كلماتٌ إلى الشاعر أولاد أحمد



*منصف المزغني


-1
أبا ناظم وكلمات، بعد الدمع والصمت الذاهل، كنتُ أتوجّه نحو إذاعة خاصة للحديث عنك، ولإطالة عمرك في ذلك اليوم الذي لم تَرَ فيه غروب شمس 5 أبريل(نيسان) 2016.
وفي ذلك اليومِ الحُزْنِ، كنا نأمل أن نلتقي معاً، وكم خجلتُ أن أقدّم لك، أو أتحدّث معك حول كتابنا المشترك ( بيت الشاعر) للاطلاع عليه قبل نشره، فأنْتَ كُنتَ في دائرة الوقت الحرج . 
في الشارع، عزّتني فيك سيدةٌ سمعت النبأ الأليم في سيارة الأجرة التي نزلتْ منها لتوصلني إلى الإذاعة (أنا مثلك لا أعرفُ سياقةَ السيارات). 
وتقبلتُٰ العزاء من الناس، والشعراء العرب الذين يعرفون العلاقة العميقة التي جمعتنا فما صدّقوا إشاعة عداوتنا، وأمّا الشاعر الصديق الوفيّ وزير الثقافة الجزائري عزالدين ميهوبي فقد طار الى تونس، وتحديداً إلى بيتك، ولم يكتفِ بالعزاء الهاتفي، وقبله فعل رئيس الجمهورية التونسية. 
محمد، 
لا احبّ أن أحكي كلاماً بلا جمهور، وسوف أتصوّرُ كلماتي واصلةً إليك باعتبارك الشاعر الجمهور، وأفترضُ قدرتك على استقبال كلماتي هذه التي تكون قد وصل معناها من قبل، منّي، أوْ نقلاً عنّي، أو من حديث لم نكمله بعد، ولن يكتمل، أو اكتمل بلا كلمات.
2-
أعجبُ من الآخرين الذين يكتبون عنك بسهولة، وأعجب من الذين كانوا مختفين في الظل، ومختلفين حولك، واندلعوا بعد رحيلك، وصاروا يتكرّمون عليك بنعوتٍ وألقاب بخِلوا بها عليك عندما كُنتَ فوق الارض .
البعض، ومن دون ذكر أسماء، وأنت تعرفه حياً وميتاً، هناك صحافيّ منفوخ الثراء، كانتَ له جريدة اختفتْ، وكان لا يحب أن يقترب من مملكته الصحافية أحد، لم يشأ أن يستكتبك، لا لأنه لا يدفع النقود فقط، ولكن لأنه لا يؤمن إلا بنفسه، أتدري ماذا قال في التلفزيون بعد رحيلك؟
صار ينصح الدولة بإقامة تمثال لك، وهو الذي استكثر عليك زاوية حرة في جريدته! 
وكم تقزّزتُ من أولئك الذين كانوا ينشرون مقالاتك منتوفةً وَمذبوحةً، وَيتباهون بأنهم وراء صعود نجمك الصحافيّ، وكانوا يقتّرون المال تقتيراً، و يكنزون الذهب والفضة من أموال دولة الشعب الداعمة لصحافتهم المكتوبة بحبر التأييد والمساندة. 
وكم كانت الرقاعة عالية النذالة لدى أولئك الذين ادّعوا أنهم صاروا، بفضل صورة معك، من أعزّ أصدقائك!
لقد رأيتهم في الجنازة يلتقطون الصور في زمن “السلْفي”. 
3-
هم يستسهلون الكتابة عنك، وكم أنتَ بسيط؟ وهذا هو المعقّدُ فيك؟ 
لا أتقبٌل الكلمات التي تأتي على لساني حين أفكر فيك إنْ لم أجدها ملء نفسي التي لا تعرفها إلا أنت، ولا أحد يقدّرها غيرك. 
ألم تكن تردّد: أعطي لنفسي الحقّ في نقد المزغنّي، ولا أسمح بهذا الحق لمن هبّ ودبّ. 
وكم كان الصمت رسولاً بيني وبينك طوال سنوات، كما أرادتْ لنا ظروف قاسية. 
4-
إذا لم أجد الكلمات، فلأنّي لا أجدك في قبرك، أنت فوق الأرض، على رأس كلماتك، فالديوان هو فراش الشاعر الذي لا تكفُّ معانيه عن التناسل، وأمّا النقاد الذين اتهمتهم، ساخراً بكونهم يبنون وَيقتنون عمارات وشققاً بفضل شرحهم لبيوت الشعراء الموتى، فلهم أن يشرحوا الآن قصائدك ويسهروا في بيوت بنيْتَها بالدم والأعصاب والحبر. 
أتدري لماذا لم ينقدك هؤلاء عندما كنت فوق الأرض؟ لأنهم يعرفون ما قاله المتنبي : “وعداوةُ الشعراء بئسَ المقتنَى”.
5-
في جنازتك ، كنت أتصوّر أنْ أُدْعى لكلمة تأبين فيك، لأننا صديقان منذ 1980، وأيام جريدة “الرأي” ومقهى ” شاي لأي ناڤر”. كنتُ شاعراً، وَدعوتني بهذه الصفة إلى سيدي بوزيد، وكنتَ تتهيأ للظهور الشعري اللامع، وكانت بغداد 1984 فرصتنا للظهور العربي الصارخ إلى أن افترقنا، وكانت الصحافة ترى في صراعنا المختلق، أو عدائنا المزعوم وليمةً لها. 
وأثناء مرضك الأخير، كنت مُقْصًى من قول كلمة في الاحتفاء بك، وآخرها كانت في معرض تونس للكتاب. 
وفي الجنازة طلب مني بعض الأدباء والشعراء والشاعرات قولَ كلمة تأبينية فيك، قبل أن تُوارَى التراب، كانت النية هي أن نقول للتراب: “هذا شاعرٌ ، وأبو كلمات وابن الفنون والآداب، وهو لا يصلح للتراب”.
تقدّمتُ نحو الصفوف الأمامية، وكنتُ واقفاً مندهشًا من رقاعة السياسيين والنقابيين الذين اختطفوا الكلمة والميكروفون، وكأنك من أسرتهم وحدهم، وحصريّاً لهم، وكأنّك لَمْ تنتمِ يوماً الى أهلِكَ الشعراء، ولذلك افتككتُ الكلمةَ وارتجلتُٰ في وداعك كلمات. ختمتُها بما قاله الشاعر منور صمادح في قصيده الشهير “كلمات”: “شاهدٌ أنتَ عليهمْ وعليك الكلماتْ”. 
6-
وموكب دفنك كان نموذجاً للحياة التونسية الراهنة: أنت تعرف أن النهضة ( حركة الاخوان المسلمين في تونس ) قررتْ أنْ لا تغيب عن عرسٍ أو نحسٍ في تونس. أنت تذكر أن هذه النهضة جاءتْ إليك لأنها تأكّدتْ من معنى السرطان. صادف أني كنتُ في بيتك يوم زارك وفدٌ من “النهضة”، يسبقهم المصوّر الذي جاء محملاً بالورد، ولقد جاؤوا إليك لالتقاط صورة معك، وليقولوا للناس: “نحن ديموقراطيون، وأخلاقنا تملي علينا أن نتواصل من أجل الوطن ” وَ ليقولوا لك : “إنّ لنا أخلاقا تؤمن بزيارة المرضى، وإن تعارضت أفكارنا مع أفكارك، فهذا لا يفسد الودّ بيننا”.
وكان ودّاً شرساً لا يشبه إلا فعل السرطان، لقد زاروك، وهم يعلمون أنّك في المعركة مع الذئب، ويرددون في سرّهم قول الشاعر: “وإذا المَنِيَّةُ أنشبتْ أظفارَها ألْفَيْتَ كلّ تميمةٍ لا تنفعُ “.
7-
وأمّا قواعد الإخوان المسلمين وَجماهيرهم المرابطة في مستنقعاتها الإلكترونية، فانطلقتْ دون رادع، في هتك عرضك، وأنت تدري كيف أن ثقافة الشماتة تجلّتْ في تعاليقهم البذيئة، وأدعيتهم الهابطة إلى الأرض. أنا أعرف زهدَكَ في دعائهم، وقد رفض قسم كبير من قواعد الأخوان في تونس أن يترحّم عليك، وسأل بعضهم عنك، وكانّك عريسٌ جئتَ تخطبُ ابنتهم المُبرْقَعةَ، فأرادوا أن يتأكدوا من أنك مسلم، ومن سكان الجنة، وسألتْ بعضُ الإذاعات الساذجة ابنَك البكر(ناظم) عن موضوع علاقتك بالإسلام، فقال لهم: إنك مسلم، وضدّ الإخوان المسلمين وضد التكفير. 
8-
موكب دفنك كان موعداً آخر للصراع ضد الإخوان المسلمين، وكان موضع استهجان من أغلب المشيعين، فقد ارتفعت أصوات للتعبير عن رفض الذين سموا أنفسهم أنصارك الأيديولوجيين، وقد نادوا بترحيل عناصر من النهضة، فالنهضويون جاؤوا مأمورين سياسياً لجنازتك، لأنهم قرروا أن لا يغيبوا عن الحدث الوطنيّ. ولقد استهجنتْ جماعةُ النهضة هذا السلوكَ الرافضَ لحضورهم. وكم كان أولى بهم أن يستهجنوا ما تكتبه القواعد الإخوانية في المزابل الالكترونية من سباب ودعاء عليك، ونعتك بالكافر الذي لا تجوز الصلاة عليه، ولا يصحّ دفنه في مقابر المسلمين. 
9-
وموكب دفنك كان مناسبة لجنازة مختلطة بين رجال ونساء. لقد حضرت المرأةُ التونسية جنازتك، وساهمت في رفعك على الأكتاف، وحثوِ التراب على قبرك، ووقفتْ تودعك، وقرأت شعرك، وقُرئ القرآن العظيم في وداعك. حضور المرأة العربية في الجنازة هو بدعة، كما يقول فقهاء الحزن الشرعيّ، ولكن المرأة شاءت أن تقول: “أيها الموت، سننتصرُ عليك بالحبّ، الموت يئدُ، والحبُّ يلدُ”. أتذكر يا محمد، أنّ هذه الجنازات المختلطة تمّتْ في أماكن اخرى. في دمشق مع جنازة نزار قباني حضرتها الكاتبات وغيرهن من النساء اللواتي رأيْن أنّه من العيب عليهِنَّ أن يغبْن عن جنازة شاعر المرأة والحبّ. وفي رام الله مع جنازة محمود درويش، وفي تونس مع جنازة المذيع الجماهيري نجيب الخطاب، وكذلك جنازة المطربة، أصيلة سيدي بوزيد، ذكرى محمد، وكذلك جنازة شكري بلعيد ومحمد البراهمي، فلا أحد يقرر تذكير الجنازة أو تأنيثها. ولعلّ المرأة التونسية أرادتْ أن تكفّر عن غيابها في جنازة الطاهر الحداد ، مناصرها صاحب كتاب “امرأتنا بين الشريعة والمجتمع” ( في ثلاثينات القرن الماضي) حيثُ لم تمشِ في جنازته امرأةٌ . 
10-
بعد جنازتك يا أخي
تحرك الذي لم يتحرك أبداً، وصدرتْ عنك مقالات وكتابات، وذكريات، في تونس وخارجها، فلا تلتفتْ، من قبرك العالي إلى المنافقين الذين كانوا يريدون التقاط الصور معك، مع “قوارير خضر”، أو دونها أو بعد مَحْوِها ( بالفوتوشوب )، لا لتأسيس “دولتك الفاضلة”، فلا دولة لك غير هؤلاء الذين يحبونك بصدق، الآن وغداً هنا وهناك، وهؤلاء سيعرفهم ابنك ناظم، وابنتك كلمات، وزوجتك السيدة “زهور” ولكن بشرط أنْ يسارع محبّوك أو أعداؤك الى اقتناء نسخ من ديوانك، فلا اليساريون الذي يحبونك سوف يشترون كتابك، لا لأنهم فقراء ولكن لأنهم لا يقرأون. ولا الاخوان المسلمون الذين يكرهونك يقرأون، فلن يشتروا كتابك، ولن يقرأوا خاتمة الأدعية في قصيدك “أدعية”: “نشرتُ كتابا جديداً ،فبعْهُ بلا عددِ”. 
11-
ختاماً، هل تذكر مدرستك الابتدائية ( المزارة ) الذي حضنتْك وتعلمتَ فيها الأبجدية ؟ لقد أعطتك من العلم نوراً، ومنحتها وزارةُ التربية التونسية اسمَك، فهنيئاً أخي محمد. 
___
*24

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *