الهولوكوست … وجائزة الأوسكار: مرويات المنع والتكريس… تأملات في الخطاب السينمائي الصهيوني


*رامي أبو شهاب


ما انفكت الثّقافة الغربية تستعيد أزمنة الهولوكوست في معظم المنصات التعبيرية، ولاسيما الرواية والسينما وغيرها من الفنون، ومما يلاحظ أن الإسهامات الغربية في استعادة وتمثيل الهولوكوست تحضر من مختلف الجغرافيات الأوروبية، كما الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا. 
ثمة إسهامات عميقة لهذا التكوين الخطابي المتمركز حول الهولوكوست، انطلق مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فإن تناول هذا الموضوع لم ينجز بعد، ولم يتم الانتهاء منه، بل على العكس من ذلك، فهو ما زال في حالة خطابية مستمرة، ومن أجل بيان هذا النسق لا بد من الاستعانة ببعض الأرقام والإحصائيات السينمائية، إذ يلاحظ أن الثقافة الغربية أنتجت منذ عام 1946 إلى يومنا هذا مئات أو ربما آلاف الأفلام حول موضوع الهولوكوست، وعبر تحليل بسيط، يلاحظ أن عدد الأفلام المنتجة ما بين عامي 1960 ـ 1967 وصل إلى أكثر من اثني عشر فيلماً، في حين صدر ما بين عامي 1990- 1999 أكثر من ثلاثين فيلماً، وهكذا تنتج السينما العالمية في كل عقد عشرات الأفلام التي تستند إلى ثيمة الهولوكوست والمحرقة، ومما يلاحظ أن معظم تلك الأفلام تنتج من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وإيطاليا وألمانيا وكندا، وبولندا ويوغوسلافيا والمجر، وسويسرا وبلجيكا والتشيك، وغيرها.
إن هذا الكم الهائل من الأفلام من دون تتبع باقي المنصات التعبيرية الأخرى، يشي بهول، ومقدار التمركز، كما التمكن الخطابي لموضوع الهولوكوست، فضلاً عن مدى ما يتمتع به هذا المظهر الخطابي من قوة بهدف إحكام القبضة على الوعي الغربي، عبر تزويده بجرعات عالية، ومطّردة من مرويات وسرديات الهولوكوست، كل ما سبق بهدف تكريس الدولة العبرية، ولعل هذا يضعنا أمام تساؤلات حول الآلة الخطابية العربية، واستراتيجيتها، ولاسيما على مستوى الفنون والآداب، حيث تبدو ضئيلة التأثير، في حين أنها تنشط في ساحات الاقتتال الداخلي العربي العربي، واستهلاك السلاح. 
وليس هنالك أدل على الاحتفاء المبالغ فيه باستعادة المدونة والمروية الصهاينة حول الهولوكوست من حدث توزيع جوائز الأوسكار الثامن والثمانين، حيث حصل الفيلم المجري «ابن شاؤول»The son of the soul على جائزة أفضل فيلم أجنبي. 
يستعيد الفيلم قطاعاً إنسانياً من منظومة حكائية لا تنضب، وهي تنهض على استرجاع الفعل النازي والمحرقة، كما نموذج الضحية، وهذا يأتي ضمن قائمة طويلة من قوائم الأفلام التي عالجت الموضوع عينه، وحصلت على جائزة الأوسكار، ومنها الفيلم الأشهر «قائمة شندلر» لستيفن سبيلبيرغ، وغيرها من الأفلام. 
إن هوليوود بل العقل الغربي مسكون بهاجس الهولوكوست، وكأن الصهيونية تحاول أن تستثير الوعي العالمي لتذكيره بالمحرقة اليهودية، وتكريسها بوصفها حدثاً إنسانياً حزيناً لا يمكن أن يمحى، إنها أنظمة الخطاب الصهيوني القائم على أنساق التواتر، وتكريس الحكاية السينمائية في سياقها السيمولوجي، إنها تشكيلة خطابية تسبح في سديم الثقافات الكونية، وكلما بدا أن العالم قد تجاوز إحساس التعاطف، أو تبكيت الضمير، أو النسيان، لا بد أن تُنشّط أنساق الخطاب كي تعيد تمركزها مرة أخرى، وكي تتخذ حيزاً في الوعي الكوني، ولكنها لا تحضر مجردة أو جافة، إنما توضع ضمن سياق جمالي إنساني، مركزه المعاناة اليهودية، لا بوصفها إشكالية عرقية، إنما بوصفها معاناة الإنسان بتكوينه الشمولي الكوني، وهنا تمارس السينما نموذجاً خطابياً ينهض على تقييم المعرفة، ولكن بوعي سينمائي، إنها عاطفة تطفو فوق الحدود والتاريخ، لتتحول إلى سلطة الفن، كما سلطة المعرفة التي ناقشها ميشيل فوكو في كتابيه «إرادة المعرفة»، و»الجنون في العصر الكلاسيكي»، وهذا يحملنا بلا تردد إلى نتيجة قوامها أن الهولوكوست أضحى نموذجا أيقونياً، بل بؤرة خطابية تقود الوعي الغربي برمته، ولكن عبر تقديم الجوانب الإنسانية بهدف رفد الهولوكوست بأكبر قدر من الديمومة، التي تعني استراتيجية خطابية متقدمة، وهذا ما يتجلى عبر الفيلم المجري الذي يتحدث عن رجل يهودي يجبره النازيون على حرق عدد من جثث اليهود، وبينما يلقي الجثث إذ يلمح جثة طفل، ربما كان على قيد الحياة، ولكن الفعل قد انتهى، يصارع الرجل لإنقاذ الطفل، أو جثة الطفل من التشريح، والحرق لدفنها تبعاً للديانة اليهودية، هذا التصور ينضح برفض واضح لمعنى التلاشي للوجود اليهودي، وهنا تبرز عبقرية العمل، حيث تنتج العواطف بالتراصف مع إحساس شعوري ينهض على بعد قوامه الوجود بين الذات والموضوعية، كما يصف أحد النقاد السينمائيين، ولعل هذا النسق من التأسيس السينمائي على ما يبدو جاء موفقاً، ولكن لا بد أن نتريث قليلاً، فماذا لو كان هذا الفعل قد تحقق على يد فلسطيني طلب منه الجنود اليهود إحراق جثث فلسطينيين في مجزرة دير ياسين، لا بد أن المعادلة سوف تختلف، مع عدم الانتقاص من الأثر الفني للفيلم المجري، لا شك أن منظور المصوتين في الأكاديمية السينمائية سوف يتأثر بمنظور تاريخي- ثقافي حيث تقوم المحرقة بحجب الأوسكار عن الفيلم الفلسطيني، وهكذا يبقى الهولوكوست قيمة متعالية، لا يمكن أن تنال منها كافة الخطابات المضادة، لقد أحكم الهولوكوست ومعسكرات الأوشفيتز قبضتها، إذ باتت تمنع كافة المرويات الأخرى. 
إن المناقشة تحضر هنا لمعاينة أثر الموضوع اليهودي، وقدرته على الظهور والبروز، في حين يجب أن تتلاشى كافة مرويات الإبادة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، وغير ذلك من جرائم الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة، وأبرزها ما كان في الجزائر، وغيرها، كما أن ثمة محارق أخرى خاضها الغرب مع نفسه، وهنالك جريمة هيروشيما وناغازاكي، غير أن كافة تلك المحارق الكونية لم تحظ بالتقديس الثقافي، كما حظي موضوع الهولوكوست. 
إن الاحتفاء بالفيلم الهنغاري (ربما) لم يتحقق نتيجة الإتقان السينمائي فحسب، الذي ربما يكون حاضرا، أو متعيناً، ولكن ثمة شيئاً آخر يتحدد بالحضور الصهيوني في وعي الغرب. 
فأي حكاية على بساطتها، سوف تتحول إلى أيقونة إنسانية جمالية، ربما تتعالى على أي موضوع آخر، لا لشيء، إلا لكونها تتحدث عن اليهود والهولوكوست، وهنا تتجسد القيم البلاغية للخطابات التي تنتج بفعل مضمرات نفسية وثقافية وغيرها، إنه ذلك الإحساس الذي لا يمكن إلا أن يتشاركه البشر عبر التعاطف مع أي طفل ضائع، تائه، أو حين يتعرض للتعذيب، هذا ما نجحت الصهيونية بتكريسه في النظام الغربي، ووعيه الذي بدأ يتجه إلى أنسنة التاريخ اليهودي، على الرغم من القيم المادية المهيمنة. 
إن أنظمة الخطاب تتجه إلى تبني عدة استراتيجيات، منها أفعال الاستعادة والتكرار، ولكن عبر خلق منافذ للتعبير، لا تقتصر على نموذج واحد، فأوروبا والغرب يتناوبان على حمل الخطاب الصهيوني، والتعبير عن الهولوكوست؛ ولهذا تأتي الأفلام أو المرويات من مختلف القطاعات الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتتمثل الاستراتيجيات الأخرى بالابتعاد عن تكريس نموذج التضاد الخطابي، أو الهجوم، واللوم، إنما تسعى إلى تبني خطاب الغفران، كما أشار بول ريكور في تحليله لتداعيات الهولوكوست في الدرس الثقافي الغربي، ولهذا لا بد أن تسعى تلك الأعمال إلى التركيز على الضحية، وعذابات الإنسان بتكوينه الفردي في بعض الأحيان، ولعل كلمات العاملين على الفيلم لحظة التتويج، تعكس ذلك من خلال عبارة «في أقسى الظلمات لا بد أن نتميز بوصفنا بشراً». 
إنها اللحظات الإنسانية المفعمة والمغرقة بشاعرية اللغة السينمائية، ولعل الشاعر محمود درويش من الذين أدركوا هذا النهج حين لجأ إلى أنسنة الجلاد والضحية على حد سواء، بحثاً عن ديمومة اللغة، وهنا تبدو الخطابات أسيرة تضمين القيم الجمالية لتحقيق أفعال الانتشار والتأثير، وهنا تتقدم هذه الأعمال، ولكن بوصفها نماذج جمالية لا نماذج خطابية أيديولوجية جافة، أو مناسبات إعلامية عابرة، وهذا ما يعني أن ثمة وعياً بآلية إنتاج الخطابات، وتوزيعها كما استثمارها بهدف خلق مروية ممتدة، عصية على الاقتلاع، ومستمرة، وطبعاً أبدية التأثير، ولا مجال هنا للتوقف والتقاعس، فالصهيونية تعلم أن وجودها أسير الوعي الغربي، ولهذا فهي لا تنفك تحفر عميقا في هذا الوعي، واستثمار كل صغيرة وكبيرة من أجل صون دولة الكيان الصهيوني عبر استثمار خطابات الشتات والهولوكوست، والضحية اليهودية. 
لقد صحب حدث توزيع جوائز الأوسكار الأخير العديد من الإشكاليات، بدأ من طغيان العنصرية في الترشيح لبعض الفئات، بموازاة هيمنة من يحق لهم التصويت على الجوائز، ومعظمهم من البيض، مع استثناء الأعراق الأخرى، ولا سيما العناصر السينمائية التي تنتمي عرقياً إلى أفريقيا، حيث غُيبت عن الإسهام في الجوائز تلقيّاً وترشيحاً سنوات طويلة، وهو ما يؤثر بطريقة أو بأخرى على مصداقية هذه المؤسسة، ولكن ما يعنينا في هذا الحفل تحديداً، التمرس في محاولة إقصاء الفيلم الفلسطيني خاصة، والعربي عامة، وجعله لا مرئياً، فقبل سنوات مُنع فيلم المخرج إيليا سليمان «يد إلهية» من الترشح للجائزة لعدم وجود دولة فلسطين لتمثيل هذا الفيلم، وطبعاً ثمة تاريخ طويل من الإقصاء، حيث لم يفز أي فيلم فلسطيني أو عربي بأي جائزة من جوائز الأوسكار، وفي الحفل الذي أقيم مؤخراً، وعلى الرغم من وجود فيلمين عربيين مميزين، ونعني الفيلم الأردني «ذيب» المرشح عن فئة الأفلام الأجنبية، والفيلم الفلسطيني «السلام عليك يا مريم» عن فئة الأفلام القصيرة، وعلى الرغم من نيلهما جوائز عالمية، واستحسان النقاد والسينمائيين، ولكن حساسية الأوسكار ذات طابع مختلف، فثمة بنية عميقة في وعي هوليوود، تقوم على استبعاد أي محاولة عربية سينمائية، أو تحييد أي إسهام خطابي سينمائي مناصر للقضايا العربية، أو ربما تعبر عن منظور عربي خالص، ولو انتهج الصيغة الإنسانية المتعالية والمهادنة، في حين توجد قائمة طويلة من الأفلام التي حصلت على الجوائز لكونها تحدثت عن النازية، والمحرقة خاصة، والموضوع اليهودي عامة بغض النظر عن التقييم الفني، وهنا يلاحظ أن الموضوع، أو الأيديولوجيا هما المعيار، فلا عجب أن تتساءل إحدى الصحف الغربية الكبرى عن سر الرغبة المستمرة من صناع الأفلام لزيارة ثيمة موضوع الهولوكوست، وهذا ربما في ظني يعود لكونها الطريق الأقصر للحصول على جائزة عالمية، ما يعني أن ثمة تنشيطاً خطابياً في هذا المجال، وخلف كل ذلك منظومة مؤسساتية دولية تدعم هذه التوجهات، في حين أن السينما العربية، وكافة المنصات التعبيرية لا تتحقق إلا عبر إبداع أفراد يصنعون المعجزات، غير أنهم دوماً بلا إسناد إعلامي أو مالي أو خطابي مؤسساتي، ومن ذلك السينما الفلسطينية، كما الفيلم الأردني، وهنا تكمن إشكاليتنا الكبرى، فمعظم الإبداع ينتج بعيداً عن المؤسسة الرسمية، والسياقات الاجتماعية، كما الأكاديميات الرسمية، ولهذا لا يمكن أن تحضر خطاباتنا لكونها عديمة التأثير، فهي لا تستند إلى مؤسسة تنتج الخطاب، وتعيد توزيعه، كما يحدث مع الخطابات الصهيونية.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *