صنمية الشكل عند العرب


عدنان الصباح


خاص ( ثقافات )

يعيش العالم العربي ونحن في فلسطين جزء منه، حالة من التقديس الصنمي للأطر والأشكال بعيداً عن أي تمحيص وقراءة، وتصبح الأشكال في حياتنا هي الأطر الساجنة لسلوكنا بدون رغبة أحياناً ولا استعداد للخروج من تقييداتها ولا حتى محاولة السعي لتحقيق ذلك.

وبالتأكيد فإن ذلك يعود لنمطية راسخة الجذور تتحمل الثقافة العامة والرؤى المشتركة وآليات فهم الواقع والتعاطي معه أساس كامل المشكلة التي نعيشها، وتأتي المدرسة والبيت في المقدمة، ففي البيت يأخذ الأب شكل السلطة الأبوية المفروضة ومستحيلة التغيير والمناقشة على اعتبار أنه سيد البيت والمانح، وبالتالي فلا يجوز مناقشة المانح، فهو يصل أحياناً إلى زرع الاعتقاد لدى الأبناء أنه مانح الحياة فتنتشر بين أوساطنا مقولات أبوية ساذجة ولكن خبيئة في تأثيراتها البعيدة كان يقول الأب لأبنائه (لشو بزرتكم، لشو خلفتكم، كان يوم اسود يوم ما خلفتك)، وهذا يعني أنه هو الذي قرر إنجابه ومنحه الحياة وعليه إذن أن يعيش حياته طائعاً منفذاً لرغبات هذا الأب، فلا يجوز له أن يقوم بعمل لا يرضى عنه الأب، كأن يقول الأب مثلاً (هذا العمل بوطي راسي أو رأس العيلة أو يقلل من شأنه أو يحرجه أمام العشيرة أو العشائر الأخرى أو المجتمع المحلي أو أمام الآخرين)، وفي كل ذلك لا يكون الرأي مبنياً على ما إذا كان هذا العمل صحيحاً في جوهره أم لا، وإنما المهم هو شكل العمل أو إطاره الخارجي إذا كان مقبولاً اجتماعياً أو لا؟ وهنا يصبح الاهتمام منصباً أصلاً على الشكل ويغيب المضمون كلياً ويصبح الإبداع ليس في صياغة مضمون أنجح أو إنجاز أعظم، بل في خلق حالة التورية والتغليف التي تقدم شكلاً مقبولاً بغض النظر عن المضمون الذي لن يهتم به أحد.
في الأسرة أنت ملزم بالحفاظ على الشكل الخارجي لها، فافعل ما شئت إذن دون الاقتراب من هيبة الأسرة أو شكلها الخارجي أمام الناس، اقترف كل الموبقات بالسر فهي لا تضر بشكل الأسرة واسمها كإطار ولا ضرر في مضمون سلوكك إذا لم يطل المظهر، وهذا ينسحب أيضاً على مقولة الشرف في الأسرة العربية، فالفتاة تقتل إن فقدت غشاء بكارتها وحملت بجنين لا يمكن توريته أو التخلص منه، وبالتالي فالفضيحة قادمة ولا أحد يهتم أبداً بالطرف الآخر الصانع لهذه الجريمة، وهو الرجل الذي لا يتغير عليه شيء شكلاً، فهو إذن لا يفقد مكانته في المجتمع ولا يدفع حياته ثمناً لهذا السلوك المشين، وتصبح المرأة هنا ضحية مرتين، والسبب لذلك هو الشكل والتورية الممكنة وغير الممكنة، وقد تمكنت الصين أخيراً من اختراع غشاء بكارة صناعي، كما أن عمليات ترميم غشاء البكارة قائمة منذ أمد وعمليات التحايل البدائية كثيرة في القصص والحكايات الشعبية، وهذا يؤشر إلى أهمية الحفاظ على الشكل دون الاهتمام بالجوهر فتقاس الفتاة بشرفها من سلامة غشاء بكارتها حتى لو كان صناعياً أو مرمماً أو أثبت بالاحتيال.
على هذه القاعدة نصل إلى المدرسة أيضاً، والتي تقوم على مبدأ التلقين والحفظ والترديد، فعليك أن تكون نسخة مكررة للكتاب والمعلم، وأن تحفظ وتكرر ما أمرت به حتى لو كان غير مطابق للواقع كأن تقرأ في كتاب كتب قبل مائة عام ولا تستطيع مناقشة المستحدثات في الأمر.
شكل القصيدة وثوابت الإعراب والقواعد التي نتقنها حتى دون إدراك لماهيتها ولا مصدرها ولا مبرر وجودها فنحن ملزمون بمواصلة التعليم 12 سنة في المدرسة و4 سنوات كحد أدنى في الجامعة ونحقق النجاح بحفظ النص المقدس شكلاً دون الاكتراث بأهمية إدراك مضمونه عبر البحث والتقصي والاستكشاف.
يقول ابن خلدون في مقدمته الطبعة الخامسة 1984م دار القلم بيروت صفحات 553 و554 (إن وجه التلقين المفيد إنما يكون بالتدريج واستعداد المتعلم لفهم المعلومة. وذكر أوجه الخلاف في المسائل وتقريب المعلومة بالأمثلة الحسية). وضرب ابن خلدون مثلاً بالشخص الذي يتقن مهنة ما نظرياً في حين لا يملك أية دراية عملية بها، فهو قطعاً لا يمكنه ممارستها وإن فعل سيفشل بالتأكيد، وبالتالي فإن النمطية الشكلية المقدسة في المدرسة العربية تخرج لنا أجيالاً مورس معها:
1- التلقين النصي بما يوشك أن يصل حد جعل النص المكتوب نصاً مقدساً بغض النظر عن مضمونه ولا عن الجهة التي كتبته ولا الأهداف التي كتب من أجلها.
2- انعدام التبادلية في العملية التعليمية، فنحن أمام متلقٍّ ومرسل لا يتغير موقعهما أبداً، فلا يمكن للمتلقي أن يفكر ولا يمكن للمرسل أن يقبل التلقي أو النقاش ويبقى الشكل النموذج كإطار مقدس هو الأساس في سائر مراحل العملية التعليمية.
3- معايير قياس شكلية تلغي دور المبدع وتمكن دور الأكثر قدرة على قبول التلقين والاحتفاظ به حتى تفريغه في ورقة الامتحان ليحوز على أعلى الدرجات ويبقى التلميذ الذي راح إلى جهة التجريب والبحث والمعرفة متخلفاً وبعيداً عن التقدم لنصل في النتيجة إلى أن المتلقي الصامت تحول إلى مرسل أكثر صمتاً لجيل جديد وغاب عن المسرح التلميذ المبدع الراغب في التجريب والتنقيب والمعرفة الحقيقية على قاعدة ما تقدم تدفع لنا مقاعد الدراسة في العالم العربي بأرتال من المتخلفين من حملة الشهادات، والذين سيكونون أكثر حرصاً ممن سبقهم على النمطية الشكلية لأنهم الأكثر قدرة ومصلحة في ترسيخها والاستفادة منها والأبعد عن فكرة الإبداع التي يخافونها لأنها ستكشف عجزهم.
هذا النموذج يندرج تحت إطاره كل مضامين حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فنحن عبدة ضعفاء للسلعة المعروفة والرائجة والمجربة، والتي لا تأتي عادة من قبلنا، بل من قبل الآخرين وبذا نجد أن العالم قدم أمثلة ناجحة في الإنجازات الاقتصادية الحقيقة التي صنعت ثروات الأمم في حين ظل العربي يلهث خلف الثروات الطبيعية كوسيلة وحيدة ممكنة لتطوير وجوده، فهو من الرعي الذي اعتمد على العشب والماء الطبيعيين تمكن من الوصول بالصدفة أيضاً إلى النفط الذي يتغنى به كل العرب من المحيط إلى الخليج علماً بأن العرب ليسوا أكثر الأمم إنتاجاً له وإن كانوا أكثر الأمم تسويقاً له عبر غيرهم وليس غريباً إذن أننا نصدر المواد الخام الطبيعية للغرب لنحصل منهم على السلع الاستهلاكية المصنعة، فلا دور لنا هنا سوى دور الوسيط حتى بين الطبيعة والصانع.
بمعادلة بسيطة فإن شركة كوكاكولا تخدم ما معدله تقريباً 2 مليار شخص يومياً، وهذا يعني مبيعات لا تقل أيضاً عن 2 مليار دولار يومياً، بينما تبيع السعودية ما قيمته مليار دولار يومياً من النفط الذي يشكل 90% من الدخل القومي للسعودية في حين لا تشكل كوكاكولا أي نسبة تذكر من الدخل القومي الأمريكي، ولا مجال هنا لتعداد الأصناف والأنواع التي تصدرها لنا الدول الصناعية بما فيها مأكولاتهم من مكدونالد وكنتاكي وبيتزا وما شابه عدا عن الإلكترونيات والملابس والسيارات وما إلى ذلك ناهيك عن ما هو أخطر من أرقام فلكية لتجارة السلاح في العالم في حين نصر نحن على الاحتفاظ بدور المستهلك الذي لا زال يتغنى بأيام الرعاة الأوائل، ويعلن تفوقه على الأمم كذباً على قاعدة إيمانه بشكل وجوده وأهميته النابعة من رضا أخرق عن الذات وعدم رغبة بالاعتراف بمتغيرات الكون.
اعتاد العربي على التمترس خلف الشكل أكان هذا الشكل نصاً أو شخصاً أو قبيلة وانتقل إلى مستحدثات شكلية أيضاً طالت الحزب والقطر والقرية أو المدينة وحتى الحي أو الشارع، فكلما اقتربت من ذاته الفردية وتجلياتها شكلاً زاد تمترسه خلف هذه التجليات الشكلية ورفضه حتى التفكير بمكانتها أو أهميتها سلباً أو إيجاباً.
انتماءات شكلية:
ينتمي العربي لذاته، فهو إما أن يعرف نفسه بعشيرته أو مدينته أو ناحيته أو صلته بالعمل، فهو في العادة يقدم توصيفه لذاته قبل كل شيء إما مدني أو فلاح أو بدوي وتصل علاقته بصفاته هذه حد القداسة وقاعدة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فلو أنت سألت فلاحاً فلسطينياً مثلاً عن أفضلية الفلاح على سواه لأكد لك ذلك بما لا يترك مجالاً حتى للتفكير، وكذا فيما يخص سكان المدن، ولو انتقلت معه إلى بلدته لأصبح حيه أفضل حي، وفي الحي تصبح عشيرته أفضل من الجميع ويحارب حربها بدون تفكير، وهو حريص أبداً على إيجاد عدو داخلي لينتصر عليه خصوصاً إن لم يتمكن من الانتصار على العدو الخارجي فيسعى لإثبات قدراته في مقارعة العدو الأقرب أو الأسهل.
أنظمة قبلية في السياسة:
تسود ظاهرة الثأر والانتقام في الخطاب السياسي الفلسطيني مثلاً حتى لا يكاد يخلو بيان أو نداء من مثل هذه التعبيرات، ويمكن القول إن السمة العامة للبيانات الخاصة بالنعي للشهداء باتت كليشيهات جاهزة عن الثأر والانتقام لدرجة أن الحديث عن الثأر للشهيد يغطي على القضية التي استشهد في سبيلها الشهيد نفسه، وبالتأكيد فإن مصدر مثل هذه التعبيرات والمفردات هي تعبير عن الروح القبلية المزروعة في ذواتنا.
صنمية الحزب … القبيلة:
هناك موقفان في رؤية نتائج الأحداث الكبيرة لدى الأمم وعلاقة الشخوص بها فبعض الأمم مثلاً ترى أن القائد المنتصر بالحرب لا يجوز أن يحكم لأنه سيعتمد على انتصاره في الحكم لا على إنجازاته القادمة ويعتمد على هالته لا على فعله بينما ترى أمماً أخرى العكس وأن من حق المنتصر أن ينعم بانتصاره.
لكن الأسوأ من الحالتين أن العرب فقط هم من يتمسكون بالمهزوم شخصاً وأداة ويبررون له ويحولونه إلى بطل رغم الهزيمة البشعة التي أتى بها ويسوقون تبريرات من قبيل أن من حوله هم السبب، أو أن تطبيق الشكل أو الوسيلة هو السبب، فقد هزم العرب في 1967م وكان عبد الناصر يرغب بتقديم المثل في تحمل المسؤولية حين رفض الشارع والمؤسسة رؤيته وأرغموه على البقاء، وكذا حصل مع الفصائل الفلسطينية وقيادتها التي قدمت نماذج هزائم وفشل في سبتمبر 1970 في الأردن وفي لبنان وفي أوسلو وفي المفاوضات فيما بعد، وفي حين يدور الحديث بشكل ناقم وعلني على كل نتائج الفشل هذه إلا أن الجميع تقريباً يصمت حين تصل إلى قبيلته أو حزبه أو شيخه.
تقديس الوسيلة:
استخدمت الفصائل الفلسطينية وسائل كفاحية مستوحاة من تجارب شعوب أخرى وحاولت أخذها كما هي دون تمحيص أو تعديل أو محاولة للمقاربة حتى، فنقلنا تجارب مثل فيتنام وكوبا والجزائر، وأصر الجميع على أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد، أو الرئيس لتحرير فلسطين، ورغم أن ذلك لم يحدث على الأرض وأن غالبية هذه الفصائل الآن تستخدم المفاوضات وسيلة لتحقيق غاياتها فإنها تصر وحتى اللحظة على ترك الشعار قائماً وترفض مناقشته علناً حتى لو لغاية تثبيته أو تطويره أو العودة إليه، فلا هي تريد أن تعود إليه، ولا هي مستعدة لنقد ذاتها أو البحث عن بدائل فقط تتنافس هذه الفصائل في مباهاة بعضها في وسائل العمل دون تمحيص، فنحن نذهب مثلاً إلى العمليات الفدائية بنظام اضرب واهرب، ثم إلى عمليات أخذ الرهائن، ثم إلى العمليات الاستشهادية، وأخيراً إلى نموذج انتفاضة السكاكين، وهكذا أطلقنا على الانتفاضة اسمها وصبغناها بصبغة، وأعطيناها صورتها لمجرد أن هناك حدثاً أو أكثر نفذا بشكل عفوي ومن بطولات فردية لا علاقة لهذه الفصائل بها لا من قريب ولا من بعيد ويعمل المبدعون من شعراء وكتاب وفنانين ومعهم وسائل الإعلام الحديثة إلى تكريس هذا التقديس عبر إبداعاتهم، والتي تنتقل تدريجياً من القبيلة إلى الزعيم شيخ القبيلة بحيث لا يجوز مناقشته أو معارضته أو حتى التفكير فيما يقول لغايات النقد، فأنت مسموح لك فقط التأييد وحشد المبررات للدفاع عن الزعيم وما يقوله الزعيم أو شيخ القبيلة الحديث، وفي أحسن الأحوال فإن من حقك أن تشتم وتقول ما تشاء بحق القبيلة الأخرى أو الشيخ الآخر لكن شيخنا أو قبيلتنا (وكل له شيخه وقبيلته طبعاً) مقدسان.
دور المثقفين العرب:
يستسهل المثقف العربي العودة إلى أمجاد التاريخ ونبشها وتقديمها كإثبات على أفضلية العرب على غيرهم، والمصيبة أنه يعتمد على ما هو ماضوي ليثبت ما هو حالي بدون أساس حي يجوز تقديمه كنموذج إثبات من واقع الحال، وبدل أن يستخدم المثقفون العرب الحالة الماضوية لاستنهاض الحديث يستخدمونها كأداة للرضا عن الذات في مقابل الآخر بدون أساس عملي، مما يجعل الآخر، وهو هنا الغربي إن جاز التعبير يواصل تقدمه بما يوسع الفجوة بيننا وبينه كلما امتد الزمن أكثر ويكرسنا كأمة مستهلكة للسلع وما ينتج عن هذه السلع من فكر وسلوك.
إن مواصلة الاستهلاك الماضوي الممجوج للتاريخ لجانب تمجيد الذات لغة وقصائد وأنماط شكلية لا طائل منها لن يمنع صاحبه فقط من الانخراط في الفعل الإنساني وتجلياته وتطوراته كصانع للحضارة الإنسانية القادمة فقط، بل سيكرس في الوقت ذاته حالة التخلف والنكوص إلى الوراء واتساع الهوة القائمة بينه وبين ما تصل إليه الإنسانية بفعلها الحي على الأرض يومياً وليس أبعد، ويتحمل المثقفون والمبدعون في الأمة المسؤولية الأولى إن لم يبادروا إلى إطلاق حراك فكري ناقد وفاعل لغاية التقدم إلى الأمام والانحلال من قيود الرضا الغبي عن الذات القديمة واستحضارها الدائم للتمترس خلفها أمام تقدم البشرية ونجاحاتها.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *