مقعد بابلو عبد الله


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
كاظم علي حزين هذا الصباح، لأن بعض الأمور لا تجري على النحو الذي يريده. حزين لأن رونالدو، لاعب كرة القدم الشهير وعد بأن يزوره، في رسالة على الإنترنت، ولم يفِ بالوعد. أعدّ كاظم علي غرفة خاصّة في بيته لرونالدو وزوجته وطفلهما، ظلت زوجة كاظم علي تنتظر الزوّار وهي في غاية الترقب. قالت لزوجها إنها مشتاقة للتعرّف على هذه المرأة الشابة التي تحظى بالشهرة في ملاعب كرة القدم. قالت إنها مشتاقة أيضاً للتعرف على رونالدو، ولاحتضان طفله الذي يعيش منعّماً في كنف أشهر لاعب لكرة القدم وأشهر لاعبة.
تألم كاظم علي وراح يبحث عن بديل لرونالدو، وما شجّعه على ذلك، جشع رونالدو ونهمه إلى المال. لن يغفر كاظم علي لرونالدو ذلك العشاء الفاضح الذي جمعه بنخبة من الأثرياء الآسيويين، مقابل مليون دولار يقبضها رونالدو حلالاً زلالاً. تصوروا! يقول كاظم علي لصحبه من سائقي السيارات، يقبض مليون دولار من هؤلاء المهابيل، مقابل الجلوس معهم على مائدة العشاء في أحد المطاعم. يقول أيضاً: رونالدو اشترط عليهم ألا يستغلوا المناسبة لأي شكل من أشكال الإعلان، حتى لا تغضب شركات الإعلان التي تحتكر اسمه. تصوروا! يقول كاظم علي لصحبه: لا هو يعرف لغتهم ولا هم يعرفون لغته. همّهم فقط كان منصبّاً على أن يجلس رونالدو معهم على المائدة، يتناولون العشاء وهو معهم وهذا كل شيء. الأدهى من ذلك، يقول كاظم علي لصحبه المتعجّبين مما يجري في هذا العالم من صَرَعات، أن واحداً من زمرة الأثرياء صرّح بأنه وصحبه خرجوا رابحين، لأنهم كانوا على استعداد لدفع مليون ونصف المليون دولار لو أن رونالدو أبدى تمنعاً، لكنهم فازوا بالصفقة بمليون دولار، ذهبت إلى جيوب رونالدو، وتمكنوا بذلك من توفير نصف مليون دولار. يهزّ كاظم علي رأسه باستياء ثم يسارع إلى سيارته، ينزع عنها صور رونالدو، ينزعها بضراوة ويعلق بدلاً منها صور بابلو عبد الله، لاعب كرة القدم الفلسطيني المولود في الأرجنتين، وأحد نجوم منتخب فلسطين لكرة القدم. 
أهل الحي انشدّوا للمرّة الأولى لأخبار النجم بابلو عبد الله، وراحوا يصغون لكاظم علي بشيء من التصديق وهو يحدّثهم عنه، وينقل لهم لمحة عن سلوكه العصبي أثناء اللعب، يقول كاظم علي: صحيح أن هذا أمر مرفوض في الملاعب، إلا أنني أشعر بارتياح وأنا أرى بابلو عبد الله يتصرّف بعصبية وانفعال، لسبب بسيط، فنحن الفلسطينيين تعرّضنا لظلم كثير، ومن حقّنا ألا نسكت على أية إساءة حتى لو جاءت من لاعب في ملاعب كرة القدم. لذلك، راح كاظم علي يتحدث بإعجاب عن اللاعب بابلو عبد الله، وأعلن ذات صباح وهو يحجز المقعد الأمامي في سيارته له، أن بابلو عبد الله سيأتي إلى حيّنا بعد أسابيع. سيزور صديقه كاظم علي، وسيقيم في بيته أسبوعاً أو أسبوعين. أكّد كاظم علي أن المراسلات التي تجري على الإنترنت بينه وبين بابلو عبد الله، أسفرت عن هذه النتيجة المظفرة التي لا شك فيها ولا التباس.
بعض أهل الحي شكّوا في كلام كاظم علي، وعادت إلى أذهانهم تصريحات مشابهة أطلقها وردّدها كثيراً حول زيارة لاعب كرة آخر. (المقصود رونالدو، الذي لم يعلق اسمه بأذهانهم) آخرون من أهل الحي مالوا إلى تصديق كاظم علي، وراحوا يتأمّلون صور بابلو عبد الله الملصقة على زجاج السيارة بشيء من الإعجاب وببعض التساؤلات: 
– متأكد انت، انه فلسطيني؟
– طبعاً متأكد، فلسطيني قح والله.
– وليش اسمه بابلو؟ مش محمد أو يوسف عبد الله؟
– أي خلصونا عاد، مش فيه عندنا نهرو ابراهيم وجيفارا البديري؟
_ وليش شعره نازل على كتفيه مثل البنات؟
_ أي هذا اسمه سؤال؟ بابلو عبد الله حرّ في شعره.
تساؤلات أخرى، بعضها سخيف وبعضها الآخر معقول، واجهت كاظم علي ووجد من واجبه الردّ عليها، إلا أن أحد التنظيمات السياسية في الحي حسم الأمر لصالح كاظم علي، حينما نشر تحليلاً في صحيفته الأسبوعية أثنى فيها على ضمّ عدد من اللاعبين الفلسطينيين المولودين في المهجر إلى صفوف منتخبنا الوطني، واعتبر ذلك خطوة لها دلالتها الرمزية، وهي مؤشّر على ضرورة الاهتمام بوحدة الشعب الفلسطيني أينما كان. فرح كاظم علي لهذا التحليل، وراح يتحدّث عنه في كل مناسبة، وراح في الوقت نفسه يواصل حجز المقعد الأمامي في سيارته لبابلو عبد الله ويبشّر بقرب قدومه إلى الحي.
كاظم علي اعتقد أنه أصبح على وشك أن ينسى رونالدو، لولا أن زوجته نوال أعادته إلى مقدّمة اهتماماته وهمومه.
نوال، أصبحت منذ الأسابيع الأولى لاقترانها بكاظم علي، مهتمّة بالرياضة مجاراة لزوجها وتقديراً لاهتمامه بها. مباريات كثيرة شاهدتها نوال صحبة زوجها، على التلفاز. لم يحدث أن ذهب كاظم علي وزوجته لمشاهدة مباراة، لسبب بسيط وهو أن النساء في حيّنا لا يذهبن إلى الملاعب لمشاهدة المباريات. اكتفى كاظم علي وزوجته بمشاهدة المباريات على شاشة التلفاز، وقد تحقّقت لهما من ذلك متعة ليست قليلة، ولم تلبث هذه المتعة أن تعمّقت حينما انتقلت بعض مصطلحات الملاعب إلى سريرهما مكتسبة دلالات حسية جديدة: كاظم علي يتقمّص دور الخصم أثناء اللعب، ونوال تتقمّص دور الخصم والحكم، تطلق صفرة معلنة بدء المباراة، كاظم علي يحاورها ويداورها وهي تحاوره وتداوره، ويجري أثناء ذلك تسديد مجموعة من الضربات المباشرة وغير المباشرة، ويستمرّ اللعب هيّناً ليّناً حيناً، عنيفاً صاخباً حيناً آخر، ولا تلبث تأثيرات الغزو الثقافي الإسرائيلي أن تتسلّل إلى تفاصيل المباراة، تقول نوال: أتاه سحكان متْسُويان (أنت لاعب ممتاز) يجيبها كاظم علي: جَمْ آتْ سحكانيت متسويينت (أنت أيضاً لاعبة ممتازة)، ترتكب نوال مخالفة أثناء اللعب، ويفوز كاظم علي بضربة جزاء، ينفّذها بنجاح وتنتهي المباراة. 
ولا تتوقّف المتعة عند هذا الحد.
كاظم علي يعود إلى البيت ذات مساء. يفاجأ بزوجته وهي ترتدي بنطالاً قصيراً أسود يكشف عن فخذيها الأبيضين، وتنتعل حذاء رياضياً فوق جوربين أسودين، يغطّيان ساقيها إلى ما تحت ركبتيها بقليل. رآها كاظم علي وهي تُرَقّص الكرة بقدميها، ثم لا تلبث أن تركلها نحو الحيّز الذي يقع بين حائط البيت الأمامي والسور الذي يحمي البيت. كاظم علي شعر بنشوة طاغية وهو يرى زوجته تلعب بالكرة، بعد دقيقتين أو ثلاث دعاها إلى التوقّف عن ذلك، اقتادها بسلاسة واجتاز بها باب البيت الذي تغمره السكينة واندلاع الرغبات. قالت له:
– بدي اصير لاعبة كرة قدم.
– لا مانع لديّ، بشرط أن تلعبي هنا في ساحة البيت.
– لا، لا، في الوقت المناسب سأخرج إلى ملعب الحي.
– هل هذا معقول يا نوال؟
– بدي اصير مثل زوجة رونالدو، يعني هي أحسن مني؟
اسم رونالدو عاد يقرع رأس كاظم علي من جديد، لكنه هذه المرة عاد بسبب شهرة زوجته في الملاعب. نوال تريد أن تختطّ لنفسها طريقاً مثل ميلين، زوجة اللاعب الشهير، هل هذا ممكن يا نوال؟ وين بتفكري نفسك عايشة؟ بدك تفضحيني قدام أهل الحي؟ كاظم علي لم يحتمل مجرّد التفكير بأن تخرج زوجته إلى الملعب وهي ترتدي بنطالاً قصيراً أسود، يكشف عن فخذيها ويجعلهما نهباً لعيون المراهقين من أبناء الحي. كاظم علي لم يحتمل ما سوف تتندّر به النسوة الثرثارات، سوف يسلقن نوال بألسنتهن الطوال، سوف يُفَصّلن لها نعوتاً وألقاباً ناتئة ترافقها عبر رحلة حياتها، وقد تستمرّ في الانتشار إلى ما بعد وفاتها بسنوات، وسينال حصّته من هذه النعوت والألقاب: زوج لعيبة الفطبول، زوج أم البنطلون الشورط! آخ، يشرط بطنك يا نوال، يلعب على راسك غراب البين، لن تصبحي لاعبة كرة قدم حتى لو ذهبتِ إلى الملعب بجلباب، سأمنعك من تحقيق هذه الرغبة، سأمنعك حتى لو وصل الأمر إلى حدّ الطلاق. هل يقدم كاظم علي على الانفصال عن زوجته؟ هل فعلاً يستطيع الإقدام على ذلك؟ إنه يحبها، يحبها كثيراً، إلا أنها ستعرّضه إلى إهانة كبيرة في حالة إصرارها على تنفيذ قرارها. لم يتوقّع كاظم علي أن يتعرّض لمثل هذا الاختبار. يشعر الآن أنه هشّ، هشّ إلى درجة أن أقلّ خروج عن مألوف أهل الحي، قد تُقدم عليه زوجته، سيعرّضه لانكسار. ومن يدري؟ قد يجد فرصة لتفويت الأزمة التي تنتظره، سيلجأ إلى استنفار كل ما لديه من لباقة وبعد نظر، سيحاول إقناع زوجته بالتخلّي عن رغبتها، لأنه في حقيقة الأمر يريدها معه ولا يمكنه نسيان حبّه لها، ولا يمكنه في الوقت نفسه نسيان حبّها له وتعلّقها به. 
كاظم علي عاد إلى البيت كعادته في المساء. فوجئ بزوجته ومعها ثلاث نساء، ينتشرن في الساحة الصغيرة وهنّ بملابس الرياضة، والكرة تتنقّل بين أقدامهن برشاقة وانسياب. تعطّل ذهنه لحظة عن الاستيعاب، ثم أطلق ضحكة عصبية لم تعثر لها النساء الأربع على أيّ سياق مقنع، أتبعها بجملة باهتة:
_ يا اللي مثلنا تعالوا عندنا.
النساء الأربع لم يتفوّهن بأية كلمة. رحن يتقاذفن الكرة بحركات منسّقة واثقة، وكاظم علي يتابعهن وهو واقف في طرف الساحة. انزاحت الكرة عن مسارها قليلاً واقتربت من كاظم علي، تحرّك نحوها، أوقفها بقدمه، فكّر أن يشقّ بطنها بسكّين المطبخ منهياً هذا الكابوس المزعج، لكنه أدرك أن محاولته هذه ستزيد الأمر تعقيداً، خصوصاً وهو يعرف عناد زوجته وإصرارها على تنفيذ أي أمر تعتقد أنه صحيح. وجد أن المرونة مطلوبة في هذه الحالة، وهي التي ستوفّر له فسحة من الوقت للعثور على حلّ مقبول، قالت له زوجته بلهجة فيها إلفة ودلال: 
_ كاظم، اضرب الكرة.
ظل كاظم صامتاً متردّداً، والكرة جاثمة تحت قدمه لا تستطيع الحراك. كرّرت زوجته النداء:
_ يا الله كاظم، حبيبي، اضرب الكرة.
قال كاظم في رجاء:
_ أضربها بشرط واحد: تأجيل الخروج إلى ملعب الحي إلى أن يأتي بابلو عبد الله.
_ متى يأتي بابلو عبد الله؟
_ أخبرتك من قبل، بعد ثلاثة أسابيع.
_ وإذا لم يأت مثله مثل رونالدو؟
_ نفكّر في الأمر من أوّل وجديد، ونعثر على حل.
قالت نوال من دون تفكير زائد في الأمر:
_ أنا موافقة، اضرب الكرة.
ضرب كاظم علي الكرة ضربة قوية، اجتازت السور وراحت تتدحرج على طول الشارع. همّت نوال باللحاق بها، سبقها كاظم علي إلى ذلك، حمل الكرة ومشى عائداً بها، والنساء الأربع ينتظرنه داخل سور البيت.
________
*روائي وقاص فلسطيني.
– من مجموعته القصصية ” ابنة خالتي كوندوليزا”.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *