الواقعية السحرية في رواية “الفردوس المحرم” ليحيى القيسي



د. حورية الظل


التراث الصوفي وعوالم الغيبيات والماورائيات هي النبع الثر الذي يمتح منه الكاتب الأردني يحيى القيسي روايته “الفردوس المحرم” التي صدرت مؤخرا في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فنجده يفسح المجال لسارده للانخراط في هذه العوالم الغامضة للكشف عن أسرارها والانغمار في أنوارها.
إذن، لماذا اختار الكاتب تناول الماورائيات في روايته؟ هل هي ذريعة للكشف عن الواقع المأزوم الذي يحث الكثيرين على البحث عن بدائل له؟ أم هذه العوالم تتجذر فعلا في الواقع ونحن الغافلون عنها؟ وكيف استطاع من خلال تناولها أن يجنح بروايته إلى تيار الواقعية السحرية التي اشتهرت بها روايات أمريكا اللاتينية وسبق وجودها في التراث العربي كألف ليلة وليلة وبعض الروائيين العرب أيضا تبنوها في بعض أعمالهم كمحمد الهرادي ويوسف زيدان وخيري شلبي وعمار علي حسن؟ 

حضور الماورائيات:

قبل تناول رواية الفردوس المحرم لا بد من الإشارة إلى رواية الكاتب التي سبقتها وهي “أبناء السماء” وتعد روايته الأخيرة امتدادا لها، “أحوالي لم تنقلب إلا في السنة العاشرة من الألفية الثانية من هذا العصر المحير حينما كتبت رواية سميتها أبناء السماء” ( الفردوس المحرم، ص12) وهذه الأحوال التي انقلبت تمثلت في تعمد الكاتب أن يغمرنا في الالتباس وخلط الأوراق من خلال استحضار سارد روايته السابقة “أبناء السماء” ووضعه في مواجهة شخصيات روايته الجديدة لظنها بأن له خبرة في مجال الغيبيات وطلب عونه، وهذه الطريقة في التناول حققت للرواية خصوصيتها ومكنتها من الانزياح عن السرد الخطي التقليدي فأضحى عندنا رواية داخل رواية.
ما يمكن ملاحظته أن السارد في رواية “الفردوس المحرم”” يتعرف على عالم الماورائيات من خلال سماع قصص الشخصيات حول هذا العالم حيث لكل شخصية قصتها المختلفة والتي تحاول توريطه فيها وسحبه لعوالمها الغامضة بدعوى معرفته بخباياه ورغبة منها في نيل مساعدته، أو هو نفسه يدفعه الفضول للتلصص على هذا العالم الغامض عله يشفي غليله للمعرفة التي يسعى للوصول إليها ويؤكد ذلك بقوله: “ولكني فرح أيضا لأني أطللت على هذا العالم المدهش والخفي ، الذي يبدو لي حكاية من غرائب القزويني وعجائبه” ص 102 لكنه يتدرج في المعرفة لينتقل في النهاية من الشك إلى اليقين فبعدما كان يلعب دور المشكك في كل ما تسرده عليه الشخصيات من قصص مستمدة من عوالم الماورائيات حيث تتحلى بالاقتناع التام بوجودها وهو سادر في رفض التصديق، لكنه بعد ذلك يعبر إلى اليقين بوجود هذه العوالم وينخرط هو أيضا في مغامرات توصله لعمقها حيث هناك الحقيقة المطلقة أو الفردوس المحرم الذي يسعى للوصول إليه.
إن أحداث رواية الفردوس المحرم تجعل المتلقي عاجزا عن وضع خط فاصل بين الواقع والخيال حيث الشخصيات متجذرة في الواقع لكن عوالمها خيالية وعجائبية، ومن ثم اندغام هذه المستويات في بعضها البعض تمكن الكاتب من الانزياح عن المألوف ليحقق خصوصية تجربته ويجعلها تنتمي للواقعية السحرية.
ومن ثم يضع الكاتب المتلقي أمام أسئلة عميقة فيورطه في عوالم الرواية وقصصها المتعددة التي يوحدها سعيها وراء الماورائيات. ويصر الكاتب في روايته على استحضار تلك الشريحة التي تؤمن بالغيبيات كالسحر ونهاية العالم والمدينة الفاضلة (شامبالا) والكنوز المخبأة والمحروسة من قبل الجن، والمخلوقات العجيبة والتي منها: “أمة النسناس من أنصاف البشر لهم رأس وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة يرعون كما ترعى البهائم” (الفردوس المحرم ص 155) وكل ذلك يكشف من خلاله الكاتب عن تغلغل الماورائيات في حياتنا اليومية.
وما يحقق الخصوصية للرواية كون الكاتب انزاح فيها عن المعتاد، لأنه كما هو معروف تؤمن بالغيبيات فقط تلك الشريحة المسحوقة تحت عجلة الواقع وهي الطبقة الشعبية فتسعى للماورائيات كنوع من البحث عن بديل لواقعها المأزوم، لكن يحيى القيسي يجعل شخصياته الساعية للقبض على هذا العالم من طبقة غير مألوفة في ثقافتنا وهي طبقة العلماء والمثقفين والضباط ورجال الأعمال والأطباء والمهندسين، إشارة منه إلى أن الواقع أصبح مؤذيا للكل ولم يعد أذاه يلحق طبقة دون أخرى، ولم تعد الغيبيات حكرا على الطبقة الشعبية، “ربما أخبركم عن ضابط الأمن ابن القبيلة الكبرى الذي قادني إلى الأغوار لأختبر له بعض الدفائن فيما فوهات المسدسات تحيط بي من كل جانب” ‘الفردوس المحرم ص 17). 
“الطيار الأسترالي الذي التقيته صدفة في أحد شوارع عمان وهو ينتظر نهاية العالم ويريدني أن أكون معه من الناجين” ص 17
والأجانب أيضا لم يظلوا في مأمن من الغيبيات حيث الكثيرون منهم يؤمنون بها رغم أن معظمهم من العلماء ويحاولون جعل الغيبيات أرقى من العلم فيلجؤون إلى تلك المنطقة الغامضة والمعتمة والتي تبقى أنوارها غير مكشوفة لكن السعي للوصول لها هو ما يمنح الأمل بالوصول لحقائق، لكن هذه الممارسات تلفها السرية وتمارس في الخفاء، إنه نوع من استحواذ الغيبيات على الوعي الجماعي حيث تظل هي الأمل الذي من خلاله ترد الشخصيات على إكراهات الواقع الذي أضحى منهكا بالحروب والأمراض وغيرها من المخاطر المتربصة ببني البشر فأصبحوا يأملون في حل المشاكل المستعصية من خلال الغيبيات كواقع جديد يسعون للسيطرة عليه.
وما يمكن تأكيده، أن الكاتب من خلال روايته يحاول التنبيه لوجود عالم الغيبيات في الواقع كحقيقة ولو نسبيا لكن يتم تجاهله. “لم أكن أعرف الحضور الهائل لكل ما هو خفي وما ورائي في حياتنا اليومية” ص 23، لكن الطريف أن الماورائيات في نظر شخصياته تعد من اليقينيات وهي جزء من واقعهم وذلك ما يجعل الرواية تنتمي للواقعية السحرية، فالشخصيات التي تتوالى في الرواية تعيش تجارب حقيقية سواء باتصالها بشخصيات ما ورائية أو عوالم غيبية، ورغم ذلك ظل السارد في تشكيكه: “كنت أسمع وأضحك، وأكاد أحيانا أبكي على ما وصل إليه الناس من الهوان، والحيرة والبحث عن المعجزات بل والرغبة بالاستعانة بعالم الجان” ص 12


التصوف واللغة:
لكن العالم الماورائي الذي يؤمن به السارد ولا يشكك في وجوده هو ذلك الذي توصل إليه التجربة الصوفية لأنها البلسم الشافي من كل الأوجاع والنور الوحيد بكل ثرائها، حيث هي والطريق الأكيد للوصول إلى الفردوس المحرم حيث هناك البهاء الذي لا يصفه لسان أو تحيط به عين حسب رأيه فهي المبتدأ والمنتهى، ويستحضر فردوسه في بداية روايته من خلال الذوق :” هذا حال من ذاق وعرف ثم غرف فغرق، وتبدل من حال إلى حال حتى كاد يفنى عن الأعيان، ويغرق في عالم المثال” (الفردوس المحرم ص 10) وفي نهاية الرواية يتبأر فردوسه من خلال الحلم لأنه عالم يحفه الغموض والسمو حيث تتحكم فيه “قوى يتجاوز نطاق تأثيرها وسلطتها حدود التفسير العقلي والمنطقي لظواهر الواقع الطبيعي” حسب الناقد يوسف شكير، فيراها السارد في كمالها وجلالها، “دخلنا في ما يشبه الجنة…لا يقدر على دخولها أحد إلا بسلطان ورأينا هناك من الصالحين والأولياء الأطهار” (الفردوس المحرم ص 197). “رأيت كما لو أن طيفا من النور الأزرق الخافت المعجون بالبياض الساطع قد ملأ علي بصري وسمعي وأشربته في كياني بطمأنينة عجيبة” ص 190 
“رأيت أن هذا الطيف الذي كان نورا قد اتسع فملأ الكون بلا نهاية” ص 191
تعبر رواية الفردوس المحرم عن رؤى عميقة للوجود كما تبدو عوالمها أكثف وأكثر تماسكا من الواقع.
أما جانب اللغة فإن يحيى القيسي اختار لغة موغلة في الشعرية استطاع من خلالها الولوج إلى عالم الماورائيات الغامض وبالخصوص عالم التصوف، حيث لما يقارب هذا العالم تشف اللغة عنده وترق لتصبح قادرة على احتواء تلك التجربة العصية عن الوصف ويستطيع تحميلها بإيحات أدبية ورمزية وجمالية. “كانت المعارف التي تصلني تسبب لي غبطة هائلة، وتهون أمامها كل اللذائذ الجسدية، والمسرات الحسية، فهتك الحجب ومعاينة الأسرار والاقتباس من الأنوار، شيء علوي، باذخ ومدوخ وينثال في الأعماق مثل مطر مغدق على أرض عطشى” (الفردوس المحرم ص 21). ونلاحظ أيضا اعتماده المعجم الصوفي بكل روحانيته وسموه: ” راحت تسقينا الكثير من الخمر المدوخ للأحلام المقطرة في كلمات ونحن نزداد سكرا ونشوة” ص 68، “لا تنشغل بي عن غيري، وكني لأنه لا غيري، ولست أنت بالغير، ولا أنا بالحادث…فتعلم” ص 192 
“فكلما خطر في بالي صورة لأحد وجدتها عليه قد ركبت تركيبا بديعا حتى أقيدها بناظري، ثم يمحوها خاطري فتتبدل” ص 193
ويلاحظ أيضا سعيه إلى الاقتصاد في اللغة حيث يُغلب التركيز وعدم الإسراف فيها فيكثر من الإيحاءات والظِّلال، “كان المطر يهطل على قلبي قبل أن يصل إلى الأرض” (الفردوس المحرم ص 176)، 
كما أن العوالم التي تناولها الكاتب تعكس معارفه المتعددة، واللطيف في الأمر أن يحيى القيسي يبدأ روايته بالرؤى الصوفية وينهيها بها كما لو أن هذا العالم الصوفي المفعم بالبهاء والأسرار هو اليقين الوحيد الذي يسمه الكمال وسط كل ذلك الحشد من الماورائيات التي تبدو جزءا من واقعنا.
وفي نهاية الرواية يتبرأ الكاتب من كل ما جاء في روايته حتى لا يُلاحق في المقبل من الأيام سارده من قبل شخصيات أخرى قد تطلب يد العون في مجال الغيبيات الذي أصبح مستشريا، فهل ذلك إعلان خفي عن كون روايته المقبلة لن تكون الماورائيات موضوعها؟ خاصة وأن يحيى القيسي يهوى التجريب ويدخل دون وجل أراض جديدة في مجال الإبداع الروائي.

________

*العدد 21 من مجلة رؤى 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *