عائشة المراغي*
لم تنسلخ الكنيسة المصرية عن واقعها البيئي والتاريخي، بل التصقت به واتسقت معه، مع احتفاظها بخصوصيتها كمكان للعبادة والتقرب إلى الله بالدرجة الأولى ثم الحث على بناء الأسرة كنسيج من المجتمع بعد ذلك، وهذا ما عبرت عنه الأنماط المعمارية والرسوم والنقوش المختلفة، ونجح رعاتها طوال هذه السنوات أن يحافظوا عليها بقيمتها التي زادت، خاصة من الناحية الجمالية والتشكيلية، وكجزء أصيل من نسيجه. وهذا ما برهن عليه الكاتب المصري جودت جبرا في كتابه “الكنائس في مصر.. منذ رحلة العائلة المقدسة إلى اليوم”، بمشاركة جيرترود ج. م. فان لوون والناشرة كارولين لودفيج الذي ترجمته أمل راغب للعربية وصدر عن المركز القومي للترجمة.
يتميز معمار الكنائس في مصر بخصائص تكسب دور العبادة المسيحية القبطية طابعاً مستقلاً يميزها عن نظيراتها اليونانية في الإمبراطورية البيزنطية مترامية الأطراف. ومع تطور معمار الكنائس في مصر تظهر ملامح متميزة تعكس احتياجات ومعتقدات لاهوتية خاصة بأماكن العبادة والصلاة وحضور القداس والتناول. وحتى أسلوب تزيين حوائط الكنائس برسومات مأخوذة من الكتاب المقدس والحياة الرهبانية يميز الكنائس المصرية عن غيرها من الكنائس المسيحية.
تعود النماذج الأولي التي عثر عليها للكنائس المصرية إلى القرنين الرابع والخامس الميلاديين، والتي تقع بمنطقتي القلالي ووادي النطرون. وتكشف الحفائر فيهما عن وجود أبنية تتكون من حجرة واحدة بها هياكل تقع في أقصي الشرق منها، تضم صفين من الأعمدة على هيئة ممرات في صحن الكنيسة الصغير الذي غالبا ما يكون الدخول إليه من جهة الجنوب.
في القرن الخامس الميلادي، بنيت كنائس جديدة لتساير في غالبها ما عرف بالطراز البازيليكي المسيحي، فاستعان مهندسو المعمار في بنائها بنماذج رومانية مدنية ومعمارية عامة؛ لإضفاء مزيد من المساحة على المكان، ويتنوع شكل الهيكل ما بين “النموذج الروماني” ذي المساحة النصف دائرية، و”الهيكل المربع”.
مع تنامي المجتمعات الرهبانية في القرنين السادس والسابع الميلاديين؛ تنامي عدد الكنائس واتسمت الجديدة بالاتساع وطول صفوف الأعمدة التي تحولت إلى ممرات تحيط بصحن الكنيسة، الذي ازدادت مساحته أيضا كانعكاس لتزايد أعداد المصلين.
ومن أبرز كنائس تلك المرحلة في صعيد مصر؛ كنيسة القديس مرقريوس “أبو سيفين”، التي بلغ عرضها خمس ساحات وطولها ثلاث حجرات، يضم الجزء الشرقي منها ثلاثة هياكل شبه مستديرة محاطة بحجرتين مستطيلتين وساحتين أمام كل هيكل وحجرة. بينما الحجرة الشمالية الجانبية والساحتان الشماليتان لا وجود لهما، لأن كنيسة حديثة بنيت مكانهما، والأعمدة والعقود والقباب مبنية من الطوب المحروق المطلي باللون الأحمر الداكن على هيئة صلبان.
شهد القرن السابع الميلادي تحولا مهما في الشكل الداخلي للكنائس القبطية، فعلي الرغم من الاحتفاظ بالشكل البازيليكي؛ إلا أن استحداث “الخورس” في معمار الكنيسة أدي إلى مزيد من الفصل الفعلي بين الشعب ورجال الدين، وهو عبارة عن حائط يحجب الهيكل عن النظر وبه مدخل واحد، وقد تم إحداث فتحات في الحائط – فيما بعد – ببعض النماذج، لعمل مدخلين آخرين يفضيان إلى الحجرات الجانبية التي تعد جزءا من الهيكل الثلاثي.
في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين ــ حيث العصر الفاطمي ــ تحول معمار الكنائس المصرية من الطراز البازيليكي إلى التصميم الثماني أو المستطيل للقبة، والذي قد يرجع إلى تفضيل مصر بأكملها للأبنية ذات الأسقف المقببة بدلا من الخشبية، فقد كان استخدام الطمي والطوب المحروق الأكثر توافرا بمراحل كبيرة عن الأخشاب.
يظهر تصميم القبة المستطيلة بشكل كبير في المجمع الرهباني لدير الأنبا هدرا بمدينة أسوان، وكنيسته التي بنيت في القرن الحادي عشر الميلادي بها خورس يصل الهيكل بساحتين مقببتين أصغر حجما يتكون منهما صحن الكنيسة، كما يظهر ــ أيضا ــ في كنيسة الأنبا أنطونيوس بديره بمنطقة البحر الأحمر، وبها هيكل ثلاثي وخورس وساحتان مقببتان يتكون منهما الصحن، لكنها تنفرد باحتوائها على مجموعة مؤرخة مرسومة بيد الرسام ثودور ما بين عامي 1232 و1233.
بينما تظهر القبة الثمانية بوضوح في كنائس مدينة أخميم، التي يتجلي ميل المسيحيين لها في نهاية العصور الوسطي، حيث تمثل تلك الحقبة المرحلة الأخيرة لاستخدام الخورس؛ الذي نادرا ما يحتفظ بزينته، ولكن خورس كنيسة العذراء بدير السريان يمثل استثناءً، حيث احتفظ بعدة طبقات من الرسومات، فرُسم بالجزء السفلي منه تقليد للوحات حجرية وإطارات زخرفية تعلوها صور من القرن الثامن الميلادي لبطاركة وقديسين.
وفي القرون الحديثة ــ خاصة التاسع عشر والعشرين ــ تطور الفن المعماري الكنائسي، وتنوعت نقوش الجدران وزينة الكنائس، ففي 1819م وضع حجر الأساس لكنيسة القديس مرقس بالإسكندرية، التي تميل إلى الطراز اليوناني في رسوماتها، وتم تزويدها خلال العقود الأخير من القرن الماضي؛ بأجراس جديدة من إيطاليا.
في الإسكندرية، تقع واحدة من أجمل كنائس مصر “القديسة كاترين”، والتي يثير سقفها الإعجاب بمجرد دخولها، فهو مرصع بإطارات دائرية كبيرة بها بورتريهات للقديسين كيرلس وأنطونيوس وأثناسيوس، إلي جانب صور الإنجليين الأربعة، وتمثال للقديس فرانسيس الأسيزي محاطا بتمثالي الملك لويس التاسع والقديسة أليصابات، ويزين المنبر الخشبي مشاهد منحوتة تصور حياة القديسة كاترين السكندرية واستشهادها.
بدت الكنائس المصرية منبثقة من بيئتها سواء كانت صحراوية أو ريفية أو حضرية، فبرزت بعمق ودقة تفاصيلها التي تعكس ذلك، وتجلي في المواد التي استخدمت في تشييدها وتشكيل الرسوم والزخارف فيها، ما بين الأحجار في مناطق والطين في مناطق أخري، ومواد البناء الحديثة في غيرها، بل وامتد ــ أيضا ــ إلى طبيعة الألوان المستخدمة التي كونت مع المكان مشهدا خلابا، بزوايا رؤية تشبه المعابد الفرعونية، كما يمكن التفريق بين مذاهب المسيحية المختلفة من خلال بعض المظاهر الواضحة إلى حد ما، مثل أشكال الصليب التي يفضلها كل مذهب، وكذلك الصور والتماثيل، فنجد منهم من يحبذ صورة العذراء وهي تحمل المسيح رضيعا، والبعض الآخر أقرب إليه المسيح وهو مصلوب، وغيرهم يتوق لهم رسمه وهو شابا مهندما في كامل زينته.
علي الرغم من اختلاف المواد الفنية المستخدمة على مر العصور والتغيرات التي طرأت على الشكل واختيار الموضوعات بفعل التأثيرات والتفاعلات داخل الوسط الفني، بقيت الأفكار التي تقوم عليها زينة الكنيسة كما هي حتى اليوم، فتبرز الموضوعات المختارة؛ المعني الرمزي للبناء ووظيفته.
* أخبار الأدب.