رقصة الذبيح


*خيري منصور


ما كُتب عن الرقص منذ الإغريق القدماء هو محاولات للتوأمة بين الجسد والإيقاع، ولأن مثل هذه النصوص الحية لا تقبل الترجمة، لأن لغتها جسدية خالصة، فقد بقيت الطريقة المثلى وربما الوحيدة في شرح قطعة موسيقية هي إعادة عزفها وكذلك الرقصة، فهي نصّ مُكتَف بذاته، ولا يقبل التأويل. والكتابات المعاصرة عن الرقص راوحت بين البحث عن منابعه في الجسد وما يشحنه من انفعالات، وبين كونه التعبير الأقصى الذي يستغرق فيه الراقص، وحين كتب سلامة موسى مقالته الشهيرة عن الرقص قارن على نحو لا يخلو من سخرية بين الرقص الشرقي في بعده الاستعرائي والاستعراضي معا، وبين أنماط أخرى من الرقص ومنها الباليه، وانتهى إلى أن الراقصة الشرقية أقل استغراقا وتناغما مع ذاتها، ولاحظ أنها تبدو مفتونة بجسدها وهي ترقب تموجاته، وإن كان هناك فائض لهذه النرجسية الأنثوية فهو مكرس للإصغاء والانتشاء بالتصفيق.
أما محمد النويهي وهو من رواد النقد للشعر العربي الحديث فقد وجد من خلال النماذج التي قدمها في كتابه أن الايقاع هو من صميم الانفعالات والتعبير عنها، ومن ذلك عبارات ترددها الثواكل أو الأرامل، وهي إيقاعات شجية وفيها تناغم موسيقي، وما أعنيه بالرقصة السوداء أو رقصة الذبيح هو هذا النمط من التعبير الجسدي عن الحزن والشعور العميق بالفراق، وغالبا ما يتذكر الناس تلك الرقصة السوداء لزوربا في رواية كازانتزاكي، التي عبّر بها عن حزنه لفقدان ابنه، وكان أنطوني كوين الذي قام بدور زوربا في الفيلم المأخوذ عن الرواية آسرا في تقديم المشهد، ولا أدري لماذا ذكّرني حين شاهدت الفيلم بعبارة مالارميه «أن الجسد لحزين»، أو بما كان يقوله البير كامو عن القشعريرة التي تعتري جسده كلما سمع كلمة الموت، وبرأيه أن الجسد هو الذي يعبر عن هذا الإحساس على نحو غريزي، ويضيف كامو.. أن الانسان عندما يقول غدا أو بعد غد لا يدرك أن جسده يصاب بالفزع من هذه الكلمات لأنها الطريق المعبّد نحو الموت. وأذكر ايضا أنني عندما قرأت ما كتبه ولسون عن راقص الباليه فازلاف نجنسكي أحسست، لاول مرة، بأن الكتابة بالقدمين ليست ممكنة فقط، بل قد تكون أهم من الكتابة باليدين، وأدرج ولسون نجنسكي في قائمة اللامنتمين بجوار ديستويفسكي ولافكرافت وسارتر وآخرين، لكن هذا الراقص عبّر عن فلسفته بجسده فقط، وحين كتب مذكراته حاول قدر الإمكان الافصاح عن فلسفته وما بلغته من عدمية تاخمت الجنون، فهو يعترف في مذكراته التي أخفاها حتى اكتشفتها زوجته رومولا، أنه بدأ مهنته ليكسب المال، ويحاول تحقيق أحلامه، لكنه سرعان ما اكتشف أن الفن ليس مجرد مهنة، وأنه حين يكون تعبيرا أصيلا عن الذات يصبح في مكان آخر، وله معايير مغايرة لا شأن لها حتى بالشهرة والنجاح.
وحين أحس نجنسكي بأن الرقص وحده لم يعد كافيا لإفراغ شحناته العالية حاول الرسم، واكتشف أنه يمارس الرقص أيضا حتى وهو نائم، وأطرف ما يروى عنه أنه حين قرر كتابة مذكراته كان يعمل ليلا ونهارا، وكأنه يسابق الموت، لكنه ما أن أنجزها حتى شعر بالاستخفاف بها وهذا شأن اللامنتمي عموما، حين يصاب بذلك الفيروس اللعين الذي يفقده الإحساس بالمعنى والهدف، إنه يشبه روكنتان بطل رواية «الغثيان» لسارتر، الذي كان يراقب جذور شجرة كستناء ولا يستطيع أن يفهم شيئا من هذا الوجود، حتى أصابعه والعروق التي تلوح من باطن يده على الجلد تبدو له شيئا مبهما وحيوانيا، لكنه ما أن يسمع عن بعد أغنية تتردد فيها عبارة بعض من تلك الأيام حتى تندلع الحياة في جسده تماما كما تندلع الحياة في تابوت فيغطيه العشب.
نجنسكي لم يكتب عن الوجود والعدم ولم يكتب عن الغثيان رغم أنه أحسه بعمق وهو يتوغل في دمه، لكنه كتب بقدميه ما لم يكتبه باليد، وأوغل في الاغتراب حتى أصبح على موعد محتم مع الجنون، أو ما يسميه الآخرون كذلك، والذي قد يكون في حقيقته العقل في أقصى درجات الاحتمال. وقد يكون من المثير أن بعض من كتبوا المذكرات ومنهم شاتوبريان ونجنسكي وأخيرا مارلين مونرو، حاولوا أن يقولوا للناس إن ما عبروا به عن أنفسهم لم يكن مفهوما أو قابلا للتوصيل، فهم حسب تعبير فالاس فاولي الذي كتب عن السريالية باستفاضة واستقصاء انتشوا بتجاربهم أكثر مما استطاعوا تحويلها، وحسب فاولي فإن ما يضيع من تجارب المبدعين في الانتشاء هو أضعاف ما يتبقى.
ولو سئل نجنسكي عما أراد التعبير عنه من الشكوك والعدمية والإحساس بالعبث لأجاب على الفور بما أجاب به ذلك الموسيقي الذي قال، إن أفضل طريقة لشرح ما يعنيه بموسيقاه هي إعادة العزف، وبالنسبة لنجنسكي فإن أفضل شرح لما كان يعبر عنه بالجسد هو إعادة مشاهدته وهو يرقص، وقبل زمن من ولادة نجنسكي كتب السهروردي بدمه على جدار زنزانته التي أصبحت قبره «أرى قدمي أراق دمي».
فالأقدام لها عيون وأحيانا تسعى أو ترقص وحدها معلنة العصيان على ما هو غير جسدي، لأن ما قاله مالارميه هو جوهر الحقيقة كلها وهو «إن الجسد لحزين»، لأنه يحمل بذور موته حتى في عنفوان ربيعه، وحين قال الشاعر العربي إنه لا يرقص طربا،، بل كالطير المذبوح من شدة الألم، فذلك هو التعريف الأدق للرقصة السّوداء.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *