صمويل بيكيت.. ضحية الكآبة والخجل



القاهرة- عرف القارئ العربي «صمويل بيكيت» من خلال ترجمة وتقديم مسرحياته الشهيرة «في انتظار جودو – الأيام السعيدة – لعبة النهاية» على خشبة المسرح، لكن بيكيت الروائي لم يعرفه القارئ العربي، رغم أنه بدأ روائياً، وظل يكتب هذا الجنس الأدبي، حتى وفاته في ديسمبر/كانون الأول عام 1989.
هو كاتب لم تكن تهمه الشهرة، ولم يسع إليها، فنادرا ما كان يوافق على إجراء حوار صحفي معه، أو يحضر ندوة أدبية، وكان لا يحب الحديث عن كتبه، وظل على هذه الحال حتى قارب الخمسين، دون أن يحظى بأي قدر من الشهرة، إلى أن عرضت مسرحيته «في انتظار جودو» في باريس عام 1953 وبدأ الالتفات إلى أعماله الروائية، مع انتشار موجة الرواية الجديدة في فرنسا، التي صنف كواحد من كتابها، رغم أنه لم تكن تجمعه بأقطابها أية صلة، وكلما زادت شهرته، تراجع إلى الظل، وغدت أعماله أكثر تعقيدا، فقد كان طوال عمره خجولاً، ميالاً إلى الصمت، يكره الاجتماعات العامة وكثرة الكلام، حتى التفاصيل الخاصة بحياته أضحى من الصعب معرفتها، وعلى الرغم من غموض أعماله وحياته الشخصية، إلا أنه كان من أبرز الظواهر الأدبية، وأشهر الكتاب في القرن العشرين، حيث إنه ارتبط بما سمي «مسرح اللامعقول».
كان النقاد أكثر حيرة من غيرهم في التعامل مع أعمال بيكيت، فالناقد «هيوكنر» الذي ألف كتابين عنه، تعرض لمشكلات كبيرة حين حاول أن يستخلص شيئا من الحوار معه حول أعماله، فلم يخرج من تلك المقابلة إلا بدوار ذهني، وحين خرج من عنده ضل الطريق ودخل حارة مسدودة، وكل ما علق بذهنه هو نصيحته له أن يذهب ويقرأ أعماله، ويصغى إلى شخوصه، لعله يستطيع أن يستنطقها، وقد أخذ الناقد بنصيحة بيكيت وعكف على أعماله، درسها وحللها وشرحها وألقى الضوء على ما بها من أفكار، وأصدر سنة 1961 كتابه «بيكيت دراسة نقدية»، وفي عام 1967 أصدر كتابه الثاني «دليل القارئ إلى أعمال بيكيت».
عندما أعلنت الأكاديمية السويدية عام 1969 فوز بيكيت بجائزة نوبل، انقسم النقاد إلى فريقين، فريق أثنى عليه، وآخر هاجمه، وقال أحد النقاد: «هناك من هو أولى منه بهذا الاختيار، فبيكيت ارتضى في النهاية أن يضع أدبه في اللاشيء في كلمات، وأن يبني عملاً يتكرر إلى ما لا نهاية» في حين يرى ناقد آخر: «إذا قرأنا أعماله بإمعان، أدركنا كم تختلف شخصياته بعضها عن بعض، وأنه لم يحدث أن كرر نفسه»، لكن الطرفين يتفقان على أن كتاباته من أكثر المحاولات تفردا في الأدب، وتميزاً أيضاً في قطيعتها مع ما كان يطلق عليه أدبا في العصور السابقة.
ولد صمويل بيكيت في دبلن بإيرلندا في 13 من إبريل/‏نيسان سنة 1906 وكانت نشأته إيرلندية بروتستانتية، لكنه ذهب إلى باريس، ليعمل مدرساً للغة الإنجليزية من سنة 1928 إلى 1930 وعاد إلى إيرلندا بعد ذلك ليدرس اللغة الفرنسية، ثم رجع إلى فرنسا ليعيش فيها حتى وفاته، وقد ربطته بجيمس جويس صداقة عميقة، ليس فقط لأن جذورهما الاجتماعية والثقافية متشابهة، بل لأنهما كانا ضحية الكآبة، وقد جمع الصمت بينهما، فكانا يجلسان معا لساعات دون أن ينبس أحدهما بكلمة.
بدأ بيكيت حياته الأدبية بنشر ديوان شعري عنوانه «الطالع» سنة 1930 وفي عام التالي أصدر كتاباً صغيراً عن مارسيل بروست، ثم توالت أعماله القصصية ومنها «وخزات أكثر منها ركلات»، وهذه المجموعة أراد الناشر أن يستغل شهرة بيكيت بإعادة نشرها، لكن الكاتب كان مصراً على الرفض، ولم يوافق إلا بعد نقاش طويل وتردد، ومنذ عام 1945 أخذت أعماله تستحوذ على اهتمام كثيرين، وقد اعتاد أن يكتب كل عمل بلغتين، مرة بالفرنسية، ثم يترجمه إلى الإنجليزية بالدرجة نفسها من الامتياز.
وكما يقول الراحل «أحمد عمر شاهين» في تقديمه لرواية «مالون يموت» فإن بيكيت لم يكن يريد أن يهدم الأشكال الأدبية التقليدية، بل كان همه أن يوضح أن الأدب ذاته، يمثل استحالة أو إخفاقاً مستمراً، فهو لا يقوم إلا في غياب المعنى، بينما الأدباء ينزلقون به نحو التأكيد، بيكيت من كبار كتاب الأساليب، يتلاعب بكل القدرات الممكنة للغة والبناء الروائي، تدور أحداث رواياته حول القدر الإنساني، وقضايا البشر الكبرى، كالخوف من الموت ومعنى اللامعقول، أبطاله يبذلون جهداً نحو الكلام وتخونهم اللغة دائماً.
__________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *