شهلا العجيلي: الكتابة فعل فرديّ لا يغيّر العالم


*آية الخوالدة


عمّان-  تستذكر الروائية السورية شهلا العجيلي سماء الطفولة قبل الحرب، مستعيرة عيون الأطفال ولغتهم في روايتها «سماء قريبة من بيتنا» الصادرة عن منشورات ضفاف في بيروت، التي تناولت المعاناة الإنسانيّة التي عاشها أفراد خاضوا عذابهم الشخصي في ظل تحولات كبرى بفعل قوى استعمارية منذ القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر. 
الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة للروايات المرشّحة لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية للبوكر 2016، تسرد حكايات وحياة أفراد عاديين وتتتبّع أصولهم العائليّة، وهويّاتهم وطموحاتهم وآمالهم، ورغباتهم في الحبّ والحياة وهم يصارعون تفاصيل قاسية. 
والعجيلي روائية وأكاديمية حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، ومن أهم مؤلّفاتها: رواية «عين الهر» 2006، ورواية «سجاد عجمي»، 2012. وفازت بجائزة الدولة الأردنية في الآداب لعام 2009 في مجال الرواية عن روايتها «عين الهر». 
التقتها «القدس العربي» وكان هذا الحوار.

■ البداية من الحدث الأخير (البوكر)، كيف كانت تجربتك مع الجائزة، وكيف تلقّيت النتيجة بعد أن كنت المرشّحة الأقوى حسب توقّعات النقّاد و القرّاء؟
□ تجربتي مع الجائزة كانت متميّزة، كان لا بدّ من خوض غمار التفاصيل كلّها، بما فيها من انشغال، وترقّب وكثير من الحوارات الصحافيّة المطوّلة، والندوات، وتصوير أفلام تعريفيّة بالعمل المرشّح، وبتجربتي في الكتابة…بالنسبة للنتيجة لم تكن مرضية بالتأكيد، لكن ما دمت قد وافقت مع ناشري على المغامرة، فليس أمامي سوى القبول بشروطها، وهذا يحدث في (البوكر) دائماً، إذ لكلّ لجنة تحكيم رؤيتها، ولا أقول ذائقتها، فالذائقة أمر فرديّ معرفيّ جماليّ، في حين تنطوي الرؤية على توجّه ليس شرطه الجمال أو بلاغة النوع. 
■ عنوان روايتك الأخيرة، «سماء قريبة من بيتنا» له العديد من الدلالات، فهل أصبح حلم السوري اليوم الوصول إلى السماء؟ 
□ السوريّون يحلمون بما يستحقّون، بأرض فوقها سماء عادلة، ورحيمة، وصافية بلا ضجيج. السماء التي تتخذ معنى الموت والارتقاء باتت واقعنا لا حلمنا. أبطال روايتي يتذكّرون سماء طفولتهم التي قضوا تحت قبّتها لياليهم الأليفة، قبل الحرب، لا سيّما في الرقّة، حيث سماء الليل سحر عجيبّ! في لقاء جمع الراحلين عبد السلام العجيلي، وصديقه نزار قبّاني، قال له الأخير الذي كان يرقب سماءنا ذاتها: أعطني ليل الرقّة، فأعطك نساء دمشق وبيروت! ذلك الحنين إلى الصفاء والألفة والبساطة، هو ما تشير إليه «سماء قريبة من بيتنا»، التي يبحث عنها أبطال الرواية جميعاً: في (الرابية) أو (تلاع العلي) في عمّان، وفي مخيّمات اللّجوء، وفي (سراييفو)، وفي (حيفا)، وفي (لندن)… 

■ انفتحت الرواية السورية على قصص الحرب منذ بدء الأزمة، هل تعتقدين أن السرد يمكن أن يوازي الواقع؟ 
□ لا أبحث عمّا يوازي الواقع أو يتفوّق عليه مثلاً، فالسرد المكتوب شكل يختلف وقعه على المتلقّي عن السرد البصريّ الذي يراه على شاشات التلفزيون، أو في التشكيل، أو في السينما. السرد عموماً يعيد ترتيب الواقع وفقاً لرؤية جماليّة يتناوب فيها التراجيديّ مع الكوميديّ، والبطوليّ والدراميّ والمؤسطر. ليس هناك إظهار لحالة واحدة أو نموذج واحد، كما هي الحياة حينما ننظر إليها من فوق، نظرة بانوراميّة، فنختار لرواياتنا الحكايات التي نراها دالّة، لتصير حكايات أيقونيّة، لم يلتفت إليها أحد من قبل، إذ تخرج مجبولة بالذاتيّ، الذي ينأى عن الاصطفاف الإيديولوجيّ الذي تبثّه الأقنية الإخباريّة في الواقع. تقدّم الرؤية الروائيّة ما لم يفكّر في تقديمه أحد عبر طريقة انتقاء الحكايات وترتيبها، وهذا يعطي واقعاً آخر، قد يكون مضادّاً، لكنّه بالضرورة مختلف معرفيّاً وجماليّاً. 

■ كيف يستطيع الكاتب العربي أن يوظف الأحداث الدائرة في الوطن العربي بأسلوب يرقى إلى اللغة الأدبية ومضامينها؟
□ اللّغة مسألة شخصيّة، تتعلّق بالثقافة والحساسيّة، وبفهم الكاتب لموقع شخصيّاته. لغة الشخصيّات الروائيّة هي لغة الناس في بيوتهم، وفي شوارعهم، ومراكز عملهم، وهي لغتهم الحميمة في التعبير عن الحبّ والكره والاشمئزاز، علينا فقط أن نفعّل خاصيّة استخدام البدائل، وهذا يرجع إلى المعرفة الذاتيّة بالمعجم، وبأساليب القول، وبكلام الناس من ثقافات مختلفة، أولئك الذين حوّلوا اللّغة إلى قوالب تعبيريّة سهلة الاستخدام.

لغة (سجّاد عجميّ) تنتمي إلى العصر العبّاسي الثاني، الذي أسمّيه (عصر الباروك العربيّ)، لغة فصيحة، وفيها أساليب بلاغيّة متعدّدة، لكنّها قريبة من روح الناس الذين يعيشون في القرن الواحد والعشرين، فأفراد النسق الثقافيّ الواحد يرثون قيمهم المعلنة، وعلاقاتهم المضادّة لها، ولا يتغيّرون كثيراً على مرّ العصور من حيث الأغراض المستمرّة، كالحبّ والكره والأمانة والخيانة، والصدق والكذب، ويرثون أيضاً التعبير عنها، وما علينا سوى تقليب البدائل. أمّا لغة «سماء قريبة من بيتنا» فهي بسيطة وطفوليّة وعذبة، كما وصفت في النقد، متناسبة مع وضع الحرب والمرض، حاملة للعلاقات الإنسانيّة التي حرّرها الموت الوشيك من (التابو) الكاذب، والادّعاء، والتحذلق المدينيّ أو السلطويّ، أو الطبقيّ، فضلاً عن لغة الشخصيّات التي تتخذ مواقع الأطفال في كثير من الأحيان. 
■ في جميع رواياتك كانت مدينتك الرقة حاضرة، فكيف ترين الكتابة في زمن التطرف؟ 
□ الكتابة ليست خطّة طوارئ، وأنا لا أكتب بناء على المستجدّات، لعلّها مشروع ذاتيّ! الرقّة ذاكرتي الأولى، التي انشغلت بها منذ «عين الهر» 2006، قبل أن ينقاد العالم إليها، وقبل أن يقترن اسمها الشفّاف بالتطرّف، وربّما يجهل كثيرون أنّ اسمها جاء من حجارتها البيضاء التي رقّقتها موجات الفرات وصقلتها، وهي بفتح الراء، لا بكسرها. الكاتب يحبّ أن يحوّل علاقته بالمكان الأوّل إلى لغة، كأنّه بذلك يستضيف أحبّته في بيته، ويعرّفهم إلى المفردات التي جعلت منه كاتباً، وفي الوقت ذاته يستأثر بمكانه ويحميه من الغياب، ومن تقلّبات الذاكرة. الكتابة لا تقابل التطرّف بمثله، فما يرعب الكاتب هو التسلّط وغياب العدل في أيّ زمان كان، لكنّ لحظة مثل هذه التي نعيشها، تزيد حساسيّته، وتدفعه ليقاوم الشعور بالضآلة، وإلى أن يكون حقيقيّاً في رغباته وطموحاته، وكيلا يموت من الإحباط عليه أن يبتعد عن الشعارات والعبارات التي تستبيح المعنى، كأن يعرف المعنى الحقيقي لفكرة أنّ الكتابة مقاومة! المقاومة هنا ليست حدثاً راهناً ينتسب إليها حالما يشعر بأنّ اللحظة مواتية، هي مشروع كان وسيظلّ، وهي ليست بالنسبة إليه فعلاً عسكريّاً وجماعيّاً، الكتابة فعل فرديّ، لا يغيّر العالم. ما يغيّر العالم هو تاريخ الكتابة، وتاريخ الفكر والأدب، الذي يطرد بسيرورته ذوي الأهواء النفعيّة. 
■ تسعين إلى تصوير المرأة في أعمالك كامرأة جبارة ونموذج مستقل، فما هو السر؟
□ أليست هي حقيقة المرأة التي غيّرها الادعاء! كلّما تقدّمنا في تجارب الحياة ندرك الجبروت الذي انطوت عليه الأمّهات، والجبروت ليس صراخاً وتعبيرات وقحة، بل قدرة على تحويل الأشياء إلى ما يمكّن من الاستمرار في الحياة، وجعل ما يُظنّ أنّه مستحيل ممكناً، وهذا ما تفعله النساء اللواتي يقمن أود العائلات التي يهجرها رجالها في الحرب، النساء اللواتي يحوّلن طاقة العالم من البشاعة إلى الجمال، الفقيرات، والمريضات، والوحيدات، والمقهورات، والكريمات، اللواتي يواجهن مجتمعات اعتادت الظلم، وتجاهلت أفكاراً نبيلة عن التكافل والرعاية، إذ يخضعن للتهميش والاستغلال، والتنمّر، والتحرّش، ويملكن القدرة على التكيّف والغفران والمقاومة. إنّهنّ نساء مغيّبات من النماذج الروائيّة، التي تعجّ بالحبيبات المنكسرات أو الجميلات الخائنات. الرجل لا يعرف المرأة جيّداً، وأيضاً تحتاج النساء إلى من يذكّرهنّ بقدراتهنّ العجيبة.

■ أقرّ الأردن قانون حماية اللغة العربية لحمايتها من الاندثار في الحياة اليومية والأدبية أيضا، فيما يعتمد الكثير من الكتاب على اللغة العامية المبتذلة أحيانا بحجة إيصال الفكرة أو المعنى، ما مدى تأثير ذلك في الكتابة الأدبية خاصة الرواية؟ 
□ القوانين مهمّة، وأنا معها، ومع متابعتها، لكنّها ليست كلّ شيء، لا بدّ من الوعي بقضيّة اللّغة وعلاقتها بالوجود، وبالهويّة، وبالشعور بالذّات، والتمايز، وبالقدرة على تواصل أفضل، وأبلغ أثراً، فماذا نعني بعبارة من مثل: «تخونني اللّغة»؟! أي تعجزني، أنا لا أريد للغتي أن تعجزني، أو تعجز أولادي وطلبتي. أريد أن يكونوا واضحين في تعبيرهم عن ذواتهم ومؤثّرين، وقادرين على التواصل مع الماضي والمستقبل، ننتقل بعد ذلك إلى الجماليّات، والعاميّة أحد مستوياتها، وموضوع العاميّة مختلف عن الابتذال، الألفاظ بذاتها قاصرة، والاستعمال هو الذي يحدّد أثرها، ذلك ما سمّاه القدامى بالنظم، الذي يتحوّل إلى الأسلوب. النظم هو الذي يحدّد أثر المفردة العجماء بذاتها، التي قد تبدو نابية في سياق ومقبولة في آخر، والبدائل مطروحة دائماً، وهناك دائماً الأنسب، لكنّ ذلك يعتمد على معرفة الكاتب وحساسيّته. الأدب نوع خاص من استعمال اللّغة، وهو ليس لغة الشارع بالتأكيد مهما اقترب منها. 
■ أيهما أصعــــب بالنسبة لك الكتابة أم النقد ولماذا؟
□ كلّ منهما معاناة ومتعة، ويحتاج شجاعة وجهداً ومثابرة. بالنسبة إليّ كلّ منهما يساعد الآخر، ويغنيه، ولا يقف ضدّه. الخبرة تعزّز القدرة على التعامل مع آليّات النقد، بمعزل عن آليّات الإبداع. لكن لا أستطيع أن أنخرط في مشروع نقديّ كبير حينما أكون قد شرعت في مشروع روائيّ، فكلّ عمل يتطلّب التفرّغ التامّ، والإخلاص التام. في المجمل العمل الثقافيّ واحد في إطار نظريّة الأدب، ما دمنا نعرف حدود النظريّة، وعلاقتها الأصيلة بالوجود الإنسانيّ، وبالحياة في كلّ عصر من العصور التي عرف فيها الإنسان الإبداع.
■ ما مدى حاجتنا إلى النقد الثقافي في سبيل تطوير العملية الإبداعية؟
□ النقد الثقافيّ ليس حاجة مباشرة، ولا منهجاً منضبطاً، بقدر ما هو طريقة في رؤية النصوص والتعامل معها، بناء على حالة التواصل غير المسبوق التي يعيشها العالم، إذ تتواصل الثقافات بعضها مع بعضها الآخر، تواصلاً سلبيّاً عدائيّاً أو تواصلاً إيجابيّاً. لم يكن للنقد الثقافيّ أن يأتي مبكّراً في تاريخ الأدب، إذ لا بدّ من حالة التراكم التاريخيّ التي عزّزها تحوّل بعض الحضارات إلى ثقافات، ثمّ استيعاب التنوّع والاختلاف، واستيعاب الرغبات الاستعماريّة والتدميريّة لدى البشر، ليكون النصّ الروائيّ عميقاً ومعرفيّاً. النقد الثقافيّ لا يبالي بالنصّ الضحل، أو الواحديّ، فاعليّته تتضح مع النصوص التي لها علاقة بالهويّات المعقّدة والتعبيرات الجماليّة عنها، تلك التي تخوض في أفكار تحوّلات المجتمعات من البدائيّة الطقوسيّة إلى الحداثة التي تعود في نقطة من نقاطها إلى الوحشيّة المغرقة، إذ تعود البشريّة إلى اللحظة التي انطلقت منها. 

■ في ظل ازدياد أعداد الروايات العربية، كيف ترين هذا الكم المتزايد من كتابة الرواية بعين الناقدة وعين الروائية؟ 
□ أن ينشغل الناس بالفنّ والكتابة خير من ألاّ يفعلوا، فالكتابة تستوجب القراءة والبحث عن المعرفة وتجويد اللّغة. لا أقلق، كما يفعل كثيرون، من تزايد عدد الكتّاب والنصوص، فالرغبة في الكتابة تعني رغبة في الوجود، والمنافسة، والتفكير، وهذا حقّ للجميع، ويجب أن يكون محرّضاً للعمليّة النقديّة. سيبقى الأصلح، والمثابر، والشجاع، لأنّ الرغبة والشغف ليسا كافيين للاستمرار. ما يقلقني هو تراجع النقد، وضآلته، فالنقد يحتاج إلى دراسة وبحث وثقة بالأدوات، ويحتاج طابعاً عقليّاً مميّزاً، أنا أحرص على أن أكون ناقدة بقدر حرصي على أن أكون كاتبة، لأنّ النقد يدفعني دائماً إلى التطوّر، ولا نقد من غير فلسفة وأفكار ومجادلات، وهو يحمي من الوقوع في التكرار، والضحالة، والأنانيّة أيضاً، وأعتقد أنّ وقوف الكاتب في وجه أنانيّته يحتاج إلى كثير من الشجاعة. نحن، بوصفنا نقّاداً، قلّة في العالم العربيّ، لاسيّما في انتمائنا إلى المدارس ذات الولاء لعلم اجتماع الأدب. عموماً على الكاتب أن يكتب وأن يترك الآخرين ليكتبوا، بل ليساعدهم على ذلك بترويج الجودة، وأعتقد أنّ من حقّنا بعد أن قطعنا هذا الشوط في النقد والإبداع، أن نمتنع عن التواصل مع نصوص جودتها غير مرضية، لأنّها تضرّ بالذائقة.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *