«مقبرة براغ».. ألغاز أمبرتو إيكو وعوالمه السرية


*سلمان عز الدين


تخيل أنك تستمع لشخص مهذار يكره النساء، كما يكره ثلاثة أرباع الشعوب الموجودة في العالم، كالألمان والفرنسيين والإيطاليين واليهود والروس…، وفوق ذلك فهو مزور محترف، وجاسوس لصالح ثلاثة أو أربعة أجهزة استخبارات مختلفة، وإذا ما لزم الأمر فهو يقتل بيديه دون أدنى رجفة أو إحساس بالذنب. والمجال الوحيد الذي يحب التحدث فيه، إلى جانب تفاخره بنقائصه وأعماله الشائنة، هو الطعام.

أي عمل شاق سيكون الاستماع إليه؟ وماذا إذا كان هذا الشخص هو الراوي الوحيد والبطل الرئيسي لرواية من خمسمئة صفحة؟، أي رواية معذبة ستكون هذه؟
هذا هو التحدي الذي خاضه الكاتب الإيطالي امبرتو إيكو في روايته «مقبرة براغ». فالراوي البطل، سيمون سيمونيني، ينطوي على كل المثالب السابقة، وهو لا يتوانى طوال الرواية عن التبجح بآرائه العنصرية وازدرائه للعواطف والقيم الإنسانية، كما أنه لا يكف عن «التفلسف» مطلقاً، أحكامه مسبقة، ونظرياته ساذجة، وتحليلاته وسواسية للتاريخ وللأحداث الجارية من حوله.
ولد سيمونيني في تورينو (ثلاثينات القرن التاسع عشر)، وترعرع في ظل مملكة البيمونت التي كانت تتهيأ لتوحيد إيطاليا، وبفضل مهنته كموثق للعقود فقد احترف التزييف والتزوير، مع كل ما يتطلبه ذلك من قدرة على الاختلاق والتقليد المتقن للخطوط وللأساليب، الشيء الذي جعله هدفاً مثالياً للمخابرات الإيطالية فاستأجرته من أجل اختلاق وثائق عن مؤامرات مزعومة تحاك ضد ملك البيمونت. ثم ترقى المزور فصار يد المخابرات في تشويه سمعة خصومها بل وفي تصفية بعضهم جسدياً. ولأن سيمونيني أفرط بالتلذذ في إنجاز مهامه فقد تجاوز الخطوط المسموح بها وغدا عبئاً على مشغليه، فنفوه إلى باريس.
كانت باريس مسرحاً لكثير من أجهزة المخابرات العالمية، وإذا كان بطل الرواية قد وضع نفسه في خدمة مخابرات لويس بونابرت (نابليون الثالث) أساساً، فإنه مع ذلك وجد الوقت والهمة ليقدم خدماته لكل من المخابرات الألمانية والروسية أيضاً.. كان يشترك في دسائس الجميع ضد الجميع، وبضاعته في كل ذلك هي مؤامرات يؤلفها بنفسه ويبيعها لمن يحتاج إليها. 
بمثل هذا البطل المنفر يقابل إيكو قراءه، وبالفعل فإن الصفحات الأولى من الرواية تطرح على القارئ مهمة ثقيلة ويصبح «الانصراف» خياراً مطروحاً، غير أن «سحر» إيكو سرعان ما يبدأ بالعمل، لتجد نفسك مشدوداً إلى هذه العوالم الخفية، ومسحوراً بهذا الكشف الفريد للعالم السفلي من السياسة، وبالتأكيد كنت ستشعر بالندم لو لم تقابل هؤلاء الشخوص من صناع التاريخ الزائف، لاسيما وأن بعضاً من نسلهم لا يزالون موجودين بيننا، يقدمون للسذج منا مادة مغذية للخرافة ومسكّنة للشعور بالعجز..
وسط شتات الأحداث الكثيفة، التي تمتد لأكثر من نصف قرن، فإن «نظرية» المؤامرة تبقى المحور الأساسي وبؤرة اهتمام الكاتب، وإيكو لا يوفر جهداً في دحض هذه «النظرية» بأسلوب ذكي وغير مباشر، ففيما بطله يحاول عبثاً العثور على خيوط المؤامرة الكونية، فإنه في الواقع يقوم باختلاقها بنفسه، ليتبين أن المؤامرة الأزلية الأبدية، التي تحيكها قوى فوق بشرية وتُسّير بها الكون، هي في الواقع مادة مسلية لأجهزة المخابرات، تشتريها أو تختلقها لخدمة مصالح سياسية معينة..
في الجزء الأخير من الرواية تظهر «بروتوكولات حكماء صهيون»، كثمرة لإحدى الألاعيب غير المتقنة لأجهزة المخابرات الأوربية. ونتذكر كيف غدت هذه «البروتوكولات» واحدة من الحقائق السياسية التاريخية الراسخة في عالمنا العربي، فأصابت بعضنا بالذعر وبعضنا الآخر باليأس.
ما يضفي على «مقبرة براغ» طرافة خاصة هو أن التاريخ فيها ليس مجرد خلفية أو إطار عام، بل إنه مادة الرواية ومصدر أحداثها وشخوصها وحبكتها. معظم الأحداث التي تتناولها الرواية حدثت بالفعل، وكل الشخصيات حقيقية تاريخية. وحده سيمونيني شخصية مختلقة، وقد جاء ليشكل صلة وصل بين الشخوص والمواقع والأحداث، كما جاء ليكون أداة المؤلف في استنطاق خفايا التاريخ وتفسير مواقف الشخصيات وتوجيه دفة الرواية إلى غاياتها ومقاصدها..
هكذا وبينما سيمونيني يجلس في مقهى باريسي وإذا بسيغموند فرويد يدخل ويجلس إلى طاولته ليحدثه عن هواجسه العلمية ورأيه بالتنويم المغناطيسي، ويطلعه على بذور نظريته في التحليل النفسي، وكذلك فسيمونيني يرافق الثائر الإيطالي الشهير غاريبالدي في غزوه لصقيلية، كما يركب السفينة نفسها مع الكاتب الفرنسي الشهير اسكندر دوماس..
لقد ظُلمت «مقبرة براغ»، مثل غيرها من روايات ايكو، بمقارنتها بباكورته الروائية «اسم الوردة»، والواقع أننا، هنا، أمام موضوع مختلف وأجواء مغايرة ومقاصد وشواغل أخرى، مما يجعل المقارنة عملاً غير وجيه وغير ذي معنى. وبعيداً عن ظل «اسم الوردة» ف «مقبرة براغ» رواية متميزة تعكس موهبة إيكو الأدبية وثقافته التاريخية الواسعة ونظرته العميقة للحياة.
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *