الاغتراب النفسي عند شعراء الحداثة المعاصرين


عصام شرتح



خاص ( ثقافات )

يعد الاغتراب النفسي شكلاً مهماً من أشكال الاغتراب؛ لأنه يتعلق بما يعتمر في النفس الداخلية أو النبض الشعوري الداخلي للذات الشاعرة، من أحاسيس، ورؤى، ومنعكسات نفسية شعورية، وصراعات داخلية وتوترات نفسية تنعكس على الجسد اللغوي للنص الشعري؛ لأن الشعر- في المحصلة- انعكاس لكتلة مشاعر وأحاسيس، وهو” خصيصة إنسانية. والشاعر إنسان يتميز عن غيره بحساسية شديدة تجاه ما حوله، ومن حوله، ولذلك، فإنه ينطلق من خلال عالمه الشعري ليعبر عن وجدانه، ملتمساً لنفسه عالماً خاصاً به، يحاول عن طريقة إعادة تشكيل الأشياء وفقاً لرؤاه الفنية الخاصة، وعلي ذلك تولد القصيدة من خلال رغبة الشاعر في تنظيم علاقته مع الآخرين، لتحقيق الانسجام عن طريق التعبير باللغة، والشاعر قبل أن يبدع شعره يحمل في داخله رغبة في الانسجام مع الآخرين والتواصل معهم؛ وهذه أولى علائم الإيقاع. ولا ينبع الإيقاع من استجابة الشاعر لأمور خارجية بقدر ما ينبع من ذاته من الإدراك الداخلي والحاجة النفسية الملحة؛ ومن ثم استخلاص الإيقاعات الشعرية المتناسقة من قلب الواقع المعيش، ثم إبرازها؛ وعلى هذا، تتغير اللغة لتلتقي مع تموجات شعور الشاعر” (1). 

إذاً الشعر هو هذه الذبذبات الشعورية المنبعثة من إيقاعات الروح في توثبها، وتوهجها الإبداعي، ولهذا جاء تعريف إلياس أبوشبكة للشعر موافقاً لمنظورنا، إذ يقول:” الشعر غفلةٌ واعية، وحالة غائمة من الأحاسيس المرتبكة والمتشابكة التي تختلج في ذات الشاعر وتلح عليه للخروج إلى الهواء الطلق” (2).

ولا تستحيل هذه الحالة إلى طاقة إبداعية إلا إذا استطاع الشاعر أن يطوِّع اللغة بما تخدم حركة المشاعر، لتنتج النص الإبداعي بكل سماته وخصائصه الفنية. ولهذا يري الشاعر طالب هماش:” أنه في كل جملة هناك تنهيدةٌ، وهناك فرحةٌ، وهناك جرح، هناك إحساس بالفرح ممزوج بغصة البكاء” (3). 

ومن هذا المنطلق يؤكد ما يلي:” أنا أحاول اكتشاف الانسجام بين الجمال الموسيقي الصوتي، والجمال التعبيري، والذي ينتج من التلاقح الصحيح من الحروف والمفردات، واكتشاف المخزون الانفعالي والإيقاعي خصوصاً حين يسيطر حرف ما على النص ويتكرر في دوامة الأحاسيس المستيقظة والمنسابة في سهولة ويسر، حين تترقرق الحروف في الجملة دون نشاز يسيطر إحساس متناغم على اللغة، ويجعلها طيعة تماماً كما يترقرق الماء في المجري خالقاً عالماً من التناغمات والسقسقات”(4).
وبهذا المعني، فإن الشاعر يمتلك من الحساسية ما يخوله أن يترجم المشاعر أو المواقف الضاغطة بأسلوب جمالي عن طريق اللغة، ومطواعيتها في التشكيل، والخلق، والإبداع، وقد سبق أن عرفنا (الاغتراب النفسي) من سابق بقولنا:” إنه اغتراب ارتكاسي مؤلم يغترب فيه الشاعر عن الواقع؛ لدرجة يقوم الشاعر من خلاله بالانسلاخ عن الواقع، وإيثار العزلة، وهو شكل من أشكال الاغتراب الداخلي القائم على الإحساس بالكآبة والحزن، والقلق، والغضب، والانفعال” (5).

ومن هذا المنطلق، تختلف أشكال الاغتراب النفسي- عند شعراء الحداثة- تبعاً للمثير النفسي الضاغط الذي يسيطر على الذات الشعرية في لحظة من اللحظات ترتد فيها الذات إلى الذات في صدامها النفسي مع الواقع المحيط؛ فترتد إلى دائرة وجودها، محملة بشتي أشكال التشرد والأسى والجراح والضياع، على شاكلة المقطع الشعري التالي لأدونيس:

” مشرَّدٌ أحبُّ المالئين جبهتي سلاسلاً
الكامنين على الدروب غيلةً
مشردٌ أحسني طفولةً
أحسني أرفعُ بعلبكي الغريبةِ الوالهةِ الحجارْ
أحترقُ” (6).

هنا، يصل الشاعر- في اغترابه- إلى أقصى درجات الأسي والحزن، وهو الشعور بالاحتراق، فليالي التشرد، إذاً، دفعته إلى الإحساس بالارتكاس، والقلق، والأسي الجارح حتى وصل إلى قمة الاغتراب النفسي، وهو الشعور بالغربة، والتمزق، والاحتراق. 

وكما هو حال (أدونيس) جاء اغتراب الشاعر السوري الكبير (نزيه أبو عفش)، معلناً صرخته الوجودية اليائسة في وجه الاغتراب، مؤكداً نصره بالموت، كما في قوله:
في حلمي.. سألني الرجل المكلف بتدقيق اللاجئين:

لماذا جئتَ أيها الغريب؟
… هرباً من هناك……………
من بلادٍ مجنونةٍ لم يعد ماترفعُ الصلاةَ إليه غير المقابر، والأوثان، وأقواس النصر، المكفنة بالغبار والوصايا وجثث الأزهار المشنوقة في أعراس البرابرة..
من هناك………………..
حيثُ يدفنُ ُمن أسمائه غير الموت” (7).

لعلنا نرى من خلال القصيدة قدرة الشاعر على بث اغترابه النفسي من خلال الأسئلة المحتدمة: “لماذا جئت أيها الغريبُ؟!!؛ وفي هذا السؤال وميض جرح لايلتئم؛ خاصة عندما جاءت الأجوبة بغاية الانكسار، والحزن، والغربة الشعورية والوجودية المأزومة (هرباً من هناك) أي هرباً من بلاده البعيدة، ومن طفولته المشبعة دموعاً وحسرة وألماً ومن وجودهم المتخم بالخيبات، والاجتراحات المريرة، ولم يجد له من منقذ سوى الموت الذي يمثل قمة النشوة، والانتصار على جراحاته، وعذاباته الداخلية، وهذا ما تأكد أكثر في هذه القفلة النصية من القصيدة ذاتها:

” أعزفُ على عودي وأغني
حتى أجعل الحيطان ترتعش
والمقاعدُ تئنُّ.. والهواء يبكي
والبشرَ السعداءَ يكفكفون غصَّاتهم ويشهقون
من أي بلادٍ موجعةٍ يهبُّ هذا الغناء الدامي؟!!” (8).

إن الشاعر أراد أن يقول لنا: إن أنات المغترب وصوت أشجانه تجعله أكثر تأثيراً في كل من حوله، وتجعل لصدي أغانيه شجناً موجعاً لدرجة تهتز لأحاسيسه الجمادات، وترتعش أسيً، وحزناً ووجاعة داخلية، وبهذا الإحساس جاء الاغتراب النفسي كاشفاً عن أنين الذات الشاعرة، وتصدعها الداخلي.
وثمة شعراء أبدعوا في هذا الشكل الاغترابي من حيث الأسي، والشفافية، والطاقة التأثيرية، كما في هذه القصيدة لجوزف حرب:

” لا نور يدخل أعماقي. لا شمع عندي لليلِ
وليس لديَّ.. نبيذٌ وحديقةْ
بيتي لا غصنٌ أخضرُ، أو عصفورْ لا تسكنني امرأةٌ
لا شعرٌ بروحي
ودعني الوردُ، ولم يرجعْ
وستائري هذي الردهة، حيث تعيش أسابيعي، مخملها مهترئٌ
يعلو كلَّ خيوط دقائقها عفنٌ
أبوابي فيَّ مخلَّعةٌ
وجدراني موجٌ عالٍ. لا عكاز لهذا الموجِ العالي
وشبابيكي لوحٌ من غيمٍ مكسور” (9).

إن النبض الاغترابي واضح في القصيدة، ففي كل جملة صورة اغترابية أشد أثراً من مثيلتها؛ وذلك دلالة على حالة الخواء، والوحشة، واليأس التي يعيشها الشاعر، وحالة الانكسار الشعوري التي يعانيها؛ فالنور لا يدخل أعماقه، ولا شمع لديه في ليلته، فبيته مهجور، وستائره مهترئة، ودقائقه متعفنة راسخة قد رانت زمناً طويلاً على ماهي عليه، وأبوابه كذلك مخلعة، وشبابيكه مكسورة، متشظية، مهجورة، وروحه موحشة قاتمة ودَّعها الورد، وعشش فيها الدمار والخراب، والخواء النفسي؛ وهذا دليل أن كل كلمة تحمل دلالة الوحشة والانكسار الشعوري، وهذا ما يجعل الاغتراب دافقاً بالشعرية والنبض الداخلي، والدلائل المرجعية على ذلك كثيرة (أبوابي فيَّ مخلعةٌ- وشبابيكي لوحٌ من غيمٍ مكسور)؛ناهيك عما تختزنه هذه التشكيلات في داخلها من دوائر دلالية تفيض أسيً ووحشة على مختلف الصور الأخرى في القصيدة، وهذا ما يجعلها غاية في الإثارة والتأثير.

والجدير بالذكر أن الاغتراب النفسي قد يمتد ليصل إلى قمة الوجاعة والاستلاب كما في قول محمد الماغوط:

” أيها الحارثُ العجوزُ يا جدي
أعطني كلبك السلوقي لأتعقب حزني
أعرني مصباحك الكهربائي
لأبحث عن وطني
أزقةٌ طويلةٌ كسياطِ أجدادي
آتي إليكَ والاستغاثاتُ مصطفةٌ في حنجرتي كالمجاذيف
لأشكو لكَ ذلك الرصيفَ
ما إن شرعتَ بقصتي حتى انسلَّ بين الأزقةِ كالأفعى
وتركني وحيداً وقدماي تهتزان في الهواء كقدمي المشنوق” (10).

هنا، يأتي الاغتراب أكثر فظاظة وقسوة وألماً على ذات الشاعر؛ لأن وطنه يتنكر له، ويهرب منه، ويتركه معلقاً كالمشنوق بين الأزقة؛ يتسكع عليها كالمشرد الضائع، ملتفاً بحبال أشواقه وحنينه إلى وطنه، لكن رغم جدوي فما زالت استغاثات الرحمة تخرج من حنجرته أن يخلص من تشرده وتسكعه الدائم على الأرصفة التي ما زال يعاني منها ما يعاني من ضنك الوحدة، والشقاء، والوحشة، والتشرد، والضياع، وإن هذا الاغتراب الشعوري رافق محمد الماغوط في كل مراحله الشعرية ليكون الاغتراب سمة عامة من سماته، لاسيما الاغتراب والتسكع على الأرصفة لا مأوي ولا بيت يأوي إليه؛ وهذا ما يدلل عليه المقطع الشعري التالي:

” يخيل لي أنني أتهاوي على الأرصفهْ
سأموتُ عند المنعطفِ ذات ليلة
وأصابعي تتلوي على الحجارة
كديدان التفاح دون أن ينظر إليَّ أحد
إنني أري نهايتي” (11) 

إن لبَّ الأزمة الوجودية- عند المغترب- أن يموت مشرداً على الأزقة، وأن تكون نهايته عند المنعطف، أو على رصيف مهجور، أو زاوية مهملة لا ينتبه إليه أحد، أو لا يأبه بأمره إنسان؛ إن هذه النهاية هي الشبح الجاثم على صدره، وهي التي تقض مضجعه.
أما أبرز ما يمثله الاغتراب من أسي، ووجاعة شعورية داخلية فهو أن يشعر المرء أنه ووطنه في غربة، أو كلاهما غريبان مغتربان عن بعضهما البعض، وكلاهما في حاجة إلى وطن ليأويهما، كما في قول مظفر النواب:

“يا وطني؛ وكأنكِ في غربة
وكأنك تبحثُ في قلبي عن وطنٍ أنتَ ليأويكَ
نحنُ الاثنان بلا وطنٍ يا وطني” (12).

فكلاهما مغتربان وغربتهما جارحة.
وثمة شعراء عبروا عن اغترابهم بوضوح تام، ومقصدية مرجعية صريحة كما في قول الشاعر عبد الكريم شمس الدين:

“وعبرتُ من وطني إلى وطني
من قال إني لستُ مغترباً
وأني لا أعاني عند بواباته قلق الغريبْ؟!
……………
يا لهذي الغربة الكبرى
ألا يكفي انتسابا” (13).

وتأسيساً على هذا يمكن القول: لقد استطاع شعراء الحداثة أن يفضوا بمشاعرهم الاغترابية الحارة، ويكشفوا عن نوازعهم النفسية، وأحاسيسهم الاغترابية بأسي جارح، وأنين حزين، مسجلين أعلي درجات الإثارة والتأثير؛ لأن مثل هذا الشكل الاغترابي يروي حكايا النفس، وما يخفيه الشعور من أحاسيس اغترابية؛ مردها انكسار الذات أمام صخرة الواقع ومآسيه، ويمكن أن نعد هذا الاغتراب صورة من صور الذات فيما تنطوي عليه في واقعها الشعوري من أزمات، مما يجعل الاغتراب صادقاً في وقعه، ونبضه؛ لأنه نتاج حراك داخلي فرداني مرتبط بالذات، ونوازعها الداخلية.

الحواشي:
(1) ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص30-31.
(2) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص282.
(3) شرتح، عصام، 2012- المصدر نفسه (حوار طالب هماش) ص216.
(4) المصدر نفسه، ص216.
(5) شرتح، عصام، 2010- الشعرية ومقامرة اللغة، ص21.
(6) أدونيس، على أحمد سعيد- الآثار الكاملة، ج1/ص255.
(7) أبوعفش، نزيه، 2003- الأعمال الشعرية، ج2/ ص349-350.
(8)المصدر نفسه، ص350.
(9)حرب، جوزف، 2007- رخام الماء، ص93-95.
(10)الماغوط، محمد- الديوان، ص278-279.
(11)المصدر نفسه، ص180.
(12)النواب، مظفر، 1996- الأعمال الشعرية الكاملة، ص316.
(13)شمس الدين، عبد الكريم، 1997- الأعمال الشعرية، ص425.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *