعايير الدقيقة لهذه المعادلة، فمن يحارب الإبداع بحجة الغموض، فهو يحارب العمق، ليبقى على السطح،وهنا يصل أدونيس إلى مقولة جوهرية صائبة”تصوروا الإنسان أو العالم واضحاً لن يكون آنذاك أكثر من تسطيح هائل،ولن يكون فيهما مكاناً للشعر”(72).
وتبعاً لهذا الوعي المعرفي يضعنا أدونيس أمام خاصية جوهرية في الفن؛ فالفن الأصيل هو الذي يقتضي حالة من الكشف،والرغبة، والإدراك،والمعرفة، ولهذا،فإن أبرز خاصية للفن أنه يحثك على الاكتشاف، عبر اللذة التي يولدها الغموض، أو الجوهر الخفي المستكن خلف ماهية الفن،يقول أدونيس:”إن الغموض يولد السعي، والرغبة للمعرفة، والاكتشاف،ويولد متعة، ولذة، هي لذة البحث للوصول إلى المعرفة، أو الجوهر، أو اليقين. والحق ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكاً شاملاً، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة؛ ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة؛ ولذلك هو قوام الشعر. إلا أن الغموض يفقد هذه الخاصية حين يتحول إلى أحاجٍ وتعميات. ولهذا؛ فإن شرطه،لكي يظل خاصية شعرية أن يكون إشارة إلى أن القصيدة تعني أكثر مما يقوى الكلام على نقله”(73).
وكما يؤكد أدونيس على مسألة الغموض، وضرورتها في الإبداع عامة،والفن خاصة فإنه يرفض- بالدليل القاطع- الغموض المفرط الذي يؤدي إلى القصيدة- الأحجية؛ والقصيدة الأحجية لا يخرجها أدونيس من دائرة الشعر والشعرية فحسب،وإنما من دائرة الحساسية الفنية؛وهذا ما صرح به قائلاً:”إن القصيدة- الأحجية هي كل قصيدة لا تعكس شيئاً،ولا توحي شيئاً،ولا تثير انفعالاً،يمكن أن تحذف هذه القصيدة ليس من الشعر وحسب، بل من حقل الحساسية الفنية أيضاً،ومن جهة أخرى يمكن لقصيدة ما أن تكون واضحة بالمعنى العادي،لا سر فيها،ولا سيماء عمق إلا أنها-هي أيضاً- يجب أن تحذف من الشعر،لأنها لا تقدم لنا خلقاً جديداً لشيء ما، أو لمنظور ما”(74).
وتأسيساً على هذا الوعي،وتأكيداً عليه، نقول: إن جوهر الفن يكمن في الغموض الموحي الذي يشي بقيم إيحائية جمالية متعددة، تنأى عن التقليد والاستنساخ،يقول الطاهر رواينية:”في سيميائية الفن لا تشير فيه العلامة إلى شيء بعينه،حيث يصبح العمل الفني عالماً مفتوحاً تصطرع داخله الأضداد. إن هذه الخصوصية التي تدفع الفن تجعله يرفض المماثلة،ويتعالى عن الاستنساخ،تربطه بالكون من حوله علاقات غير مباشرة تتميز بطابعها العدولي المنحرف،وهو ما يضفي على الأعمال صبغة مجازية استعارية وأساطيرية تتعلق بالأسلبة، وبلاغة الاستعمال، والتوظيف الجمالي للأدوات الفنية”(75).
ووفق هذه الخصوصية،لا يعد الغموض دليلاً على الشعرية، والإبداع، والفن؛ فالغموض الذي لا يتضمن في جوهره روح الفن،ودرجة من الإبداع ليس خالقاً للفن،بل قاتلاً له، وليس محركاً لشعريته،بل خانقاً لها،وبهذا المعنى يقول فائز العراقي:”أنا مع الغموض الفني الشفاف غير المفتعل،ولست مع الغموض المستغلق الذي يتحول إلى نوع من الأحاجي والألغاز،وهذه ليست من وظائف الشعر كما أرى!!. وما يعدوه الآخرون”غموض” أعده أنا عبارة عن نص شعري غني مكتنز بالدلالة،وهذا الاكتناز والثراء يحمل في طياته إمكانية التأويل،والتعدد الدلالي؛ فالنص الفقير لا يمنحنا إمكانية التأويل هذه،لهذا،فهو نص أحادي جامد لا روح فاعلة فيه. أما النص المكتنز والمشع بالدلالات فيمنحنا قراءات متعددة، كلما قرأناه أكثر. وهذا هو مصدر غناه، وتجدده الدائم.”(76).
وبهذا المنظور الدقيق يقربنا الناقد فائز العراقي من جوهر الفن في الأعمال الفنية الراقية،كفن الشعر تحديداً، فالشعر إن لم ينطوِ على ركائز فنية مصدرها الغموض الشفيف الموحي فإن النص يفقد الكثير من غناه، ومكمن خصوبته الفنية؛ فالنص لا يتحدد بمستوى غموضه،ودرجة وضوحه فحسب؛ وإنما يتحدد بمدى شعريته،ومدى تخليقه لهذه الشعرية عبر ما يحفزه الغموض،وما يستدعيه من قراءات فاعلة، خصبة تجعل النص غنياً، ومشعاً بدلالات لا حصر لها،وهذا ما صرح به الناقد فائز العراقي قائلاً:” ليست المسألة مسألة غموض أو عدمه، إنها مسألة غنى أو فقر النص الشعري كما أرى،بهذا المعنى أرى(الغموض) ضرورياً وحاجة حيوية ملحة للنص المبدع”(77).
وبما أن خصوصية الإبداع الفني هي التي تحدد درجة شعرية الغموض وعدمه، فإن ما يجعل الغموض مفتقاً لهذه الشعرية قدرة الشاعر على تجنيد الكلمات في نسق شاعري، يفيض إيحاءً وانفتاحاً دلالياً خصباً، لدرجة تصل فيها التجربة الشعرية إلى أوجها، ألقاً، وتفتحاً إبداعياً لا متناهياً في الإثارة، والاستقطاب الجمالي؛ يقول الدكتور نذير العظمة:” القصيدة ليست وشماً في الهواء، إنها وشم ينبع من الداخل،ونأخذ شكله من دم القلب. واختلاجات النفس الشاعرة التي تشرش في اللغة، والمجتمع الغامض إذا كان طلسماً لا ينفذ؛ أما إذا كان شعراً فإنه يبحر كالسفينة في وجدان القارئ،والمفتعلون الإيهام الشعري ليأسروا القارئ كصفة أحادية هم أشبه بكهان الجاهلية الذين كانوا يفتعلون الصور الغريبة السجعات اللامعنى لها. لكن نتاجهم سقط أمام عبقرية الشعراء الأصليين،وهناك القصيدة الواضحة الغموض كما أن هناك القصيدة الغامضة الغموض لكنها قبل كل شيء قصيدة حين يخسر الشعر هوية القصيدة لا يعوضه عنها إبهام، ويرده غموض”(78).
ومن هذا المنظور، فإن تكلف الغموض- في القصيدة- يقتل شعريتها؛ومن ثم يخسر الشعر هوية القصيدة، أي القصيدة الأصيلة الحية التي تنبض من رحيق المعاناة،ووهج العاطفة،وحساسية الشعور، لا القصيدة المائتة؛ وحين يخسر الشعر هويته؛ يفقد دوره،وخصوصيته الإبداعية، ووظيفته الجمالية؛ ولهذا؛ شدد العظمة على هذا الرأي الفذ المصيب قائلاً:” متى جاء الغموض جزءاً من لحمة القصيدة وطرفاً في كيانها يساهم –دون أدنى شك- بسحر الشعر وجاذبيته،وألق المعاناة،وتمخضها يكون عندئذ أصيلاً، وجزءاً من كل، أما إذا كان مفتاحاً شعرياً يتصل بالصناعة الشعرية الآلية لا المعاناة الكيانية فهو مفتاح مكسور أو زجاج مشروخ”(79).
ثم يضرب العظمة أمثلة على فاعلية الغموض في القرآن الكريم في بعض السور القرآنية،قائلاً:”ما أحلى الغموض في الآيات البينات من السور المكية والمدنية، وما أجمله في قصيدة العربي المهاجر في رمل الدهر، والمسافر في دهر الوجود، يركز علامته في الزمن، بلغة خرجت لتوها من رحم الوجود”(80).
وتبعاً لهذا، تكتسب صفة الغموض أهميتها ليست من ذاتها،وإنما من النص الإبداعي، وسويته الفنية،ومستوى تفتيق دلالاته، أو اختزالها؛ فالمضمون الشفيف الموحي هو صفة ملازمة لكل إبداع حقيقي؛ فما بالك أذا كان الإبداع شعراً، يقول العظمة:” غموض كهذا هو صفة ملازمة للشعر الحقيقي. أما من يفتعله،ويحركه في جسم قصيدة مفتعلة ميتة فإنه لا يصل إلى محجته،ولا يبلِّغ القارئ غايته التي لا تستقيم إلا إذا وصل إليها”(81).
وبهذا التصور، يغدو الغموض مرتكزاً من مرتكزات القصيدة الجميلة في عرف الكثير من نقادنا ومبدعينا،لدرجة أن بعضهم يعده معياراً لجمالية القصيدة، ومكمن خصوبتها؛و لا غنى عنه إطلاقاً في إثراء القصيدة، وتحقيق تفاعلها، واستقطابها لجمهرة المتلقين،وقد ذهب هذا المذهب الشاعر الفلسطيني المبدع صالح هواري قائلاً:” لتحقيق قصيدة جميلة لابد من معايير فنية كالرمز. والغموض الشفيف الذي يأخذ بالروح إلى غابة دروبها العذراء؛ تشد خطا الطارق إلى أسرارها،وهو مأخوذ بجمال أشجارها،وطيب ثمارها.. وإلى جانب الغموض والرمز لابد من عنصر التكثيف، والاختزال،وتشذيب شجرة النص من الزوائد.. وأما الإيحاء فهو معيار أساس في القصيدة الجميلة، إلى جانب عنصر التأثير، وهو الأهم.. ثم الموسيقى الهامسة التي تختلج الروح على أوتارها؛ وفي رأيي إن العنصر الأهم لجمال القصيدة هو أن تتدخل روح الشاعر في عجينة النص،لتعطيها تلك الخميرة القادرة على الإنضاج على جمرة التوتر الداخلي، الذي ينعكس على مرآة ذات المتلقي فيحدث الصدمة”(82).
إن ما أشار إليه الهواري لدليل على وعي وفهم عميق لهذه المسألة؛ فالغموض الذي ينتج الشعرية هو غموض شعري أو فني لا محالة،ولا يستطيع أحد أن ينكر دوره في فاعلية القصيدة،وتأكيد شعريتها؛ ولعل النداوة الني أشار إليها الشاعر عبد الكريم الناعم تعد شرطاً بارزاً لتحقيق قصيدة جميلة أو شعراً حيوياً ممتعاً، إذ يقول:” الشعر- في جوهره- ليس تقريراً نعرضه على مفهوم محدد، في أذهاننا،ولو كان كذلك لكان الشعر في العالم يشبه بعضه بعضاً.. أنا لا أطلب من الشاعر إلا نصاً يشدني،ويحملني معه إلى آفاق الكتابة الشعرية؛ولا أشترط عليه أن يختار الوسائل،وإنما شرطي الأول والأخير أن أشعر أنني قرأت شعراً؛ أستطيع الدفاع عن وجهة نظري دون مصادرة، إذا طلب مني أن أبين مواطن الجمال فيه،ومفردات الجمال كثيرة في الآفاق،وفي الأنفس،ولكن عملية الاختيار، والبناء،والصياغة هي التي تسمح لهذه القصيدة أن تصبح جزءاً من أعماقي، أو أن تظل عند حدود الكلمات، أو الجمل، أو الصور الباهظة”(83).
واستناداً إلى ما تقدم،نصل إلى نتائج متواضعة نوجزها فيما يلي:
1- إن جودة النص ومستواه الإبداعي هي التي تحدد قيمة الغموض، بوصفها طاقة إيحائية عالية تشهد له أو عليه،ذلك”أن الوقائع الفنية- حسب إيخنباوم- تشهد بأن الاختلاف النوعي للفن لا يعبر عن نفسه في العناصر التي تشكل العمل الأدبي،وإنما في الاستعمال المتميز لتلك العناصر”(84). وهذا الاستعمال هو الذي يربط الفن بقيمه الجمالية المؤسسة لنشاطه الإيحائي.
2- إن الغموض- من المنظور الإبداعي لدى السواد الأعظم من نقادنا وباحثينا- لا يتضمن أي دلالة شعرية إلا إذا كان كالزجاج يشف بما ورائه من دلالات وإيحاءات بالغة الخصوبة والغنى؛ في حين رفض أغلبهم الغموض التلغيزي الذي يصل إلى مستوى الأحاجي، لأنه- بمنظورهم- يقتل الفن؛ويمزق أوجه التلقي الإبداعي الخلاق بين المبدع والمتلقي، ويحجب النص عن جوهر غناه وثرائه الدلالي.
3- إن الغموض- في منظور الكثير من باحثينا ومبدعينا- ليس حالة فنية أو سمة إبداعية ترتقي بأسهم النص الإبداعية إلا إذا كان متكيفاً وجوهر الرؤية الجوهرية التي يطرحها النص، مشكلاً عنصراً جوهرياً مؤثراً في توجيه استراتيجيته الدلالية،وباعثاً لشعريته على أقل تقدير.
وبتقديرنا النهائي:
إن المحك الجمالي-في روز أي قيمة جمالية،ومن ضمنها( الغموض)- لا تظهر علاماته ومؤشراته الإبداعية الحقيقية إلا ضمن منعرجات القصيدة، ومساراتها الفنية؛ ذلك أن روز القيمة الجمالية بمنظارها الإبداعي الدقيق يعني رصد مصدر حراكها، ونشاطها ضمن سيرورة القصيدة،ومدى تحقيقها لفنية هذه القيمة؛ بوصفها علامة مائزة في بنيتها، وشكلها الفني؛ وهذا يعني” أن الفن تحكمه دائماً وأبداً علاقات مجازية واستعارية؛ ولذلك فإن أي إرسالية لا تحقق وظيفتها الجمالية إلا إذا كانت مبنية بطريقة غامضة،وتبدو كأنها ذات طاقة تأملية ذاتية؛ أي أنها عندما تدرك تلفت انتباه المتلقي إلى خصوصية شكلها قبل كل شيء”(85).
ولذا، يعد الغموض مصدراً مفجراً لتحفيز الكفاءة التأويلية الناجحة التي تدفع المؤول بدافع المغامرة، وحب الاكتشاف إلى إبراز كفاءة عالية في الكشف، والتأويل النصي الناجع الذي يرقى بالنص،وبطاقته الدلالية، ومصدر غناه الفني.
خامساً- إشكالية( الرؤية/ والرؤيا):
قد لا نبالغ بداية إذا قلنا: إن لب جوهر إشكالية الحداثة يعود إلى احتدام الرؤى وتضاربها عند الكثير من النقاد والمبدعين حول مستوى فهمهم المنحرف للكثير من القضايا الإشكالية؛ ومن ضمنها مصطلح( الرؤية)/ و(الرؤيا) الذي يشكل هاجساً فنياً لدى الكثيرين منهم، لاسيما في فهمهم للحداثة من منظور رؤيوي متطور، و” مفهوم الرؤيا من المفاهيم الجديدة التي دخلت أدبنا بعد الحرب العالمية الثانية،وشاع استعماله مع انتشار الشعر العربي الحديث، لكن ظل الغموض يشوبه،واختلف النقاد في تحديده؛ فمنهم من يعرف به الشعر الحديث؛ ومنهم من يجعله علامة على المضمون؛وبعضهم جعل منه أحد المناهج النقدية، وبعضهم يجعله أداة من أدوات الصياغة ووسيلة من وسائل التعبير”(86).
و” الرؤيا”- من منظورنا- هي انفتاح في الشكل الفني،وطريقة مبتكرة من طرائق التعبير؛ هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية الجوهر؛ فالرؤيا هي انفتاح في الأفق التأملي، والتخييلي الخلاق لدى المبدع،ومنظور متجدد للحياة، والخلق، والكون؛ وتتحدد خصوبة(الرؤيا) ودرجة ابتكارها بمقدار ما تثيره من منظورات جدلية مواربة،وما تخلقه من رؤى مبتكرة تطور منظوراتنا،وتمنحنا رؤية متجددة للكون تحايث ما أطلقنا عليه في دراسات سابقة لنا بر(رؤية الرؤيا) أو( رؤيا الجوهر)(87).
وبتقديرنا: إن الكثير من نقادنا ومبدعينا في عصر الحداثة قد ربطوا مصطلح( الرؤيا) ب( الحداثة) لأنها- بمنظورهم- شطرها الأهم، والأبرز في تفجير الوعي الإبداعي من جهة، والحساسية الجمالية من جهة ثانية؛ ولهذا؛ يعدها بعضهم ركيزة المبدع،وزاده المعرفي في الوعي الفني والخلق الإبداعي؛ووفق هذا المنظور عدها أدونيس من مقومات المبدع،مشيراً إلى ذلك بقوله:”إن مقومات المبدع الناجح(الرؤيا- التأمل- الاكتشاف- الاستبطان- الخلق- التمرد- الثورة- التحول- الابتكار- التجاوز- ثقافة الحرية وطريقة التعبير عنها،ولا أعتقد أن خلود المبدع ونتاجه إلا ثمرة هذه العوامل التي ذكرتها مجتمعة”(88).
وبهذا الوعي، والإدراك المعرفي بالدور الذي تضطلع به( الرؤيا) يضعها أدونيس في قائمة التركيب، بوصفها الشطر الأهم في تمييز المبدع الحقيقي عما سواه،وبمنظوره إن الشاعر الرؤيوي المبدع الحساس هو القادر على الاكتشاف؛وهو القادر على خلق رؤى جدلية مبتكرة؛ تشي بفلسفته للأشياء ووعيه بمصدر حراكها الجدلي المغاير لطبيعتها الوجودية؛ ولهذا يعرف الإبداع قائلاً:” الإبداع هو تجاوز، واختراق، كشفٌ، ورؤيا.. وفي غوص في نقطة من الذات يلتقي فيها ما كان بما يكون: عود وبدء،تذكر ونسيان في لحظة واحدة… اكتشاف مالا يكتشف،ووجود مغاير لحقيقة الوجود”(89).
وبهذا المقتضى من الدلالة والوعي،تبدو الحداثة- وفق منظورها الإبداعي- في تجاوزها للمعتاد في الرؤى،والتصورات،والوسائل،والأدوات،والشاعر الحداثوي هو الذي يستثير الرؤى الفاعلة الأكثر معايشة لمشاعرنا، ودواخلنا الشعورية،والأكثر انفتاحاً على عوالمنا الخارجية، والداخلية استراتيجية رؤيا،وعمق منظور؛ وتبعاً لهذا المنزع يقول شوقي بزيع:” لنميز بداية بين (الرؤيا)- بالألف الممدودة،والرؤية(بالتاء المربوطة)،لأن الأولى تعتمد على البصيرة والحدس،وعلى سبر أغوار العالم،وعلى الاستشراف طبعاً؛ في حين أن ” الرؤية” تتعلق بالبصر وبالعين مباشرة؛ طبعاً إن لفظة(رؤيوي) هنا، تشمل المنحى الأول الذي له علاقة بالبصيرة، وبالحدوس العميقة للشعراء، أنا أعتقد أن الشاعر الرؤيوي العظيم يمكن أن يكتسب أهميته من طريقة مقاربته للأشياء،سواء أكانت هذه الأشياء قضايا كبرى، أم كانت مجرد تفاصيل جزئية،يمكن أن يكون الشاعر رؤيوياً بامتياز،ويكون شاعراً كبيراً كما هو حال المتنبي، أو جلال الدين الرومي، أو حافظ الشيرازي، أو عمر الخيام أو أدونيس،ويمكن أن يكون رؤيوياً ويكون شاعراً سيئاً؛ لأنه لم يستطع أن يتمثل هذه الرؤيا عبر شعر حقيقي جميل ومؤثر؛ ومتميز ومغاير وهذا ما حدث مع ابن الفارض”(90).
وتأسيساً على هذا الوعي،يرى شوقي بزيع أن الشاعر الرؤيوي هو الشاعر القادر على مقاربة الموضوعات؛ بتصور جديد، وخلق إبداعي متجدد؛ والشاعر الرؤيوي الخلاق-وفق هذا المنظور- ليس هو الذي يقارب موضوعات شمولية كبرى؛ وإنما هو الذي يحول الموضوعات الصغرى إلى قضايا عامة،وتساؤلات كونية منفتحة؛ ترتقي إلى حيز القضايا الوجودية الكبرى، وبهذا المعنى يقول:” يمكن للشعراء الرؤيويين أن يقاربوا موضوعات بسيطة كالحديث عن حجر، أو ورقة مرمية في الطريق، أو حنفية ماء مقطوعة، أو غير مقطوعة. هناك شعراء تحدثوا عن المجلى،وعن المغسلة،لكن البعض منهم كان شاعراً رؤيوياً كبيراً؛ لأنه حول هذه القضايا إلى قضايا كبرى؛ يعني طرح من خلالها أسئلة مهمة. بودلير- مثلاً- تحدث عن الجيفة المرمية في الطريق،وحوَّلها إلى سؤال كوني.. إذاً،ليس الموضوع هو الذي يحدد قامة الشاعر،ولكن المقاربة الشعرية المهمة… ليس ماذا أكتب؟!!،ولكن كيف أكتب؟!!”(91).
وبهذا الفهم الدقيق يصلنا شوقي بزيع إلى مقولة صائبة صاغها الناقد السوري الفذ خليل الموسى،مؤداها:” إن سر نجاح أي عمل فني وخاصة القصيدة في الرؤيا،وفي العمارة، وفي العلاقات بين العناصر، في شكلها العضوي”(92).
وبناءً على هذا المنظور، نقول: إن حداثة( الرؤيا) تكمن في مقاربتها المبتكرة للأشياء،والتحليق بهذه المقاربة، لتصل إلى جوهر الرؤيا في صميمها، يقول الناقد نذير العظمة
ما يفيد ذلك” الرؤية مصطلح يترادف مع الرأي؛ أما الرؤيا فهي تترادف مع الحلم،وأي نهضة قامت بدون أحلام، لاسيما أننا نمنا لقرون طويلة، لكن(الرؤيا) ليست أمراً مجانياً متاحاً للجميع،وإن فحول الشعراء- مثلاً- هم الذي يتمتعون بالقدرة على الرؤيا، التي تتضمن الفكر الجديد، والصورة الجديدة”(93).
وبهذا المعتقد يصلنا العظمة إلى جوهر وعيه وإدراكه المعرفي لمفهوم(الرؤيا)، بمعناها الشمولي المتفتح، إذ يرى أن ” الرؤيا ليست حكراً على شعراء الرواد والحداثة؛ وإنما الرؤيا ممكنة لأغلب الشعراء في معظم العصور؛ لنأخذ على سبيل المثال(طرفة بن العبد، أو امرأ القيس. شعراء المعلقات.. مثلاً قامت معلقاتهم على تجربة حياتية، ورؤيا.. بهذا المعنى الحداثة ليست حكراً على عصر واحد،وإنما يمكن أن نكتشفها في كل العصور،وهي جوهر الشعر،ومن لم يضف على موروثه الشعري يعش عالة على الذاكرة، ومن لم تسعفه الذاكرة يقفز على النهضة”(94).
وبهذا المنظور المتفتح، والرؤيا المتوهجة نصل إلى حقيقة مهمة نوردها،وهي أن” الرؤيا ” تمثل جوهر الفن خاصة عندما ترتبط بالتأمل، والاستشراف،والبعد الجمالي؛ووفق هذا المقترب الرؤيوي المتفتح،وحيز تمثله الإبداعي الخلاق، يقول الشاعر ثائر زين الدين:” الرؤيا- ببساطة شديدة- هي موقف من العالم الذي يعيش فيه؛ وموقفه من قضاياه الكبرى المختلفة،موقفه من الحياة، ومسائل الوجود الأخرى؛ ولا يمكن لإنتاج شاعر موهوب عميق يتعب على نفسه(من حيث بناء ذاته وثقافته،وعلى نصه(من خلال طموحه على تقديم الجديد) أن لا يحمل رؤيا للكون. وإلا فليس ما يكتبه إلا لغواً، وغثاء سيل،يذهب أدراج الرياح،فور وضعه على الورق”(95).
ومن هذا المنطلق، فإن مفهوم( الرؤيا)- في المنظور الإبداعي- يختلف من ناقد لآخر؛ ومن مبدع لمبدع آخر؛ تبعاً لدرجة الوعي بالقيمة أو الوظيفة الفنية التي يولدها في النص الشعري؛ فالنص الشعري بلا رؤية عميقة فإنه يفقد خصوصيته الشعرية،ومن ثم يفقد قدرته الإبداعية على المواجهة، والتجاوز، والاستكشاف التأملي المفتوح،وبهذا المقترب والمسعى يقول الناقد العراقي فائز العراقي في تعريفه للكاتب الرؤيوي المبدع أو العظيم:” هو الذي يعبر عن الجوهري والخالد في الحياة بأسلوب فني مبتكر، يحقق أدبية النص،وشروطه الفنية، والرؤيوية، والجمالية، والفكرية،ويشير بوضوح إلى فرادته، وشخصيته الفنية المتميزة، والمستقلة،وأعظم الأدباء هم الذين تركوا بصمة إبداعية خاصة بهم وحدهم!!”(96).
وتبعاً لهذا المنظور؛ لا نبالغ إذا قلنا: إن الحداثة روح جوهرها الرؤيا،وعمق الإحساس،وثوبها الصورة التعبيرية المؤثرة؛ والشاعر الذي لا يمتلك رؤيا عميقة متجذرة إبداعياً ليس بشاعر حداثوي على الإطلاق،بل إنه عالة على الحداثة، وأهلها، وروادها، ولا نزاع في أن التوهج الإبداعي المؤثر لا يعزى فقط إلى اللغة، ومبتكراتها الفنية دائماً،وإنما يعزى كذلك إلى الرؤيا العميقة المتفتحة، المتجذرة فنياً على حس إبداعي جدلي،ولهذا، قرن الكثير من الشعراء الرؤيا بالصيرورة الجدلية الدائبة بين الثنائيات في حراك ،وتناوب دائب، ومستمر إلى مالا نهاية،ولهذا كانت الرؤيا- لديهم- قرينة الدينامية، والتطور، والتجدد المستمر،وبهذا المعنى يقول الشاعر فؤاد كحل:” الشعر الرؤيوي جدلي كالحياة؛ والقصيدة إن لم تكن- كذلك- فهي تطير بجناح واحد فقط، لأن هذا يمنح القصيدة( التوازن) والإيقاع الكوني، والبعد الفلسفي الأعمق للوجود؛ فكل شيء يقوم على هذا التضاد المتوازن المدهش،حيث لاشيء إلا ويعني ظله، ودلالاته إن كان حجراً، أو كلمة، أو لوناً إلى آخره”(97).
وبمنظورنا: إن الحداثة- في المنظور الرؤيوي البحت- هي فن تطوير الأساليب، وطرق التفكير الإبداعي بها؛ ولهذا، يقال: إذا كانت الحداثة مظهراً فنياً لغوياً متجدداً؛ فإن الوعي اللغوي بها يجعلها مظهر استجلاء، واكتشاف، واستظهار دائم لما يجول في الذات من مؤثرات وجودية واصطراعات محتدمة،وبهذا الإحساس الرؤيوي تقول الناقدة بشرى البستاني:” البحث عن الشعرية،وفي الشعر- باعتقادي- ليس هو إلا البحث في اللغة والرؤيا؛وعند التنقيب في هذين المجالين ترد كل التقنيات الأخرى؛ فالبحث في الصورة الفنية إنما هو بحث في اللغة ،ومن ورائها المخيلة التي تشكلها؛والبحث في الرمز بحث في اللغة وفي المخيلة التي تعمل على تشكيل الروابط بين الرامز والمرموز له؛ والبحث في الإيقاع هو البحث في اللغة وفي طرائق تشكلها،وأنظمة تعبيرها زمنياً؛ والبحث في المعجم وفي تراكيبه هو بحث في اللغة،وفي طرائق اللعب الحر بها؛ فالفن هو أرقى أنواع اللعب؛ لأنه لعب يمتلك قوانينه الدقيقة الراقية”(98).
ومن هذا المنطلق يجوز لنا التأكيد على أن جوهر الحداثة يكمن في المنظورات الرؤيوية المتجددة لأي منتج فني أو إبداعي مؤثر،ومعنى هذا أن الحداثة جوهر إبداعي مفتاحه(الرؤيا) التي يمتلكها كل من المبدع والمتلقي على حد سواء؛ فالشاعر الرؤيوي هو القادر على جذبنا إلى دائرة منتوجه الفني بأقصر السبل،وأبلغ الصور والمداليل الشعرية؛ لتحريضنا على معايشة النص، والتأقلم مع مؤثراته الفنية؛ وبمعنى آخر: إن ما يشدنا إلى النص الحداثوي( حداثة الرؤيا المنتجة)، ومهارة الرؤيا المستهلكة في تلقيها المؤثر الذي يمنتج هذه الرؤيا،ويكشف من خلالها عن مقصديتها الجمالية، ووعيها الفني.
وبناء عليه ،يقول الباحث حسن موهو:” تتميز الحداثة بتطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية”(99)؛ وهذا الانتقال هو الذي يضفي على الرؤيا الحداثية طابع القيم الجمالية الجديدة، والعمل على تفتيق تقنيات جمالية أخرى،وهذه هي أبرز المهمات التي تضطلع بها الرؤيا في جوهر كل فن،ذلك أن” الفن الحقيقي- حسب بشرى البستاني- هو القادر على دمج القيمة بالجمال،والرؤيا بالخيال، ليحقق تواصلاً من نوع خاص،حيث تتضمن القيمة جمالها المندمج بجمال المتعة الفنية؛ وهي تقدم لنا عالماً ينأى بنا عن العالم المادي القائم على ثقل الأشياء وصلابتها؛ وهو –بقدرته- على عزلنا عن فداحة عالم الواقع. يسمو بنا نحو خلاص روحي هو الانعتاق الفريد؛وذلك أسمى ما يضطلع به الفن من مهمات”(100).
وبمنظورنا المعرفي الإدراكي نقول: صحيح أن الحداثة بمنظوراتها الجدلية المنحرفة أحياناً، قد غربت بعض المفاهيم،وشوَّهت من فاعلية بعضها الآخر،كمفهوم (الرؤيا) التي تارة يأخذه البعض على أنه فوضى خلاقة في الرؤى ، أو هذيان لغوي، أو انكسار عجائبي غرائبي لمعقولية القرائن اللغوية، أو انحراف مبالغ فيه للاستعارات، والتشبيهات التي تدخل نطاق الالتباس والتناقض، بحجة أن الحداثة وحركة ما بعد الحداثة عملت من ضمن ما عملت عليه أن قامت بتفكيك المنظورات،وقلقلة الرؤى،وتخليق الجدليات، والمباغتات الأسلوبية بجمعها بين حقائق وأشياء متناقضة،لتشويش القرائن اللغوية ،وكسر ائتلافاتها الإسنادية،والانزلاق بحركة الدوال، والمداليل الشعرية إلى حافة الهذيان، والتغريب الغوغائي العجيب لمنظومة المعاني والرؤى والدلالات المتلاشية،،لكن هذا لا يعني أن الحداثة ومقاييسها لا تدخل ضمن نواميس الضبط، والمقاييس الإبداعية الدقيقة الناظمة لحركة الإبداع، فمن يفهم الحداثة على أنها فوضى، وتشويش فقد ظلم الحداثة و ظلم الحداثيين؛ فالحداثة – من ضمن أطروحاتها المهمة- الخلق، والابتكار، والجسارة، وعمق الطرح، واقتحام عوالم مبتكرة، لتحقيق استجابة مثلى لدى المتلقي،عبر إحداث المفاجأة، بين الحدث الطارئ أو العابر أو اللامحدد( المنقطع)،والصورة المباغتة، والمشهد المتوتر،وهذا يعني أن النص الرؤيوي في عالم الحداثة” يستحيل إلى كرنفال من الصور،ينزلق فيها المدلول تحت الدال؛ وهذا يعني أن العلاقة اللغوية لا قرار لها،والشفرات المراوغة هي مدلول ثقافة ما بعد الحداثة”(101). 
وبهذا المقتضى الرؤيوي نقول: إن حركة الحداثة وما بعد الحداثة قامت على وعي تام بالدور الفني المنوط ب( الرؤيا الشعرية)، أو الرؤيا الفنية المنفتحة، في إكساب القارئ فهماً جديداً للحياة والإنسان؛ وما الحداثة- في جوهرها ومحكها الإبداعي – إلا رؤيا متجددة،ومنظور جديد لمنظومة الأشياء وحقائقها الكثيرة؛ وبهذا الوعي والحس الشعوري المرهف، يعضد الشاعر الفلسطيني الفذ صالح هواري رؤيتنا بقوله:”الحداثة هي رؤيا جديدة للحياة والإنسان في آن معاً.. وهي المغامرة الذاهبة في عذوبة الاكتشاف، عن طريق الوعي اللاواعي، القادر على هدم العلاقات النمطية بين الأشياء؛وإقامة غيرها على أسس جامحة،ترفض كل ما هو نمطي”(102).
ووفق هذا المنظور، يطالعنا الهواري برؤياه الحداثوية المنفتحة إزاء مفهوم ( الحداثة) بقرينته الدلائلية( الرؤيا)، إذ تقوم الحداثة- من منظوره-” على الثقة في قدرة الأسس الحديثة على هدم النمطيات،وإعادة هيكلتها بشكل متطور،ودفع حركتها بديناميكية، تسعى إلى التغيير،ورفض المألوف”(103).
ومن أجل هذا،فإن الهواري يرى أن أزمة الحداثة ليست أزمة رؤيا؛ وليست أزمة شكل لغوي،وإنما أزمة مضمون متجدد، نابض بالوعي، وتشعير الداخل، أكثر مما ينعكس على الخارج؛ ولهذا؛ فإن الحداثة- من منظوره-” لا ترتبط بشكل فني محدد،ولا بشكل إيقاعي معين؛ وهذا يقودنا إلى أن الحداثة تكمن في الخلق، والإبداع، والمضمون لا بالشكل المراوغ،… ولا يمكن تحديد بوصلة المغامرة في خوضها،لأنها مجهولة النتيجة، فيمكن أن تشير إلى عالم الدهشة والذهول، أو أن تقود إلى الفشل والذبول”(104).
وتأسيساً على هذا، يرى الهواري أن فهم الحداثة المغلوط قد حرف مساراتها عن جادة الصواب؛ إذ يظن الكثير من شعراء الحداثة ونقادها أن الحداثة تكمن في الخروج على الإيقاعات العروضية(بحور الفراهيدي)،وكسر نمطها دون وعي تام بأن الحداثة تكمن في الرؤيا المتوهجة، التي تفتح جذور الحداثة وآفاقها؛ وفي المضمون الحيوي المتجدد؛ولهذا،يرد الهواري على أولئك قائلاً:” إن كثيراً من النصوص المبنية على إيقاعات بحور الفراهيدي تمتلك من الحداثة مالا تمتلكه قصائد عدة تدعي الحداثة؛ وذلك أن جذور الحداثة تكمن في شرارات المعاني، التي تشيع التوتر في النص؛وليست في البناء الشكلي،وإيقاعاته الخارجية، المتمثلة في حركة الروي والقافية”(105).
وما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه: 
إن تشعب المفاهيم،وتعدد الرؤى، وقد كان له إفرازاته المؤثرة على الكثير من المصطلحات التي تفتقت،في عصر الحداثة، ومن ضمنها مصطلح(الرؤيا) الذي مازال إلى الآن يؤذن بجديد، ومازال غير قابل للترويض؛ لأنه متغير بتغير المنظورات الرؤيوية الحداثوية المنفتحة إليه، التي لا تكاد تستقر على مفهوم أو مصطلح حتى تنزلق الرؤى والمفاهيم مؤذنة بفتح جديد ومنظور مغاير لسالفه؛ وهكذا دواليك مع الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية في عصرنا الراهن.
وتأسيساً على ما سبق، نخلص إلى النتائج المفصلية التالية:
1- إن مصطلح( الرؤيا) مصطلح مطاطي منفتح؛ يختلف باختلاف الرؤى، والمنظورات المتعلقة به، حتى عند المبدع نفسه،وعمق مقصديته الإبداعية،ودرجة حساسيته الجمالية،ومستوى منظوره المعرفي الجمالي.
2- إن الرؤيا اقترنت عند أغلب مبدعينا بالجوهر والتأمل، ولذة الاكتشاف؛ ولذا ارتبطت بمفهوم البصيرة، والحدوث الإبداعية، أكثر من ارتباطها بالحلم رغم شيوعه.
3- إن (الرؤيا) جوهر الفن،وروح الإبداع -في منظور الكثير من المبدعين-لدرجة أن معظمهم أخرج أي منتج فني من دائرته الإبداعية إن لم ينطوِ على (رؤيا) شمولية منفتحة،وزاد معرفي إيحائي منفتح.
4- إن الرؤيا تمثل الدينامو المحرك للشعرية في منظور الكثير من النقاد؛ وهذا عائد إلى المعادلة الإبداعية ذاتها؛ فدائرة الشعرية لا تكتمل إطلاقاً، إلا بالمتلقي المبدع الذي يتلقف هذه الرؤيا،ويضفي عليها من لمساته ما يجعلها طاقة حيوية خلاقة في النص تضاف إلى رصيده الفني .
5- إن الرؤيا اقترنت-عند البعض- بالبعد الفلسفي الجدلي للعلاقة بين الأشياء،وهذا يمثل إضافة نوعية في مفهوم( الرؤيا)،لهذا يرى أحد أعلام الحداثة”أن العزف على إيقاع التضاد يمنح النص طاقة جمالية على صعيد البنية الشعرية بكل مفرداتها،بل في كل مكوناتها”(106). وهذا هو جوهر الرؤيا في الشعر،بل جوهر الفن الشعري عامة.
سادساً- إشكالية(النص المفتوح/ والنص المغلق): 
ظلت إشكالية النص المغلق والنص المفتوح من الإشكاليات البارزة التي طرحتها نظرية التلقي في عصر الحداثة،وكان رائدها(أمبرتو إيكو) في كتابه(النص المفتوح)،ويرى أن” النص المفتوح هو النص اللامكتمل الذي يبقى مشروعاً دائماً لقراءات عديدة لا متناهية؛وهذا يعني أن النص المفتوح صفة تركيبية-دلالية – تداولية يشكل تأويلها الموقع جزءاً من مشروعها التوليدي الخاص”(107). ووفق هذا المنظور،فإن القارئ- حسب إيكو-” مدعو إلى أن يستخلص من النص مالا يقوله النص،ولكنه يستلزمه أو يعد به، أو يستتبعه أو يتضمنه، إلى أن يملأ الأحياز الفارغة،وإلى ربط ما في هذا النص بباقي التناص،من حيث ينشأ،وحيث سينصهر”(108).
وتبعاً لهذا، فإن النص المفتوح هو النص القادر على استيعاب مختلف الرؤى، والتأويلات،ويقبلها بوصفها مكملات لرؤيته النصية، وجودته الإبداعية؛ في حين أن النص المغلق أو المنغلق على ذاته هو النص المعقد الذي يلتف حول ذاته لدرجة تهيمن فيه الوظيفة الشعرية على الإيحائية،والغموض على الوضوح،والتلغيز والتعقيد على البساطة والوضوح؛ ولذلك فإن الحديث عن خطاب فني ذاتي مغلق- حسب الطاهر رواينية- لا يحقق غايته إلا في ” الشعر الغنائي الموجه نحو ضمير المتكلم شديد الارتباط بالوظيفة الانفعالية،حيث يمكن لخصوصية النظم، وخصوصية اللغة الشعرية أن تؤدي إلى إنتاج خطابية خاصة تهيمن فيها الوظيفة الشعرية،فتجعل منها خطاباً ذاتياً مغلقاً يلفه الغموض، وليست الرسالة نفسها هي التي تصبح غامضة،وإنما يصبح المرسل والمتلقي غامضين أيضاً”(109).
وبما أن النص الإبداعي المنفتح هو الذي يملك مطواعيته التأويلية، وقابليته للإمكانات القرائية المتضاربة أو المتغايرة،فإن ما يحدد ثراءه الدلالي القراءة المنتجة التي تشبع لذة التلقي لدى المؤول. وهذه القراءة الهادفة أو المنتجة- بتقديرنا- هي القراءة الواعية ، أو لنقل: المسؤولة التي تضطلع بقيمتها للخروج بنتائج موضوعية مستقاة من رحيق النص،بمبضعات إجرائية دقيقة تشف عن براعة الاكتشاف؛وجدية الاكتناه، للخروج بقراءة فاعلة خصبة منفتحة في رؤاها، ومساراتها، وأحكامها النقدية؛ ذلك”أن القراءة المنتجة هي التي تستثمر أدوات التحليل الأسلوبي،وتصطنع لنفسها وسائل التشخيص.. تبقى قراءة ممتدة في الزمان والمكان لا يعتريها ضعف،ولا يخالطها وهن، لأنها لا تأنس بالاتباع، وتستسلم للسماع؛ وتقنع بالمعطى الثابت؛ لكنها قراءة يحكمها الإبداع،وتوجهها الرغبة في اختراق المجال اللفظي اختراقاً يتيح ضروباً من الفهم والإدراك؛ والقارئ الجاد الذي يخالطه هذا الشعور النقدي في كشف المحجوب يؤمن بقدرة النص الأدبي على الاستمرارية، والتجدد والعطاء… فالانفتاح الدلالي لا يمكن فصله بحال من الأحوال- عن القراءة الإبداعية المنتجة للنصوص. والمنسجمة مع الكيان الروحي والإنساني لمبدع النص ومنشئه؛ ومن هذا البيان نعلم أن تقييد هذا الانفتاح بالمرجعية النصية والحضارية لا ينافي ثراء العمل الأدبي،ولا يجافيه؛ بل إن الانفتاح المسؤول هو وفاء لمشروعية القراءة الهادفة والراشدة”(110).
وتأسيساً على هذا الوعي نقول: إن القراءة المنتجة هي ثمرة رؤية إبداعية حقيقية يمتلكها كل من المبدع،والنص،والمتلقي، وهذه الرؤية هي ذخيرة المبدع، ومرجعيته المعرفية المتنوعة،وذخيرة النص ومساربه الكثيرة،وذخيرة القارئ المتمكن، ومفرزاته النفسية والفكرية ودرجة حساسيته، وحدود فهمه وتفاعله مع النص رؤية، وإحساساً، وطاقة تعبير؛ وقد أكد(إيزر)”أن الذخيرة كيان بنائي في النص؛وعلى القارئ أن يعمل على استيعابها والتفاعل معها؛ إنها تمثل- بالنسبة إلى القارئ- درجات مختلفة للتأثير في عملية تفاعله مع النص؛ فإدماج القيم الثقافية والاجتماعية ضمن نص معين؛ثم تكرار العناصر الأدبية السابقة عليه،يحددان،بدقة، درجات ردود الفعل لدى القارئ؛ إنهما يكونان الإطار السياقي للحوار الذي ينبثق بين النص والمتلقي أثناء عملية القراءة”(111).
وبهذا المنظور؛ فإن انفتاح النص على القارئ أو المؤول ليس مشروطاً بواقعيته،وتمثيله للواقع وفق المنظور الحديث،ذلك”أن النص الفني لا يمكن أن يفهم في إطار الواقع المادي فقط،إذ لا يأخذ من هذا سوى نماذج منه، أي أنه ليس انعكاساً للواقع وانزياحاً عنه؛ وإنما تتحدد العلاقة بينهما في كونها علاقة تفاعلية تمكن وظائف النص المبدئية من ضبط سياق الواقع،وتحديد معالمه الكبرى، ومعنى ذلك أن (إيزر) ممكن كغيره من الرواد- تطبيق نظرية التواصل في مجال النص الفني،كون النص نمذجة للواقع”(112).
وتأسيساً على هذه الأطروحات التي قدمها(إيزر) تبقى مسألة الانفتاح الدلالي قرينة النص المبدع ورهينة المتلقي الجيد،الذي يمتلك طاقة إبداعية فذة؛ قادرة على ترجمة مخزون النص بما يحقق غناه وخصوبته الدلالية؛ ولهذا،تبقى مسألة الانفتاح الدلالي قرينة هذا القارئ،ومرتبطة به، محصلة ونتيجة؛ ومن هذا المنظور،” فإن النص- لا يخلد – حسب خليل الموسى- إلا بالقراءة المتجددة، أو تعددها، واختلاف وجهات النظر بالنص،وسمات النص الخالد كثيرة بدءاً من موضوعه الإنساني، إلى ثراه،وتعدد مستوياته، وطبقاته،وأصواته إلى شكله العضوي الذي يشد بعضه إلى بعض،ومقوماته، ومكوناته المتخيلة الشامخة المشرئبة ،والعاطفة الصادقة، والنزعات الإنسانية الفياضة”(113).
وتبعاً لهذا المنظور؛ فإن خلود النص ترجمة لثرائه الدلالي الذي لا غنى عنه،لتأصيله إبداعياً؛ وأغلب الظن أن النصوص الإبداعية الخالدة هي المنفتحة دلالياً ورؤيوياً؛ ومن أجل هذا فإن النص الإبداعي الخالد لا يحقق مستواه الفني الرائق إلا عندما يستقطب إلى دائرته الإبداعية أكبر شريحة ممكنة من القراء،وكلما تنامت هذه الشريحة، واتسعت دائرتها ازدادت درجة شعرية النص وخصوبته الدلالية، ورصيده الجمالي؛ مما يدل على أن القراءة المحرضة هي التي تسهم في تحريك النص،وزعزعة رتابته،وجموده الدلالي،وتحجره الإيحائي؛ وهذا ما أشار إليه عزيز محمد عدمان بقوله:” إن هذا التحريك هو المولد لفاعلية النصوص الخالدة الرفيعة؛والذي يهمنا من هذا التحريك أن يفضي إلى الثراء الدلالي؛ وهو ثراء يستمد مشروعيته من طبيعة النص الخلاقة،ومكوناته اللغوية الخصبة؛ومن ثم،فإن التعدد منافٍ للأحادية التي تحرم النص من الانفتاح على عوالم دلالية متجددة بتجدد القراءة؛ومما يدل على ذلك أن المستقرئ للتراث العربي الإسلامي يلفي أن النصوص الجمالية التي حازت على شرف الفضيلة ونبل النقاء هي النصوص المتحركة القابلة للمحاورة، والتفتح على السؤال؛لسبب قريب هو أن التمسك بظاهر العبارة،والتشبث بأهدابها دون الانطلاق في فضاء دلالي واسع حر، هو كبح لمكنونات النص،وقتل لإمكاناته التعبيرية والجمالية”(114).
وبما أن النص الإبداعي الحقيقي يختلف من حيث طرائقه، وأدواته، ووسائله، ومفرزاته المعرفية والرؤيوية فإن ما يحقق للنص حدود انفتاحه القصوى رؤية القارئ،ومستوى وعيه وإدراكه،وحساسيته لمخزون النص الأدبي؛ ومن المسلم به- حسب عزيز عدمان- في مجال الدراسة الأدبية”أن النصوص تختلف باختلاف درجة جماليتها، ومستوى مبدعيها؛ وفي اعتقادي أن الآثار الأدبية الخالدة التي حازت قصب السبق،وسعة الذرع، ورسوخ القدم، هي النصوص التي تتسم برؤية فنية وجمالية عالية،وبعبارة أكثر بياناً؛ فإن مبدع النص يتخذ موقفاً من الحياة،أو فلسفة معينة تجاه ظاهرة من ظواهر الوجود الإنساني؛وهذا يختلف اختلافاً جوهرياً عن الموقف الإيديولوجي للخطاب السياسي،وهنا ينبغي التمييز بين موقفين متمايزين:
1- موقف النص المفعم برؤى فنية وكونية؛ وهذا موقف مناسب لناقد حكيم يمتلك ناصية النقد العميق ومقتضيات القراءة الكاشفة عن أسرار النص.
2- موقف النص الذي يستمد وجوده من خارج حقل الدراسة الأدبية كالخطاب الذي يستبطن خلفية فكرية، أو نسقاً من التصورات الإيديولوجية؛وكأن النص إنما وجد ليعبر عن هذه الشواغل الطبقية،وفي هذه الحالة يستوجب هذا النمط من الخطاب ناقداً متمرساً على تصيد تناقضات النص،وأخطائه؛ومن ثم ينحصر دوره في اختيار جوانب من النص لأهداف مضمرة، أو معلنة، والسكوت عن جوانب أخرى، لأنها لا تخدم ما يسعى إلى تجسيده فكرياً وعن كل اختيار تترتب وفقه مواقف ونتائج”(115).
وبهذا الوعي الذي يمتلكه الناقد عزيز عدمان يصلنا إلى نقطة جوهرية،وهي أن: القارئ عندما يسطو على النص محوِّراً رؤيته صوب تصوراته، ورؤاه الإيديولوجية فإنه يمارس سلطته القسرية عليه،مما يفقده استفزازه وتوجهه الفني المركز،ويشوهه، ويدميه بدلاً من إحيائه وتفتيق ما فيه من رؤى وجماليات هادفة ترمي إلى تحقيق الاستجابات القرائية الفاعلة أو المحرضة لشعريته، لا المبيدة لها. وهذا يعني:”أن الأسئلة الدخيلة على النص هي في جوهرها اعتداء على الأسئلة المشروعة التي لا تنطلق من رؤية نقدية صافية المشارب،تتحاشى الاستفزاز والانفتاح الذي لا يفضي إلى ثبات أو استقرار؛ بل إن الانفتاح المشروع هو الذي يتوسل بالمساءلة الهادفة التي توصل إلى تفجير مكونات النص،ومكبوتاته من دون أذى، أو قسر، أو تحكم”(116).
وبمنظورنا: إن القراءة الناجعة هي التي ترتاد فضاء النص، ومؤثراته الجمالية، وتمد جسراً متيناً بين النص والقارئ؛ وهذا يثري النص،ويمنحه طاقة حيوية متجددة دوماً؛ وهذا يدل على أن الانفتاح الدلالي خاصية بارزة من خصوصيات النصوص الحداثوية المنفتحة التي تتنامى في رؤاها، ومداليلها على الدوام. وبقدر انفتاح هذه المداليل، واتساع رقعة تفاعلها مع المتلقي تتسع التأويلات ويتسع – من ثم – مردودها الإيحائي،وثراءها الدلالي،وبالمحصلة فإن” الانفتاح الدلالي لا يصطدم مع توسيع طاقات النص، وإمكاناته التعبيرية،وإثرائه؛ وهو إثراء تكلفه طبيعة النص اللغوية الخلاقة،وسياقه الحضاري والحيوي؛ بيد أن الانفتاح لا يعني الانفلات من أطر النص وثوابته؛ بل إن الانصياع لمرجعيات النص المختلفة هو الذي سيفضي إلى تفجير المكبوت في الخطاب؛ ولا جرم أن إدراك لطائف النص الأدبي؛ وأسراره مرهون بقراءة نقدية هادئة، موضوعية تستجيب لنداء النص،وتنفتح عليه انفتاحاً عقلانياً، يقدر حقائقه،ويحترم سلطاته”(117).
وبهذا المقتضى الرؤيوي الدقيق نقرر أن الانفتاح الدلالي هو الرائز الدقيق في روز القيمة الجمالية والإبداعية لأي نص إبداعي حقيقي؛ إذ إن الانفتاح النصي هو ترجمة للنصوص الإبداعية الخالدة؛ فالنص لا يخلد بأدواته ومادته،وإنما يخلد بقارئه الذي يهب النص طاقة إضافية تعينه على الاستمرار والبقاء؛ ولا غرو إزاء هذه الحالة أن تكون مسألة الانفتاح الدلالي من الركائز المهمة الضرورية في تبيان غنى النص،ومستوى حداثته وتفاعله واستقطابه الجمالي؛ وهذا لن يتحقق إلا بانفتاحه على القارئ بكل ما يمتلكه من رؤى لحظة تلقيه؛ وهذا دليل أن النص الأدبي لا يحيا إلا بتواصله مع الآخر،وتفاعله مع مؤثراته ومفرزاته المعرفية؛ وبهذا المقترب الرؤيوي يقول الناقد السوري نذير العظمة:”إن التجربة الشعرية لا تحيى إلا بتواصلها مع الآخر، والتجربة الشعرية لاتنفتح إلا من الوجود،ولا تنبثق إلا من لغة تعبر عن هذا الوجود،متميزة،ملتهبة تطلع من جوهر الوجدان والقلب في تفاعلها مع الأقطاب المتناقضة من حياة ولغة ومعاناة تصلهما معاً في خليقة واحدة”(118).
ووفق هذا المقتضى الدقيق الذي أدلى به العظمة نؤكد: أن النص- في النظريات النقدية الحديثة- لا يحيا بلا مؤوله القادر على تلقيه،وسبر أغواره دلالياً؛ بوصفه عنصراً مكملاً لجماليته وتكوينه الفني؛ وهذا يعني أن المؤول ليس مبدعاً آخر للنص؛ وإنما هو المستظهر للجماليات النصية والمضمرات التي يخفيها النص،ويستجليها المتلقي،تبعاً لحدوسه الرؤيوية ومكنوناته النفسية،وحسه الشعوري المرهف، ودرجة تلقفه للنص وإحساسه به جمالياً؛ وهذا دليل:”أن الموضوعات لا تكشف عن نفسها داخل النص بصورة تامة ومطلقة، إنما تكون مبثوثة من خلال رؤى متباينة، وفي مقدمتها رؤية المؤلف؛ ومن أجل أن يستوعب القارئ تلك الموضوعات،عليه أن يسترشد بمجموع الخطاطات، والتوجيهات التي يوجهها إليها المبدع”(119). 
ولأجل ذلك يمكن أن نعد مسألة الانفتاح الدلالي هي مسألة خاصة بسوية الإبداع؛ ومقصدية المبدع؛ والمعنى الماورائي الخفي المقصود من مسارب منتجه الفني؛ وهذه المسارب هي التي تفتح آفاق تلقي النص،وتستدرج المتلقي إلى دائرة النص،لاستظهاره،واكتناه آفاقه ومساراته الدلالية؛ ولهذا فإن” تفاعل القارئ مع النص الشعري- حسب الناقد علي جعفر العلاق- يتطلب إقامة أطول في مناخاته،واستغراقاً في تفاصيله وثناياه؛ وهذه الإقامة المتريثة هي التي تتيح للقارئ التقاط ما يتسرب في جسد النص من التماعات أسطورية، أو دينية، أو شعرية تمثل صلته بشجرة النصوص والرؤى الأخرى”(120).
وتأسيساً على هذا؛ فإن الانفتاح النصي يتطلب قارئاً منفتحاً يمتلك رصيده المعرفي، وقدرته الفائقة على مراودة النص، واقتحامه من أي جانب شاء ما دام يمتلك ناصية اللغة،وعمق الرؤيا،ودقة المنظور، والحرية في اختيار الأداة،وتسليط الرؤية مادام قصده إحياء النص بما فيه، لا إعمال سطوته عليه،ليشوه براءته،وعمقه، ويعبث بضوابطه ومعاييره،وآفاقه، لا يقبله ولا يرتضيه؛ وهذا ما أشار إليه الشاعر الفلسطيني صالح هواري قائلاً:”إن المتلقي الحر يبحث عن نص حقيقي من مبدع حر؛ ولا يكون الكاتب عظيماً وحراً إلا إذا حقق للقارئ نصاً حقيقياً يستطيع من خلاله أن يحقق جوهره الإنساني الكامن في كل عبارة يطمح إلى معانقتها،فيجدها على طبق النص المشغول بخيوط من الضوء، والعطر، والجمال. والشاعر العظيم هو الذي تغريك قناديله المتأججة على سطح النص بالدخول إلى الكهف الذي نحتته أنامل الحقيقة.. وحين تدخل ترتاح على بساط المعنى مأخوذاً بلوحات الفن المعلقة على حافة الأفق اللازوردي.. الشاعر العظيم هو الذي يشعر القارئ أنه جزء من النص؛ كأن القارئ هو الشاعر والشاعر هو القارئ فتتحد الروحان معاً؛ في لحظة الكشف،ويتناوب الاثنان حالة التوتر”(121).
وعطفاً على ما سبق،نؤكد إن الانفتاح النصي خاصية النصوص الإبداعية الحقة التي تعي دور المتلقي،وتمهد لهذا الدور، ليس بملامستها لدواخل المتلقي الشعورية كما قد يتوهم البعض،وإنما بإغرائه بعوالمها التخييلية والإبداعية الممتعة، التي تجذبه إلى مراودتها كالمرأة الفاتنة التي تغري بدلالها وغنجها الكثيرين لدرجة ينقاد إليها البعض مدفوعين بشهوة الجمال، ولذة التأمل والاستغراق بهذا التكامل الجمالي الفتان، والقشعريرة الداخلية التي أثارتها في نفوسهم؛ مدفوعين بغريزة الاندفاع والتوهج الداخلي، صوب كل ما تمثله من مفاتن بارزة، تخلب لبهم، وتأخذهم من الصميم؛ ذلك أن النص المغري كالمرأة الفاتنة تنأى إلا أن تراوده،وينأى إلا الانجذاب لها، ولهذا أقول: إن النص المنفتح هو النص المغري الذي لا يشكله إلا المبدعون الحقيقيون الذين يملكون حساسية شعورية عالية وفيضاً من الذوق والوعي الجمالي. وتبعاً لهذا، يتفاوت المبدعون،وتتفاوت سوية نصوصهم(انفتاحاً/ وانغلاقاً)- حسب درجات وعيهم- وتطويرهم لمهارتهم الشعرية؛ وهنا ، يتوجب الالتفات إلى مقولة صائبة، أو رأي سديد أدلى به الشاعر صالح هواري فيما أسماه ب( أزمة التلقي) قائلاً:”أزمة التلقي كامنة في المبدع نفسه، فهو بقدر ما يمكن أن يبتكر نصاً حقيقياً مستوفياً لشروطه الفنية، بقدر ما يتواصل معه القارئ،وكم من الشعراء استطاعوا أن يغزو قلوب المتلقين بإبداعاتهم الخارقة ك( محمود درويش) بقامته الشعرية الباسقة،وما قدمه للشعر العربي من روائع،وك( أدونيس) الذي شكل مدرسته الشعرية المتميزة،و(نزار قباني) الذي استطاع أن يتسلل إلى أعماق الجماهير كأنسام الصباح العابقة على الرغم من سهولة النص فقد ظلوا خارج اهتمام القراء بهم لعجز نصوصهم عن الوصول إلى دواخلهم”(122).
وهذا يعني أن ثمرة النص المنفتح الحقيقية هي الاستمرار، والتجدد، والديمومة،كنبع الخلود الفائض الذي يتدفق، ولا يغيض. وأمام عبقرية النص وسلطته تمثل سلطة المؤول وبصمته الإبداعية التي تجدد ينابيع النص، بروافد جديدة، تزيده تواصلاً، ونضجاً، ودفق حياة؛ وهذا ما وعاه الكثير من مبدعينا ونقادنا في نظرية التلقي التي تولي القارئ عناية كبرى في إحياء النص،وتأكيد أحقيته على خارطة التداول النقدي والتجذر الإبداعي الأصيل.
وبعد هذه المقاربة الفاحصة في تبيان الأثر الذي تخلفه الرؤى المتباينة إزاء إشكالية( النص المغلق/ والنص المفتوح) نخرج بمجموعة نتائج مفصلية مهمة،نذكر منها ما يلي:
1- إن معظم نقادنا ومبدعينا قد برهنوا على وعيهم المطلق بأهمية المتلقي في إكساب نصوصهم ألقاً، وتميزاً، وحضوراً دائماً لا يضمحل أو يغيب؛ لأن أغلبهم كان على وعي واطلاع واسع بالدور الكبير الذي أولته نظرية التلقي للقارئ في اكتمال معادلة النص،وتجدد ينابيعه،وتأكيد حداثويته.
2- إن نظرية النص المفتوح أسهمت- بشكل ملحوظ- في حث المبدعين على الاشتغال مطولاً على نصوصهم،والعمل على تطوير تقنياتها؛ فأدركوا أن ما يبقى على السطح لا يتجاوزه، وأن ما يبقى حقيقة هو الذي يحفر في الجذور،ويقترب من الجوهر؛ لهذا جاء إدراكهم للحداثة يمس جوهرها،ويصيبها في الصميم،بوصفهم مدركين حقيقة جوهرية في الإبداع:”أن كل مبدع حداثي،وكل مقلد غير حداثي حتى ولو قلد الحداثة”(123).
3- إن لنقادنا الدور الأهم في توعية الشعراء على الكثير من القضايا الأدبية التي تمس الحداثة من جوهرها،وحثهم على الأخذ بها، لتطوير نتاجاتهم الشعرية،ومن ضمنها مسألة (النص المفتوح) منوهين أن الحداثة ليست شكلاً، وليست اتباعاً أو تقليداً،وإنما هي ممارسة إبداعية شعورية متوهجة من الداخل،وثمرتها الإبداع لا الابتداع،والغموض الشفيف،لا التكتم المخيف،والانفتاح الدلالي لا التحجر والعقم الإيحائي. 
سابعاً- إشكالية(المعاصرة- التراث): 
إن إشكالية المعاصرة والتراث من الإشكاليات البارزة التي طرحتها حركة الحداثة،وما بعد الحداثة في زمننا الراهن؛ إذ راج مفهوم شائع أو معتقد خاطئ لدى الكثيرين؛ إن الحداثة في المعاصرة الزمنية، أو اللحظة الراهنة التي تواكب زمننا وعصرنا الراهن؛ وهذا مفهوم خاطئ درج عليه الكثيرون من سابق ولاحق؛ نقول لأولئك: إن الحداثة ليست في المعاصرة، ولا تقاس بالمرحلة الزمنية التي شغلتها سابقاً،والمرحلة الزمنية التي ستشغلها لاحقاً؛ فمن يظن الحداثة في المعاصرة ظلم الحداثة،وألجم جموحها،وحطم طموحها وتحليقها وتجاوزها؛ ومن فهم التراث على أنه رديف (القدامة) حجّم دوره،ومصدر أهميته في عصرنا الراهن؛ فالتراث كان وما زال مصدر غنى الآداب وتطورها على مر العصور،ولا حداثة تنبثق من رحم ذاتها؛ وإنما تتـأسس في حضارتها على الأرث الحضاري الذي ترثه أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب؛ وبهذا المقترب الرؤيوي نخالف السيد(أومليل) الذي يقول:” إني لا أعتبر التراث منجماً استخرج منه معادن نفيسة تصلح للتبادل النافع في عالم اليوم. إن إحياء التراث لكي نحيا به اليوم هي قضية التراثيين،وليست قضيتي”(124).
نقول للسيد(أومليل): إن التراث مصدر حضارة كل الشعوب، ولا غنى لأمة من الأمم عن هذا المصدر،في إغناء حداثتها،والمضي قدماً في تطورها، صحيح أن للتراث منظومته،وللحداثة منظومتها كذلك،لكن من الضروري لتجني الحداثة ثمارها أن يتم التلاقح بينهما،لتتطور المنظورات كذلك،لكن من الضروري لتجني الحداثة ثمارها أن يتم التلاقح بينهما،لتتطور المنظورات،وترتكز الحداثة على أرض صلبة تقاوم جميع العواصف،والتيارات،والمحدثات الراهنة،بركيزة فكرية خصبة،ومنطق رؤيوي عميق متجدد.
وبمنظورنا: إن سبب رفض السيد(أومليل) لقيمة التراث،وتوظيفه في عهد الحداثة، له منطلقه الفكري الذي يدعي أن للتراث بنيته الفكرية المخصوصة،وبالمثل للحداثة بنيتها المفردة المميزة، ولا مساغ للمقايسة بينهما والمقابسة. فمنطق الحداثة غير منطق القدامة،وبنية الحداثة من غير جنس بنية التقليد،(125). لهذا يأخذ على أولئك الذين يسعون إلى قراءة التراث وتحديثه؛ لأنه بمنظوره عمل غير مجدٍ على الإطلاق؛ لأن من يحاولون قراءة التراث بروح المعاصرة يذعنون سلفاً إلى أن التراث جوهر يملك قيمته المثلى،وهذا وجه الخلل أو التناقض؛ إذ يقول:” التراث عند أولئك جوهر باقِ مستديم، لا تنال منه أعراض الزمان،ولا تبدل أحوال المجتمعات، يعتقدون أن الحقيقة كامنة فيه، وأنها منذ أن حلت فيه تجردت عن الزمان. فالمقدس لازماني يخترق الزمن وأعراضه،فلا يمسه بتغيير يذكر. قراءتهم النص هي قراءة يريدونها أن تكون شرحاً وحسب؛ فالمعنى قد تحدد وتجمد فلا مجال لتعدد القراءات، أي تعدد المعنى، همهم الكبير هو ألا ينفلت الزمان،وتبدل أحوال الإصلاح عندهم؛ فهو لا يأخذ الزمان بالحسبان،بل يسقط الماضي في المستقبل، ويعتقد أن المستقبل هو الماضي، أو في حقبة من الماضي خارجة عن الزمن”(126). 
ووفقاً لهذا المنظور، يرفض( أومليل) التراث، وبالأخص أولئك التراثيين الذين ينظرون إلى التراث بعقل تراثي، وذهنية تقليدية تراثية ، قائلاً في تقريظهم:” التراث جزيرتهم البدئية،يخشون المغامرة في بحار المعرفة، والعقل، لاكتشاف العوالم الجديدة… يلوكون معارف الموتى،يلتمسون عندهم المعرفة،ينفضون الغبار عن خرائطهم القديمة،للاسترشاد بها في عالم تغيرت خرائطه،يصارعون لفرض سلطة التراث،لأنهم يستمدون منه سلطتهم المعرفية، أولئك أناسٌ شأنهم أنهم يقدسون التراث تقديساً”(127).
ويعلق الباحث محمد الشيخ على موقف( أومليل) من التراث قائلاً:” والحال أن( أومليل) لا يريد تقديس التراث، ولا بالضد تدنيسه،إنما كان غايته أنه يريد فحصه وتمحيصه. وتمحيصه يقتضي إجراء أمرين اثنين: أولاً عدم الوقوع في خطأ الحديث عن التراث،كأنه (كلٌّ منسجم، إنما التراث خليط) وهو مستويات لا مستوى واحد.. ثانياً- الاهتمام بما يسميه( أومليل)” تاريخية الأفكار”؛ وذلك بمعنى أن للأفكار التي احتوى عليها التراث زمنها الخاص؛ فلا مجال لإسقاطها على الحاضر،ولا مساغ للإعراض عن( تاريخية منطق الأفكار).. والحق أنه لئن نحن أدركنا حينها لماذا اهتم( أومليل بالتراث)”(128).
وأياً كان موقف( أومليل) أو غيره ما يهمنا أن نقرر أن التراث لا غنى عنه في عصر الحداثة؛ إن أردنا أن نطور من هذه الحركة بما تقتضيه تجاربنا الإبداعية؛ ولعل ما حدد أفقه أدونيس من منظورات ورؤى إزاء هذه المسألة لجد شاق ومؤثر ودقيق في تعضيد الكثير من المواقف الرؤيوية الشامخة التي تزخر بأهمية التراث،وتعضد من فاعلية قيمته في عصر الحداثة؛ إذ يقول:”إني أرى لتطوير التراث ينبغي تحديث التراث بما يتلاءم والمنظور الحضاري السائد الآن،فمراكز التربية والثقافة في المجتمع العربي من مدارس، ومعاهد، وجامعات ليست فيما يتعلق بالتراث، إلا أكياساً تحشى بأشلاء الماضي،وقد قلبها الاجترار،وأعاد تقليبها تحت أضراسه التي لا تحصى مراراً لا تحصى،إنها آبار مسدودة يختنق فيها التراث،يوماً فيوماً،وفي ظل هذا الواقع كيف يتطور التراث؟! ولا يمكن أن يتطور أبداً إذا لم تجتهد العديد من المؤسسات الثقافية والمعرفية في تطويره وتحديثه”(129).
والملاحظ أن أدونيس -على الرغم من تشديده على الإفادة من التراث- غير أنه لا يتقبل التراث كتلة واحدة؛ وإنما يطالب بتغييره،وتغيير المنظورات السائدة إليه،بما يتوافق وتحولات الحداثة وحركتها النهضوية الرائدة، إذ يقول:” إن النظر إلى التراث من منظار العظمة والتقديس فيه إجحاف كبير لكل ما هو جديد؛ فالتراث أرث ماضوي أنتج في مجتمع ما بطقوسه،وعاداته، ونواميسه، ومعتقداته التي نضجت في عصر ما، أو زمن ما، وهذا العصر تربطه إيديولوجيات، ومعتقدات لا يمكن أن تنطلي نفسها على العصر الراهن؛ أو الواقع الراهن… إني أرى: لا قدسية للتراث… ليس كاملاً،ولا مقياساً مطلقاً،ولا حاكماً،ولا ملزماً، إنه حقل ثقافي عمل فيه وأنتج بشر مثلنا،يصيبون،ويخطئون،يبدعون،ويبتدعون، والحكم لهم أو عليهم يعني حكماً على نتاجهم المحدد أو له؛ ولا يعني الحكم على الشخصية العربية أو لها؛ ولذلك يمكن أن ينهض شاعر عربي اليوم ، أو فيلسوف عربي يضيف إلى التراث الشعري، أو الفلسفي جديداً لا يعرفه الماضي،وقد يكون أعظم مما عرفه،دون أن يعني ذلك أنه يهدم التراث، أو يرفضه”(130).
وبهذا التصور المعرفي الدقيق يرى أدونيس أن الحداثة ليست إطلاقاً الانفصال عن التاريخ، والإرث الحضاري الماضوي، وبتقديره:” يمكن الشاعر أن يعتمد، استلهاماً، على التاريخ والماضي شريطة ألا يعني هذا الاعتماد- الاستلهام عودة انكفاء وانكماش يجب أن يعني ذلك إضاءة للماضي والتاريخ،يجب أن تكون هذه العودة،عودة فهم لما حدث،في ضوء ما يحدث في ضوء الحاضر الذي نعيشه، أو المستقبل الذي نتطلع إليه؛ هكذا،تفرغ أحداثه من تاريخيتها العادية،ومن وقتيتها لتصبح رموزاً. وبهذا المعنى يمكن القول: إن الشعر ثورة دائمة. إن الشعر كالشاعر جزء لا يتجزأ من الواقع
لكن الشعر،فيما يعني الواقع لا يعكسه بل يخلقه، أي يبدع فيه صورة جديدة،من هنا،كانت الفاعلية الشعرية متجهة إلى المستقبل، لا إلى الماضي، أي أن الشعر لا ينحصر في ما هو كائن، وإنما يتجاوزه إلى ما يكون، أو إلى ما لم يتحقق بعد، بهذا المعنى،نقول: إن الشعر لا يفسر الواقع ولا يصفه،وإنما يغيره”(131).
وبهذا المنظور، يغدو الشعر – باعتماده على التراث- أكثر فاعلية عندما يتجاوز الشاعر الماضي إلى المستقبل؛ بمعنى أن يكون التراث محرضاً للمستقبل،وكاشفاً لآفاقه؛ ولا يكون التراث معاصراً أو حداثوياً إلا عندما ينتقل من ماضويته المتحجرة إلى آفاق مستقبلية حداثوية متطورة؛ وهذا الموقف الأدونيسي يدلنا على: أن مفصل تحديث التراث- هو جذر الحداثة ومحرق ارتكازها، ولا يمكن للحداثة أن تمضي قدماً في ركبها الحداثوي المتصاعد بانفصالها عن التراث، وانقطاعها عنه إطلاقاً؛ وإنما بتطويره،وتحديثه،ومعاصرته، عبر استيعاب الماضي،وتهيئة الحاضر،والتطلع إلى المستقبل،بآفاق منفتحة، ورؤى تأملية عميقة.
ولا بأس ن نؤكد أن عدداً ضئيلاً جداً من شعراء الحداثة قد فهموا الحداثة والمعاصرة فهماً دقيقاً وصحيحاً ينم على خبرة معرفية، وحساسية إبداعية فائقة،ومن بين هؤلاء الناقد والشاعر المبدع نذير العظمة الذي يرى:”أن التحديث هو سمة من سمات النهضة،ونمطه قائم على استيراد المناهج، والبرامج، والمؤسسات،والأفكار والمفاهيم التي تمتع بها التنوير الأوربي. أما الحداثة فهي تعرف الذات على نفسها بعد هضم التراث، والتعرض إلى رياح النهضة؛ فمعرفة النفس هي عنوان النهضة، لا المؤسسات المستعارة، أو الأنماط المجلوبة؟! ربما تساعد.. ولكن معرفة النفس هي الأساس؛ ومعرفة النفس تتضمن معرفة التراث لا التراث القومي،وإنما التراث بمعطياته، ومؤثراته كلها؛ والانبثاق من هذه المعرفة لمعرفة الذات، وأقصد بمعرفة الذات أن تقدح شراراتها من معاناة التخلف، والانبثاق إلى نهضة شاملة”(132).
ووفق هذه الرؤية،يرى العظمة أن الحداثة في حداثة الإنسان،ومنظوراته المتغايرة،ومعرفته لذاته أولاً؛ وهذه المعرفة تنفتح على معرفة الكون، والوجود،والتراث الحضاري لأمته،وما يقصده بالحداثة: حداثة المنظور إلى العالم وفق معطيات الحاضر،والانبثاق من خلالها إلى آفاق المستقبل؛ ومحك ذلك كله معرفة الذات؛ وتأسيساً على هذه المعطيات يعرِّف الحداثة وتياراتها قائلاً:” الحداثة تجربة عاطفية،فكرية، اجتماعية، ثقافية، سياسية،تنبثق منها رؤيا شعرية؛ لذلك، يمكن تقسيم التيارات الإبداعية إلى تيار سلفي. وفي هذا التيار يتسيد النمط الموروث فيه. والتيار التحديثي. والتيار الحداثي.. فإذن نحن بين تقليد،وتحديث،وإبداع؛ التحديث يعطي اليد العليا للنمط الغربي؛ أما النمط السلفي فيعطي اليد العليا للموروث من الفكر والمفاهيم التراثية القديمة. أما الحداثية فهي الولادة الجديدة التي يطمح إليها جيل الرواد من خلال استيعاب تراثهم،والتراث الإنساني،والانبثاق برؤية جديدة من خلال هذا الاستيعاب”(133).
وبهذا التصور المعرفي، يقودنا العظمة إلى أن الحداثة تختلف عن التحديث،وتختلف عن التقليد؛ فالحداثة هي الولادة الجديدة التي من خلالها تتفتق رؤيا جديدة للحياة والكون بعد هضم التراث،والانبثاق منه برؤية حداثوية تعي حجم التطور، والتغيير؛ وبناء على هذا، تختلف المعاصرة عن الحداثة وعن مفهومها الحقيقي؛ فالمعاصرة ليست حركة حداثوية في ذاتها؛ في حين أن الحداثة حركة تنطوي على رؤيا،وهذه الرؤيا تنطوي على معرفة،وهذه المعرفة تعني أنها مبنية على مكتسبات الماضي ومفرزات الحاضر،والانبثاق منها برؤية مستقبلية، تعي حجم التطور،وتسير في ركبه. ولهذا يرى العظمة أنه:” ما من ناقد حديث مطلع على المنهجيات الجديدة ومدارسها يمكن أن يكون ناقداً فعالاً من دون معرفة التراث( أو الموروث النقدي العربي القديم)؛ وأنا أرى أن الموروث النقدي كان منفتحاً على التراثات الإنسانية جميعها؛ كان منتجاً وعميقاً، ومؤثراً وفعالاً ،لكن هو ثروة لا يمكن أن تهمل في حقل النقد والشعر”(134).
وتأسيساً على هذا الوعي،نقول: إن الناقد الحداثي هو الذي يضطلع بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه؛وفي تحديث أدواته، ونظرته الرؤيوية الثاقبة،وانفتاحه على التراث،والخروج من خلاله بمنظار جديد، وأدوات معرفية جديدة؛ تمكنه من الخروج برؤية شمولية حداثوية،واعية بدورها، وحراكها الإبداعي.
ولعل غنى تجربة بعض مبدعينا أسعفتهم في الخروج بمنظورات جديدة حول مفهوم المعاصرة والتراث، يقول الشاعر عبد الكريم الناعم:”إن الشعر هو الشعر من الناحية الزمنية،نقول الزمنية لأن في لفظة( الحداثة) ما يوحي بها؛ فالحداثة تستدعي في البال( القدامة)؛ هذا من الناحية الجوهرية للشعر،لا قدامة ولا حداثة، فكم من قديم موغل مازال يشع منذ آلاف السنوات،وكم من شعر حديث من الناحية الزمنية يولد منطفئاً، لأن ما استولده غير قادر على استدعاء تلك الشعلة، أولاً من إهابه الروحي لما يصل بعد درجة ما يليق بتلك الروح”(135).
وبهذا التصور، فإن الحداثة- عند الناعم- لا ترتبط بالناحية الزمنية إطلاقاً بقدر ارتباطها بالناحية الإبداعية؛ فمقياس الحداثة-عنده- يقاس بجودة المنتج الإبداعي وشاعريته ولا غير سواه؛فهو مع القديم المحلق جمالياً،والمشع إبداعياً حتى زماننا الراهن،وضد الحديث المنطفئ الذي يخلو من بريق الجمال،وسحر الإبداع؛وبهذا المعنى يصرح قائلاً:”أنا أنظر إلى الشعر الذي يهزني،ويأخذني إلى أمدائه التي يختارها هو؛ولا فرق عندي في الشكل،فالشكل مظهر تلك الروح ومجلاها. فبضعة أبيات للمجنون مثلاً تأخذني كما تأخذني قصيدة رائعة لأدونيس، أو محمود درويش في زمننا الراهن”(136).
وبهذا الحس الشاعري يصلنا الناعم إلى نتيجة مهمة مؤداها: إن الحداثة لا تقاس إلا بالإبداع،وكم من الشعراء في زمن غابر مازالوا يثيرون فينا هذه الحساسية، ويحركون مشاعرنا؛وكأن نتاجاتهم وليدة الحاضر،وتفتح أفق المستقبل. ولهذا يرى الناقد خليل الموسى أن الشعر الحداثي هو ابن المخيلة والرؤيا، التي لا غنى له فيها عن التراث،وهو من أبرز تقنيات شعرية القصيدة الحداثية التي ما انكفأت على نفسها إلا لتعيد إلى نفسها توازنها الفني، ومصدر تدفقها، واستمرارها في ركب الحضارة، والتطور الدائم؛ إذ يقول:” استحضار التاريخ، والأسطورة، والتراث الشعبي ضمن تقانات شعرية حداثية مختلفة هو أهم تجليات الرؤية الشعرية؛ كأن تكون هذه الشخصيات مثلاً تعبيراً عن حالة معاصرة؛ كما فعل مطران في قصيدة(مقتل بزرجمهر) و(نيرون) للتمثيل على الحرية؛ أو كأن تكون قناعاً يتقنع بها الشاعر ليقول ما يريد قوله من خلالها.. إن هذا الاستحضار استلهامي،وهو يخفف من حدة المباشرة والغنائية،وأنا فعلت ذلك في عملي الطويلين( العودة إلى أوروك)و(ثلاثية الدم والنهار في أسفار المتنبي)، لكن الشخصية التاريخية تخرج من إطارها التاريخي لتأتي بحلة أسطورية.. هذا هو الشعر دائماً وأبداً. ومن هنا يقال: إن هذه الصورة التاريخية غير حقيقية أو موضوعية،هي تاريخ صنعته ذات الشاعر المتكلمة،فالتاريخ واقع المادة الأولية، والشعر ابن المخيلة والرؤيا؛ ولذلك فالشاعر ليس مؤرخاً وإلا فإنه يكون ناظماً؛ولكنه يتكئ على الموروث التاريخي، أو الديني، أو الأسطوري، يمرر بوساطته ما يريد أن يقوله بطريقة غير مباشرة؛وهذا ما فعلته في قصائدي”(137).
ووفق هذا المنظور الذي نستشفه من المبدع خليل الموسى يوجهنا إلى قضية مهمة،وهي أن الاستحضار التاريخي المؤثر يبرز بوساطة استحضار الشخصيات كأقنعة نواجه من خلالها مأساة الحاضر، بوصفها السبيل الأنجع للإفادة من مادتنا التراثية في نصوصنا الإبداعية؛ شريطة طرح آراء ومنظورات واقعية تحاكي زماننا الراهن،ومآسينا المعاصرة؛ فالشاعر المبدع هو الذي يحرك الشخصية التاريخية وفق متطلبات جديدة،ومنظورات مغايرة؛ وهنا يصلنا الموسى إلى فهم واضح ودقيق إلى مسألتين متداخلتين،وهما:)استدعاء التراث)و(استلهام التراث) قائلاً:” ينبغي لنا أولاً أن نفرق بين استدعاء التراث واستلهامه،فالاستلهام منزع أسلوبي حداثي؛كثير من شعراء ما قبل الحداثة استدعوا التراث،وعبروا عنه؛ في حين أن شعراء الحداثة عبروا به،وبواسطته عن تجارب معاصرة ،ومن أهم هؤلاء السياب الذي فتح بوابة الحداثة على مصراعيها؛وقد وظف في ذلك الشخصيات الأسطورية، والدينية، والتاريخية في قصائده… والملاحظ أن استخدام هذه الشخصيات مختلف بين التعبير عن الشخصية الدرامية والقناع”(138).
وتأسيساً على هذا الوعي الفني الذي خلص إليه الناقد خليل الموسى نصل إلى نتيجة مؤكدة،وهي: إن استحضار التراث أو عدمه ليس ذا قيمة تذكر إن لم يكن الشاعر خصب الرؤيا،عميق الإحساس،بارع التخييل في توظيف هذه التقنية، بما يخدم بنية القصيدة الحداثية،ويرتقي بها فنياً وجمالياً؛فكم من الشعراء قد استفاضوا واستطالوا طولاً وعرضاً في توظيف هذه التقنية في نصوصهم،وما زالت نصوصهم إلى الآن هشة،واستحضارها لم يزل ضحلاً، مؤدلجاً لغايات أيديولوجية، أو أخلاقية بعيدة كل البعد عن مسارها الفني؛وكم من الشعراء لم يستحضروا سوى شذرات أو لمحات، أو إشارات تاريخية عابرة جاءت بغاية الانفتاح، والخصوبة، و الدهشة والروعة الإبداعية لدرجة فجرت حيوية قصائدهم فنياً وجمالياً،وأمدتها بطاقة إيحائية مضاعفة،نظراً إلى امتلاكهم الرؤيا الفتانة أو الحساسة في اقتناص دهشة الاستثارة والإبداع.
ولعل ما يعضد رأينا،ويأخذ بيده إلى جادة الصواب قول الناقد: محمد بن مريسي الحارثي الذي مؤداه:” من المسلم به أن مجرد استحضار التراث أياً كان مصدره لا يعد مقياساً من مقاييس تقدم الشعر؛ وفي المقابل،فإن عدم الالتفات إلى التراث في بناء الشعر لا يعني إخفاق الشاعر وتأخر شعره، فالقضية تكمن في قدرة الشاعر على التعامل مع اللغة تعاملاً جديداً، يلتقي فيه التراث مع رؤية الشاعر الجديدة،والذي يدفع إلى ترثنة العصرنة أمور منها: إظهار البراعة، والتباصر بالثقافة الشعرية التراثية؛ومنها سيطرة التراث سيطرة مخزون وذوق،وثالثة وهي البحث عن تهيئة المتلقي للنص الشعري الجديد ،ومن ذلك الاستثارات الطللية،والاقتباسات الافتتاحية من آي الذكر الحكيم أو من الشعر التراثي. ولما كان الشعر المطروح في الطريق يتناول في نظمه قضايا عربية مشتركة،فقد تكررت الأفكار في هذا المستوى من الشعر،وتكررت الرموز والأقنعة لشخوص تراثية من أمثال:(عنترة العبسي- وخالد بن الوليد- وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم).(139).
وبناء على هذا، لا يتطور الموروث في شعر الحداثة إلا حينما يرتقي بالواقع،ويغير منظوراتنا السائدة إليه،ويوظف مرجعياته، وشذراته الإيحائية كلها من أجل الارتقاء بالقصيدة الحداثية في بنيتها الدلالية؛ فالتراث إن لم يطور منظومات القصيدة وشذراتها الإيحائية كلها،ويحفز مداليلها سيكون رهطاً على مداليلها، ورؤاها الجوهرية ،ويثقل كاهلها بما لا تستطيعه، ووفق هذا المنظور،سارت بعض الدراسات النقدية الموفقة التي طالبت مبدعينا بمحاورة التراث وابتثاث ما تفيد منه في إغناء منظورات القصيدة الحداثية،وتطوير أدواتها، بما يحقق لها التفرد والتميز التام. 
ويمكننا بعد هذه الدراسة الفاحصة الخروج ببعض النتائج والضوابط المهمة عن إشكالية الحداثة،نذكر منها ما يلي:
1- إننا نلحظ الخلط الواضح- عند أغلب شعراء الحداثة المعاصرين- بين المعاصرة والتراث؛ وهذا دليل تذبذب هذا المصطلح، ورجرجته لدى الكثيرين ممن يشتغلون في حقل النقد والإبداع.
2- إن تحديث التراث هو اللبنة الأولى في حركة الحداثة لتبئير الرؤية الشعرية،والنفاذ بها إلى آفاق رؤيوية منفتحة.
3- إن القصيدة الحداثية بانفتاحها على التراث تفتح آفاق رؤية المتلقي، لتحثث تراثه دائماً،وتحفزه دائماً وأبداً إلى الرجوع إليه،وبذلك تمتن القصيدة الحداثية أواصر التواصل والحميمية بين المتلقي وتراثه الحضاري؛وهذه ثمرة مهمة من ثمار توظيف التراث برؤية حداثوية معاصرة.
4- إن توظيف التراث يقتضي مهارة إبداعية فائقة وقدرة على استنطاق التراث بعين إبداعية ترقى به وترتقي؛ ولذا، فإن ثمة خطورة بالغة في توظيف التراث وإخراجه من ماضويته وتحجره قد يودي بمسارات القصيدة الإبداعية، ويهوي بها في هاوية العقم، والتصحر، والجفاف؛ والعجز الرؤيوي، الأمر الذي لا يصب في مصلحتها بالتأكيد.
وصفوة القول أخيراً:
إن المفرزات المعرفية المعاصرة قد رجرجت الكثير من المصطلحات،وزمن ضمنها(مصطلح الحداثة)؛وما زالت الإشكاليات محتدمة وقابلة للمزيد من الاجتهادات والاقتراحات؛وما دراستنا هذه إلا ريشة في مهب الريح كل ما أرادته أن أثير هذه الإشكاليات من جديد،لأنه من خلالها ينطلق فهمنا للكثير من القضايا الأدبية التي تفرزها حركة الحداثة كل يوم في عالمنا العربي المعاصر؛وما نود تأكيده في الختام: أن منظومة المفرزات التقنية والمعرفية التي ظهرت بوادرها في كل العلوم قد أظهرت خصوبة فنية ووعياً جمالياً خاصاً في معالجة القضايا والظواهر الفنية؛وهذا ما ينطوي على حركة الحداثة في دراستها لبنية القصيدة الحداثية؛ إذ أظهرت الوعي التام بالمثيرات الجمالية التي تحققها القصائد الحداثية،رغبة في تجذير إبداعها على ما هو إشكالي وموارب ومغاير ومستثير جمالياً؛ ولهذا،نوعت في أساليبها،وطرائقها،وتقنياتها، لتحقيق هذه الغاية،والارتقاء بها جمالياً؛وهذا ما جعل لكل شاعر رؤيته،وتجربته، واجتهاده الفني،لإغناء فضاء قصائده، بالشكل الأسلوبي الفني الذي يبتغيه ويرتضيه ويسعى لإظهاره؛وذلك لإكساب قصائده شرعيتها الفنية، وهويتها الإبداعية المميزة؛وتبعاً لهذا، اختلفت الرؤى، وتعددت المنظورات،وكل ذلك يصب – بالتأكيد- في مصلحة المبدع، والمتلقي، والعملية الإبداعية بالدرجة الأولى،وهذا ما رمناه في هذه الدراسة التمحيصية المتواضعة.
الحواشي:
(1) الشيخ،محمد،2006- جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد،مجلة عالم الفكر،ع3،مج34،ص248.
(2) نقلاً من المرجع نفسه،ص248.
(3) المرجع نفسه،ص248.
(4) شرتح،عصام ،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(حداثة السؤال أم سؤال الحداثة)،دار الأمل الجديدة،دمشق،ط1،ص21.
(5) المصدر نفسه،ص357.
(6) المصدر نفسه،ص26.
(7) المصدر نفسه،ص26.
(8) المصدر نفسه،ص26.
(9) المصدر نفسه،ص26.
(10) المصدر نفسه،ص26-27.
(11) المصدر نفسه،342.
(12) المصدر نفسه،ص344-345.
(13) المصدر نفسه،ص344.
(14) المصدر نفسه،ص345.
(15) المصدر نفسه،ص345.
(16) المصدر نفسه،ص345.
(17) المصدر نفسه،ص345.
(18) المصدر نفسه،ص345-346.
(19) المصدر نفسه،ص346.
(20) المصدر نفسه،ص346.
(21) المصدر نفسه،ص346.
(22) المصدر نفسه،ص115-116.
(23) المصدر نفسه،ص116.
(24) المصدر نفسه،ص116.
(25) المصدر نفسه،ص279.
(26) المصدر نفسه،ص279.
(27) المصدر نفسه،ص279.
(28) المصدر نفسه،ص279.
(29) المصدر نفسه،ص279-280.
(30) المصدر نفسه،ص189- 190.
(31) برتليمي،جان،1970- بحث في علم الجمال،دار نهضة مصر بالفجالة،ط1،ص275.
(32) المرجع نفسه،ص275-276.
(33) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص75.
(34) المصدر نفسه،ص75-76.
(35) المصدر نفسه،ص76.
(36) المصدر نفسه،ص240.
(37) المصدر نفسه،ص240-241.
(38) أنقار،سعاد،2009- البلاغة والاستعارة، من خلال كتاب (فلسفة البلاغة)ل. ريتشاردز،مجلة عالم الفكر،ع3، مج37،يناير- مارس،ص197.
(39) المرجع نفسه،ص197.
(40) المرجع نفسه،ص197.
(41) نقلاً من عيد،رجاء،- فلسفة اللغة بين التقنية والتطور،منشأة دار المعارف بالاسكندرية،ص45.
(42) أنقار ،سعاد،2009- البلاغة والاستعارة،ص196.
(43) المرجع نفسه، ص196- 197.
(44) المرجع نفسه، ص192.
(45) المرجع نفسه،ص194.
(46) نقلاً من الوعر،مازن، 2004- اللسانيات والشعر،مجلة علامات في النقد،ح52،م13، يونيو،ص34.
(47) نقلاً من النعيم،مشاري بن عبد الله،2009- الهوية والشكل المعماري،مجعالم الفكر، ع3،مج37، يناير- مارس،ص224-225.
(48) أنقار،سعاد،2009- البلاغة والاستعارة،ص184.
(49) المرجع نفسه،ص184.
(50) المرجع نفسه،ص184.
(51) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص177.
(52) المصدر نفسه،ص80.
(53) المصدر نفسه،ص338.
(54) المصدر نفسه،ص39.
(55) عصفور،جابر- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي،دار المعارف،مصر(د.ت)،ص270. نقلاً من أنقار،سعاد،2009- البلاغة والاستعارة،ص185.
(56) شرتح، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص27.
(57) المصدر نفسه،ص27.
(58) المصدر نفسه،ص27.
(59) المصدر نفسه، ص27.
(60) المصدر نفسه،ص27-28.
(61) المصدر نفسه،ص29-30.
(62) المصدر نفسه،ص30.
(63) المصدر نفسه،ص37.
(64) المصدر نفسه،ص37.
(65) المصدر نفسه،ص38.
(66) أدهم،سامي،2005- نحو نقد جديد: الكاوس والتشظي، مجلة (أوان) البحرين،ع(7+8)،ص32-33.
(67) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص85.
(68) المصدر نفسه،ص84.
(69) المصدر نفسه،ص83.
(70) المصدر نفسه،ص367.
(71) المصدر نفسه،ص30.
(72) المصدر نفسه،ص30.
(73) المصدر نفسه،ص22-23.
(74) المصدر نفسه،ص23.
(75) رواينية، الطاهر،2007- سيميائية التواصل الفني، مجلة عالم الفكر،ع3، مج35،يناير- مارس،ص253.
(76) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص415.
(77) المصدر نفسه،ص 415.
(78) المصدر نفسه،ص82.
(79) المصدر نفسه،ص82.
(80) المصدر نفسه،ص83.
(81) المصدر نفسه،ص83.
(82) المصدر نفسه،ص283-284.
(83) المصدر نفسه،ص ،127.
(84) نقلاً من : رواينية، الطاهر،2007- سيميائية التواصل الفني،ص275.
(85) المرجع نفسه،ص256.
(86) العبدو،زكوان،2007- مفهوم الرؤيا في النقد العربي المعاصر،مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية،ع2، مج29،ص35.
(87) شرتح،عصام،2012- شعرية المواربة والاختلاف(دراسات تحليلية في بنية القصيدة المعاصرة)،دار الأمل الجديدة، دمشق، ط1، ص11.
(88) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص28.
(89) المصدر نفسه،ص30.
(90) المصدر نفسه، ص436-437.
(91) المصدر نفسه، ص437.
(92) المصدر نفسه،240.
(93) المصدر نفسه، ص76.
(94) المصدر نفسه،76.
(95) المصدر نفسه،ص204.
(96) المصدر نفسه، ص397.
(97) المصدر نفسه، ص176.
(98) المصدر نفسه، ص365-366.
(99) موهو،حسن،2005- ما بعد الحداثة صوت وصدى،مجلة أوان،جامعة البحرين،ع(7+8)،ص165.
(100) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص279.
(101) موهو،حسن،2005- ما بعد الحداثة صوت وصدى،ص169.
(102) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص297.
(103) المصدر نفسه، ص279.
(104) المصدر نفسه، ص297. 
(105) المصدر نفسه، ص279-280.
(106) المصدر نفسه، ص299.
(107) شادلي، المصطفى،2007- في سيميائية التلقي، مجلة عالم الفكر،ع3،مج35،يناير- مارس،ص207.
(108) المرجع نفسه، ص207.
(109) رواينية،الطاهر،2007- سيميائيات التواصل الفني،ص260-261.
(110) محمد عدمان،عزيز،2009- حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص، مجلة عالم الفكر، مجلة عالم الفكر، ع3،مج37، يناير-مارس،ص75-76.
(111) إقبال عروي،محمد،2009- مفاهيم هيكيلة في نظرية التلقي،مجلة عالم الفكر العربي، ع3، مج37، يناير- مارس،ص54.
(112) نقلاً من المرجع،ص55. وانظر: إيزر،فولفغانع، 1998- التخييل والخيالي من منظور الأدبية؛ تر: حميد لحمداني،والجلالي الكدية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،ص19.
(113) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص207.
(114) محمد عدمان،عزيز،2009- حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي،ص79-80.
(115) عدمان،عزيز،2004- قراءة النص الأدبي في ضوء فلسفة التفكيك،مجلة عالم الفكر، ع2، مج33، اكتوبر- ديسمبر،ص62.
(116) محمد عدمان، عزيز،2009- حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي،ص78-79.
(117) المرجع نفسه،ص101.
(118) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص82.
(119) إقبال عروي،محمد،2009- مفاهيم هيكيلية في نظرية التلقي،ص63.
(120) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص339.
(121) المصدر نفسه،ص288-289.
(122) المصدر نفسه،ص278.
(123) عبد الرحمن،طه،1999- فقه الفلسفة: القول الفلسفي، كتاب( المفهوم والتأويل)، المركز الثقافي العربي،ص12. نقلاً من مقال: جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد، ص280.
(124) أومليل،علي،2004- الليبرالية الحقوقية والسياسة المطلوبة في عملية التحديث،حوار مجلة المستقبل،ع303، مايو،ص68.نقلاً من : جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد، ص274.
(125) نقلاً من: الشيخ،محمد،2006- جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد، ص276.
(126) نقلاً من المرجع نفسه،ص277.
(127) نقلاً من المرجع نفسه،ص277.
(128) المرجع نفسه،ص277-278.
(129) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،ص32.
(130) المصدر نفسه،ص31-32.
(131) المصدر نفسه،ص52.
(132) المصدر نفسه،ص75.
(133) المصدر نفسه،ص75.
(134) المصدر نفسه،ص77-78.
(135) المصدر نفسه،ص114.
(136) المصدر نفسه،ص115.
(137) المصدر نفسه،ص244.
(138) المصدر نفسه،ص244- 245.
(139) الحارثي،محمد بن مريسي،2004- القصيدة السعودية والمعاني المطروحة في الطريق،مجلة علامات في النقد، ج52،م13،يونيو،ص107.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *