حنة أرندت.. تأملات في العنف


*علاء الدين محمود


إنه عصر العنف، تماماً كما توقّع فلاسفة ومفكرون كبار بحجم الإنجليزي فردريك أنجلس، هو عصر الحروب، والثورات، والانتفاضات، والعنف داخل حدود الدولة الواحدة، والتأمل في الظاهرة يلجئ الباحثين إلى استدعاء نصوص أحاطت وتناولت الظاهرة، وهذا يقودنا إلى كتابة مختلفة، ضمّها مؤلَّف الباحثة الاجتماعية الألمانية حنة أرندت «في العنف» الذي يكاد أن يكون الكتاب الوحيد حديثاً الذي تناول الظاهرة، وغاص في المفهوم.
في منجزها هذا لم تحاول حنة أرندت أن تشيطن عملية العنف والتعبير عن الغضب، أي أن تحيله إلى قوى خارج الإنسان نفسه، بل أرجعته إلى كونه مشاعر طبيعية ملازمة للإنسان، غير أن أرندت بينت بشكل قاطع أن غياب العدالة الاجتماعية هو الدافع الأكبر لظهور مشاعر الغضب، بالتالي فإن أرندت هنا قد فندت كل تلك الدعاوى التي حاولت أن تحيل ظاهرة الغضب إلى فعل غير إنساني كأن يكون حيوانياً مثلاً، أو شيطانياً، فالإنسان يربأ دائماً عن نسبة تلك المشاعر السالبة إلى نفسه.
ورغم أن الكتاب قد ترجمه إلى العربية إبراهيم العريس في عام 1992م عن دار الساقي، في 112 صفحة من القِطع الصغير، إلا أن المنجز يمتلك مشروعية كبرى في الحضور في مشهد يسود فيه العنف، فالكتاب الذي وصفته المؤلفة بأنه «تأملات في العنف، يحفر عميقاً في تلك الظاهرة، في الكائن الإنساني والمجتمع من حوله، وبشكل تفصيلي العلاقة بين العنف والسلطة، لكونهما متلازمين في كثير من المجتمعات، غير أن الكاتبة وفي قلب للمفهوم تفرق بين العنف والسلطة، وتبرز ذلك التباين بينهما إلا أن أرندت تقدم ملاحظة هامة مضمونها أن المجتمعات التي يحكمها القانون تطغى فيها السلطة، ولكن في ذات الوقت هنالك ما يجعل العنف يطغى، وتضرب هنا مثلاً بالديكتاتوريات، والغزو الخارجي، في هذه الحالة يصبح العنف وسيلة سيطرة لبعض الناس على بعضهم الآخر.
فالعنف عند الكاتبة هو في الأساس نقيض للسلطة، وتشير أرندت إلى أن العلوم الحديثة نفسها رغم أهميتها قد أسهمت في تفشي ظاهرة العنف خاصة في حالة استخدامها في العسكرة مع تطور النظام الرأسمالي، وتلاحظ الكاتبة أن ظاهرة العنف ليس هدفها تحقيق النصر، بقدر ما هو ردع الآخر، بالتالي تغوص المؤلفة هنا في تعقيدات النفس البشرية وطموحها في إذلال الآخر، وتتوصل أرندت إلى نتيجة مهمة جداً وهي أن الحروب كمثال للعنف، ما عادت كما هي في الماضي ينتصر فيها طرف على الآخر، بل ومع تطور الأدوات القاتلة المعبرة عن الرغبة في العنف كما توقع أنجلس فإن النتيجة هي التوقع بفناء الجميع، وعلى الرغم من ذلك تشير الكاتبة إلى أن الحرب لا تزال تعتبر الملجأ الأخير، أي الاستمرار العتيق للسياسة عن طريق العنف، والكاتبة تحيلنا هنا إلى وضع الفيلسوف الألماني فردريك أنجلس للمسألة، عندما أشار إلى أن العنف في تمايزه عن السلطة أو القوة، أو القدرة، بحاجة دائماً إلى أدوات، بالتالي فإن الثورة التكنولوجية ارتدت على الدوام أهمية فائقة في المجال العسكري، وتشير المؤلفة إلى محاولات البشر تقليل الظاهرة عبر صناعة القوانين والسلطة والدساتير، إلا أن البشر أنفسهم يتولون تفسير هذه القوانين والدساتير وفق أهوائهم، وتستدعي أرندت مقولة الفيلسوف هوبز: «إن المواثيق في غياب السيف ليست أكثر من كلمات».
وترى الكاتبة أنه لا يمكن لأي شخص أعمل فكره في شؤون التاريخ والسياسة، أن يبقى غافلاً عن الدور العظيم الذي لعبه العنف دائماً في شؤون البشر، والمدهش بالنسبة للكاتبة أن العنف نادراً ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة، بل اعتبره كثيرون مجرد ظاهرة هامشية أو تابعة لظواهر أخرى.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *