«الفردوس المحرّم» لـ يحيى القيسي.. مغامرة الشكل الروائي



*د.حكمت النوايسة


يحيى القيسي روائي اختطّ طريقه في الرواية بروايته الأولى «باب الحيرة»، ثمّ في الثانية «أبناء السماء»، ثمّ في الرواية التي بين يدينا «الفردوس المحرّم». 

وقارئ هذه الروايات سيجد معالم هذه الطريق التي تحاول بناء شكل روائي جديد، يتآلف فيه المبنى والمعنى في «الأثر»، وفي «النشيد» اللذين يبقيان بعد أن يغادر القارئ الكتاب، وهو نمط من الكتابة يراهن على قارئ نشط، كما يراهن على اشتراطات الزمن السريعة التي لا تحتمل الاستغراقات الوصفية المجانيّة.

وعندما أقول المجّانية فإنني ألمّح إلى أن الوصف الروائي فيه ما هو ضروري وفيه ما هو مجّاني، والرواية أو الطريقة التي يختطها القيسي تصف بقدر، ولا تتزيّد ولا تستغرق، رهاناً على تكملةٍ ما في عقل القارئ، وانسجاماً مع عالم نعيش فيه والمعرفة فيه متاحة للجميع، ولا يحتاج القارئ كثير عناء للوقوف على مقولات خطيرة كثيرة قد تنبّه إليها الرواية على الصعيد الاجتماعي أو العلمي، فالعالم الافتراضي قد وفّر للقارئ الذي يريد أن يعرف مفاتيح كثيرة، ومعرفة «فيها بركة» للمتعجل، من هنا، نرى انسجام الشكل الروائي الذي يختطه يحيى القيسي مع اشتراطات الزمن.

في روايته الثالثة «الفردوس المحرّم» ينحو القيسي نحواً جديداً في السرد، حيث يخفي الناظم الموضوعي (الحكائي) ويقتطع من الحياة بشقيها: الواقعي والتأمّلي، يقتطع مجتزآت تمتد في اختيارها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بمعنى من الأحلام العلمية الذاهبة لاكتشافات غير عاديّة، والتأمّلات الفلسفية/ الصوفية الذاهبة إلى البحث عن قوانين بديلة أو غير مكتشفة للواقع، أو عن تجاوز المرئي المحسوس من القوانين.. بين هذين الفضاءين يتحرّك بطل الرواية، وهو ناظمها، وهو الذي ينتخب ما ينقله لنا، وبين هذين الاختيارين سنجد مساحة الواقع الذي يلقي بظلاله على الأشياء، وإليه يحتكم الباحثون؛ إذ يشكّل منطلقاً للبحث عمّا هو خارج المدرك المتاح، وخارج المواضعات المستقرّة في تفسير كلّ شيء، وفي الرواية نفتح صفحات كاملة تلخّص هذا الواقع بجمل سريعة مكثّفة تعطينا شريطاً سينمائياً يمرّ أمامنا بوضوح، وتذكّرنا بما نعيشه تماماً كأننا ننساه، لأنّه هو المبتدأ والمفتتح الذي يجعل العقول النورانيّة تبحث، وتتأمّل الوجود الإنساني فتجد في كل ما هو متاح مناخاً لكل ما هو حاصل ويحصل، فتنطلق في مسار البحث، مستندة إلى ما أتيح لها من خبرات وميول؛ فالعالم يبحث في العلم ويحلم، والمتدين القلق يبحث في الروحانيات، ولكن هل من خلاص؟ أو هل يبحث البطل عن خلاص؟ 
هنا نحن أمام المفارقة الكبرى في الرواية، فالباحثون فيها لا يبحثون عن خلاص، ولا يريدون النهايات السهلة التي تريح دون أن تجترح حلاً لما هو قائم، من هنا يمكن الدخول المناسب لإحالة الضمائر والشخصيات إلى تأويل يناسبها، فالأبطال هنا يريدون الحياة، يريدون أن تستمر الحياة، يريدون أن تتبدّل المواضعات والقوانين التي تحكم حكمنا على الأشياء لتستمرّ الحياة.. من هنا هم لا ينشدون خلاصاً فرديّاً، وإنما ينشدون تنوير الجماعة/ الاجتماع من خلال تنوير الذات، ولا بأس في أن تستثمر الشخصيات ذاكرة الجماعة وتنير ما كان محسوباً على هذه الذاكرة وتخلّت عنه، سواء أكان في المقترحات العلميّة، أم كان في المقترحات الإشراقية الروحية، ومن هنا، أيضاً، يذهب الحالم الإشراقي إلى ابن عربي والحلاج وامتدادهما في أتباعهما؛ فالحياة مستمرّة، يموت الناس ومجترحو الاختلاف والتفكير المفارق، ولكنّ أفكارهم لا تموت، وكم من فكرة كان صاحبها في عهده وزمنه ومجتمعه مجنوناً، ولكنّ تلك الفكرة لا تني تُستأنف بوعي قد يكون أشمل من وعي صاحبها؛ فالأفكار لا تموت وتبقى حيّة مثل بذرة تنتظر الماء والشمس، إلى أن يُبعث لها من يحملها على محمل الجد. 

هكذا تستمر الحياة، ويستمر بحث الإنسان عن أسرارها، ففي المترسّب البعيد في هذه الرواية ذو القرنين وبحثه وتوصيف القرآن لهذا البحث كما ورد في سورة الكهف، إلى أن يصل إلى مطلع الشمس، وإلى يأجوج ومأجوج، وإلى الإشارات التي وردت في قصّة الكهف، وما زالت يلفّها الغموض، والتي اجتهد بعض العلماء في تفسيرها وفق معطيات العلم والمقترحات النظريّة لتفسير أسرار الكون/ الأرض، حيث وردت الإشارة إلى سبع أرضين في القرآن الكريم، في قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا» (الطلاق: 12)، وحديث الرسول: «من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين» والتفسير المنسوب إلى ابن عباس لما جاء في سورة الطلاق، وغيره من الإشارات التي ترى الأرض على غير ما هو دارج، وغير ما يراد له أن يبقى دارجاً. 
فهذه النصوص والأفكار لم تمت، ولن تموت، ولن نعدم من يعيد تركيز الضوء عليها، وهذا ما يتمّ في البحث في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وفي المواءمة بين تفسير القرآن الكريم والتطوّرات العلميّة المتعلقة بالاكتشافات التي تستهدف الخلق والطبيعة بمعطياتها المتنوّعة. وقد يطول الحديث لو تركناه منجرفاً في هذا المضمار، لكنّنا لا ننسى أنّنا نتحدّث عن رواية ينبغي أن يكون عالمها متخيّلاً، وأجواؤها وأصداؤها جزءاً من بناء تخييلي جديد، فلمَ الحديث في العلم والاكتشافات العلمية هنا؟

في رواية البحث لا يملك الناقد الذي يريد أن يضيء النص بجوانبه المتنوعة إلا أن يعود إلى المصادر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكي يكون على دراية، على أقلّ ما يكون، بما تتناوله الرواية في مرجعياتها سواء أكانت الاجتماعية أم العلمية، لأننا أمام رواية البحث والتأمّل، ولسنا أمام الرواية المحمولة على قصّة تحاكي مثيلة لها حدثت أو من الممكن أن تحدث في المستقبل.. 

نحن هنا أمام رواية تحاول تفسير جزء من النظام الكوني، ولكنّها لا تذهب في الشرح العلمي الدقيق بقدر ما تذهب إلى البحث عن القوانين التي تحكم هذا الكون من خلال وجهات نظر قد تتناقض، وقد تتصالح، ولكنّها تبقى رؤى «ممكنة»، والرواية والقصة القصيرة واقعة جماليّة، كما أعرّفها، ممكنة، ولعلّه من المفيد القول إنّ التنبؤات العلميّة وقائع ممكنة الحدوث، كما النصّ الروائي، أو القصصي أو حتّى الدراما الشعريّة، وقائع ممكنة الحدوث، وهذا لقاء مهاده العقل التخييلي، وثمّ مهاد آخر لهذا اللقاء، وهو أنّ التخييل ليس خلقاً من العدم، أي لا يمكن للخيال أن يجترح شيئاً لم يكن موجوداً بصورة أو أخرى، فالتخييل يستند إلى مرجعيّات معيشة أو عرفها المتخيِّل بصورة أو أخرى، والمتخيّل الأدبي/ الروائي عرف المجتمع وقوانين الاجتماع، وبناء عليه يبني عالمه الروائي، وكذا المتنبئ العلمي يكون قد عرف القوانين المعروفة، وبناء عليها يبني تنبؤاته الناقضة أو الموافقة لما عرف.

والحديث السابق أسوقه لكي لا يذهب من لم يقرأ الرواية بعيداً، واستمراراً لا بدّ من الحديث عن الحدث الروائي، لكي نبقى في إطار هذا الفن، ونتناوله بوصفه فنّاً، لا بوصفه حقائق علمية، فبطل الرواية الباحث عن التفسير المغاير يعيش بيننا، ويحمل في داخله قلقه، قلق الباحث لا قلق الوجودي، ومن هنا يقتطع لنا من حياته العاديّة بعض المحطّات لنبقى معه، في الأرض، وتبقى الرواية في الأرض، حيث نرى الراوي/ البطل، يعيش ما نعيش، ويكابد ما نكابد، في عالم لا يحكمه المنطق، ولا يقنع ما يدور فيه أحداً من ذوي البصيرة، ومن هذه الزاوية تنفتح الرواية على اليومي والسياسي معاً، لا بوصفها رواية سياسية، وإنما بوصف ما يدور في عالم السياسة والحروب هو أصداء لبعيدٍ لا نعرفه؛ ذلك أننا لا نعرف من يحكم هذا العالم، والسؤال هنا عن الذي يحكم العالم وليس عن الذي يسيّر الكون، والعالم المحكوم هو عالمنا، عالم الإنسان الذي نعرفه، ولكنّ الرواية تقول إنّ الإنسان الذي نعرفه ليس كلّ الإنسان، وإنما نحن نعرف بني آدم حسب، وهناك أنواع أو أصناف من الإنسان لا نعرفها، وقد وردت الإشارات إليها في أحاديث نُسبت إلى الخرافة، أو إلى خرافة، كما وردت إشارات إلى أرضين غير الأرض التي نعرفها.

شخصيّات الرواية تشاطر البطل/ السارد الرئيسي القلق نفسه، ولكنّها تعبّر عنه، وتعبّره برؤى متنوّعة، وقد تكون مختلفة، وفي ما يأتي استعراض لهذه الشخصيّات ومحاولة للوقوف على إمكانيّة تحققها من جانب، ومحاولة الوقوف على وجودها الفني/ الجمالي في العمل: 

الدكتور جمال.. صوت الواقع وصورته
يملك الأدوات العلميّة، لكنّه يوظف هذه الأدوات في صناعة الحلم/ حلم اليقظة، ويشدّ المعرفة التاريخية/ الآثاريّة إلى معاقل أحلام الباحثين عن الكنوز والدفائن من أجل الانطلاق في عالم الثراء البديل.
وما نراه هنا في شخصيّة الدكتور جمال ليس من جوع، وإنما من هوس، فهو يبني عالماً آخر عن دفائن الأولين، ويمزج العلمي التوثيقي التحقيقي كما في علم الآثار بالأحلام، ويتهيّأ له، أو يتخيّل عالماً مكمّلاً لما يقوم به، فيحمل الشيء ونقيضه معاً، أي يحمل هوس الباحث الآثاري، وأحلام من يسلبون الآثار، يؤمن بالبحث العلمي، كما يؤمن بأنّ كثيراً من الآثار محروسة بالجن والتعاويذ وهو حديث يتداوله مدمنو البحث عن الكنوز، ويتناوله الآخرون بوصفه خرافة، وهنا حوار بين البطل وهذه الشخصية: 
«قلت له: لو تسمع الجامعة التي تخرجت فيها أنك تؤمن بالجن، فمن المؤكد أنها ستعيد النظر في منحك شهادتها الأكاديمية.. ضحك طويلاً وقال: لو تدري من يبحث معي عن الدفائن لعرفت أن الأمر طامّة لا تستثني دكتوراً ولا سائق بلدوزر» (ص29). ونفهم من هذا، أيضا، أنّ الدكتور جمال يمثّل شريحة كبيرة وليست قليلة من المجتمع/ الناس، وجمال هذا سيحمل صوت الواقع في الرواية، وسيقول ما يقوله أبناء الوطن/ الأردن الكثيرون ممن يحسّون بالغبن وهم يؤمنون أنّ بلدهم مليء بالثروات والكنوز لكن أحداً لا يريد لهذا البلد أن يكون غنيّاً… كما إنّ هذا البلد «الفقيرط قد أصبح ملاذاً للاجئين من خمسين جنسية وإنّ الأولى أن يكون ملاذاً لأبنائه… هذا صوت الواقع الذي يمثله الدكتور جمال. ولنحاول أن نقرأ شخصية جمال فسنجدها:
دكتور: متعلم تعليماً عالياً.
متعلّم في الغرب: مطّلع على حياة وتجارب شعوب أخرى عياناً.
باحث: يؤمن بالحقائق والتجربة والعيان.
حالم: يلوذ بالحلم ويؤمن بالجن والقوى الأخرى التي تشارك الإنسان وتتدخّل في حياته.
وسيكون صوت السارد في رحلته الباحثة بين الواقع والتخيّل، والبحث عن القوى الغيبية، والبحث عن أرض أخرى، سواء أكانت شامبالا أم غيرها.
الحسيني.. أم إشراقة العلم؟
«وتذكّر دائماً أن الواقع نفسه هو بالتأكيد أشدّ غرابة من كل خيال، وقد لا يكاد يخطر على قلب بشر». هذا ما قاله ذلك الغامض المطّلع الذي يرسل برسائلة الإلكترونية إلى السارد، وهو امتداد لشخصيّة الحسيني في رواية «أبناء السماء»، ولكنّه هنا يعرف طريقه جيداً إلى السارد، ويراسله عبر «الإيميل»، ويزوّده بالمعارف التي يبحث عنها… إنّه إشراقة العلم/ المعرفة:
«كانت المعارف التي تصلني تسبب لي غبطة هائلة، وتهون أمامها كل اللذائذ الجسدية والمسرات الحسية، فهتك الحجب ومعاينة الأسرار، والاقتباس من الأنوار، شيء علوي باذخ ومدوخ، وينثال في الأعماق مثل مطر مغدق على أرض عطشى» (ص21).
وأمّا تلقّي السارد لرسائله، هذا التلقي الذي يحدّد نوع العلاقة بينهما (البطل والحسيني)، فسأقتبس هذا النص، وألمّح إلى علاقة الموحى إليه بالوحي:
«لم أعد أميز في ما كنت أكتب إن كان ذلك من رسائله التي كانت تهطل عليّ تباعاً، أو تتباعد بشكل يبعث على اليأس حتى أظنّ أحياناً أنّه نسيني، أو ربّما يتسرب الشك إليّ أنه لم يتصل بي أصلاً، وما جرى كان محض وهم، وقد تكون السطور التي أمامكم بعض ما هبط عليّ من الأفكار» (ص22).
وأما المعرفة التي يقدّمها الحسيني، فهي عن نظريّات تكاد تكون شغل خاصّة الخاصّة، كالعين الثالثة التي تعرّفها الرواية، والأرض، أو الأرضين الأخرى، ونظريّة الأرض المجوّفة. إنّنا أمام صوت العلم إذن، وصوت الاجتهادات المنسيّة، أو التي يُراد لها أن تُنسى، ولم تُنقَض أو تُقدَّم بدائل عنها بالأدوات نفسها، أي بالأدوات العلميّة.
باتي: صوت القوّة
يأتي هذا الصوت من أميركا، ليعلّم الناس كيفية تنشيط الحامض الأميني لكي يتسامى الإنسان ويرتقي فوق أبعاده أو الأبعاد المعروفة لديه، وسيكون التعليم للباحثين عن خروج روحي عمّا يكابدونه من قلق، ولكنّ تلاميذ باتي الأميركية سيكونون نخبة بالمعنى الحرفي، فهي تعقد جلساتها الخاصّة في أماكن خاصّة خلال زيارات خاصّة، كما سيكون كثير من تلامذتها من الأجانب أيضاً، إنها تأتي في النصّ بوصفها صوتاً تكميلياً، قد يشدّنا إلى أنّها تمثل قارة بعيدة، ودولة تتكئ على القوّة في كلّ شيء، فضلاً عن كونها تمثّل ثقافة لا يسود عنها إلا أنّها ثقافة السرعة في كلّ شيء، بدءاً من الطعام وانتهاء في تفسير الظواهر الإنسانية واقتراح الحلول المدمّرة لها، وأمّا المعرفة التي تقدّمها، فهي لا تبتعد كثيراً عمّا يمكن تفكيكه سيميائيّاً من كلمة «أميركي»؛ فهي تبحث في الحامض الأميني ومدى استنطاقه أو الكشف عنه ومدى القوة والقدرات التي سيتمكّن الإنسان منها، كأن يعود شاباً، أو أن يعيد تركيب أعضاء جديدة تلقائياً بعد بتر تلك الأعضاء..
أمل.. معادل للمرأة العربية
القصّة الحزينة، وسيمياء الاسم، وأسرارها التي لم يرد السارد سماعها، وهي انفتاحها على العالم الآخر، أو العوالم الأخرى والأجسام الأثيرية.. أمل روح المرأة التي دفنت نفسها بحثاً عن لقمة عيش ليس لها، وإنما لأسرتها… فهي معادل للمرأة العربية، رغم ما تحمله من طاقة المعرفة، والانفتاح، ولكنّها ستلبس الحجاب أو النقاب أو غيره، وستستجيب للواقع وتغادر في هذه الاستجابة، بما يعني أن تنهي الذات والكينونة الذاتية التي هي منطلق أيّ تسامٍ لصالح اشتراطات جماعيّة/ جمعية خارج هذه الذات تماماً، وتصبح وظيفة أكثر من كونها وجوداً.

السارد المركزي.. الأنا المتلبّسة
أنا ملتبسة، بين وقائعية سيريّة، وصياغة خياليّة، وأنا باحثة عن المعرفة بأدوات وأهداف جديدة، خارج إطار البحث عن التفسير، أو البحث عن الخلاص، وإنما البحث عن مستقرّ للبث المستريح إلى المعرفة، حيث نرى تنقّلات هذه الذات بين المعارف وانسحابها إلى التسامي الذاتي المفضي إلى بث الإشراقات والأسئلة، كأننا أمام الراوي المؤجّل، الراوي الذي يؤجّل سروده ويرينا أنّه يتدرّب على سرد مستقبلي مليء باليقين.
هي تقنية جديدة تماماً سيدركها الناقد المتأمل، فلا يقين في القرارة، وإنما تمرين على البحث عن ذلك اليقين.. تمرين يغادر منطقة الشكّ والإنكار، ويجعل من المشروع الاتّكاء على ما سبق، سواء أكان ذلك مدوّنات مقدّسة، أم تساميات فردانية مغادرةً مواضعات الجماعة، أم كان أحلاماً علميّة وصل بعضها لشيء، وفتح طريقاً أمام اكتشافات أخرى..

الواقع والإيهام
وجود الواقع في الرواية بمثابة إيهام، فهو موجود بوصفه غياباً، وغائب بوصفه أقرب إلى المحجوب بالقرب، لنا أن نراه تماماً استناداً إلى ما أظهره السرد كما هي الحال في حوار الدكتور جمال مع صديقه (ص25) عن الوطن والغربة، وما يدور في الوطن، حيث يضعنا السرد أمام مدوّنة منتزعة من الواقع المعيش، نسمعها في أي مكان في واقعنا العربي، وفي واقعنا الأردني بخاصّة، هذه المدوّنة يتنفّس فيها انشغال السارد بالحياة بمواضعاتها الأرضية: وطن، وسياسة، واقتصاد، وأحلام، ومتنفذون يصادرونها، ومعرفة دقيقة بكل ما يتوهم المتنفذون أنّه غير معروف، وتذمر من السياسات العامة.. إلى آخره..
هذا الواقع يتجاور مع واقع بديل، آخر، تشكله نخبة غير مؤتلفة في سياق/ جماعة، لكنّها تتفق بالخروج: البحث عن الذهب من أشكاله، والبحث عن المعرفة من أشكاله، والغوص في وجدانيات الذات من أشكاله… الدكتور جمال الباحث عن الذهب والمعرفة معها الملتبس بينهما، والسارد الناقل للحكاية الباحث عن المعرفة بين العلم والروحانيات، ومعلمة الروحانيات الباحثة عن القوّة الذاتية المعطّلة في الإنسان… والحسيني الباحث عمّن يريد أن يبوح له، أو يفضي إليه بما يعرف… كلّ هذا، ولكنّ الواقع البديل لم يستطع التماسك في مدوّنة معرفية واحدة، ولا بمرجعيّات واحدة، ولا بتطلّعات واحده… وسيكون مفكّكاً صورة عن الواقع الضاغط.
***
هناك، في البعيد القريب إذن، نرى إلى تماهي الشخصيّات في جانب من جوانب تشكّلها: باتي التي جاءها الفتح/ الكشف عبر إملاء/ وحي من قوى غامضة جعلتها تكتب كتابها «عودة أطلانطس»، وهنا إشارة إلى فيلم «عودة أطلانطس» المعروف الذي يتحدث عن عودة قارة إلى الوجود بعد انتصارها على القوى التي أخفتها… والبطل يأتيه رسائل إلكترونية أيضاً من صديقه الذي عرّفه بـ «أحمد الحسيني» امتداداً لشخصيات رواية «أبناء السماء» للمؤلف نفسه.. والدكتور جمال الذي يغادر المعرفة العلمية التي يمتلك مفاتيحها ليتلقى عن طيب خاطر وشغف أساطير وأراجيف يدرك أنّها ليست صحيحة، ولكنّه يحاول أن يوظف ما تعلّم ليجعل منه حقائق يصدّقها هو على الأقل… فهو يمثّل إدانة بصورة أو أخرى لواقع الأكاديمي.
المفاتيح
لماذا لم يكن الكشف عن طريق واحدة كأن تستمر الدورات للروحانية الأميركية باتي؟ ولم توزّعت المعرفة العلمية بين باتي والحسيني، وكان رصيد الحسيني أكبر من ذلك؟ هو سؤال نطرحه للمؤول… ستكون باتي عابرة، بينما الحسيني سيستمر في الرسائل والكشف…
سيجتمع المختلفون على مائدة السؤال، ويقترح كلّ منهم أداته:
– الأبعاد: البعد الرابع منطلَقاً للتسامي في الأبعاد غير المدركَة، ومحاولة الوصول إليها، أو تعرّفها، وهي حتماً لا تقود إلى أي شيء خاصّ بالواقع؛ ذلك أنّها مفاتيح لمغادرته تماماً، فمن يمتلك الكشف سيرتفع عن الواقع ومتطلباته، سيبتعد، وتصبح الأشياء التي يتنافس عليها المتنافسون غير مهمّة عنده، ويصبح غير معني بالكشف عن طرق للسعادة المنشودة بـ «وقائعية» المجتمع/ الفرد.
– العين الثالثة: عين في مقدّمة رأس الإنسان، اختفت وفق نظرية الإهمال والاستعمال، ولم يعد الإنسان الذي نعرفه يستعملها، ولو استطاع أن يستعملها لارتفع، وإن ارتفع سيغادر «هموم» الواقع ومهمّماته… سيكون الواقع الآخر، واقع القوة والسمو الكامن…
– شامبالا: المدينة السرية ذات الحضارة العميقة المخفية في جبال الهيمالايا:
من شامبالا نقف على وحدة الباعث على التفكير والتأمل، ففي رسالة الحسيني عن فيدوروف يقول: «وقال لي فيدوروف إن بني آدم الذين على سطح الأرض وننتمي إليهم هم آخر نسخة من الإنسان الذي وُجد كاملاً ثم تراجع وانحطّت قدراته، ووصل إلى الهوان الذي هو فيه الآن، وأنّهم كانوا أول الأمر في شامبالا، ثم تم إخراجهم منها لأنهم لم يعودوا يصلحون للعيش فيها بعد فساد عناصرهم، وتبدلاتهم، وضعف طاقتهم الروحية وانهيار منظومتهم الأخلاقية» (ص63).
***
«الفردوس المحرّم»، رواية بمواضعات الرواية، وبحث بمواضعات البحث، وبين هذا وذلك واقعة جماليّة، تتكئ على قدرة سرديّة لدى يحيى القيسي، وقدرة بحثيّة أيضاً، وهذا وذاك، سينتجان نصّاً روائيّاً لا يأتي من أول قراءة، ولا من ثاني قراءة.
إنّه سهل، وصعب.. سهل من حيث هو سرد ممتع، وصعب من حيث هو أسئلة، أسئلة في الشكل الروائي وإغراء السيرة الذاتية، وأسئلة من حيث المضمون/ الثيمة، ثيمة البحث التي ستقود إلى التشتت أكثر مما يتوقّع منها غواة البحث أنفسهم… كانت رواية «أبناء السماء» مفتاحاً لهذه الرواية، ولكنّ الرواية هنا غامرت أكثر بالشكل، وامتدّت أكثر في فتح آفاق جديدة لمصادر المعرفة، وصنعت شعرة متينة بين الروحاني والعلمي، بين أن تكون في الواقع وبين أن تكون خارجه، بين أن تنحاز إلى آلية خروجٍ ما وبين أن تتسامى لتتعرّف آليات أخرى، بين أن يفارق الإنسان وبين أن يندمج.. 
كلّ هذا سيتكئ على المغامرة الكبرى في الشكل التي جاءت موائمة له تماماً، إذ ليس لنا أن نبحث في الرواية عن البنية التقليدية للحكاية/ القصّة الحاملة، كما إنّه ليس لنا أن نبحث عن تشكيل العالم الروائي وفق البنى القصصية المتراكبة المتواشجة.. إننا أمام رواية مزجيّة، تراهن في عالمها على صنع الفراغات التي يتيحها تفكك ما تعالجه الرواية أصلاً: عدم تماسك الواقع، وعدم تماسك المدوّنة المفارقة له… ولكننا عندما نبحث عن صوت المؤلف متجاوزين المعرفة الشخصية بصاحب الرواية، فإننا سنجد الرواية منحازة إلى القيم الأخلاقية الحميدة التي لا تجرح المنظومات الفرعية المنظوية تحت هذا العنوان، وهنا، سنجدنا قادرين على الحكم بأنّ الرواية منحازة للإنساني العالي المتسامي عن التفريعات التي وُجدت للتعارف وليس للتقاتل، كما إنّها منحازة إلى الروحاني بالجملة، وتجد لها ما يسوّغ هذا الانحياز في المقدّسات التي لم تظهر على نقيض للعلم المخبّأ في الأرشيفيات، وفي تجارب العالمين.
_____
*ناقد وشاعر أردني 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *